التمثيل والأداء متعدد الوسائط(2)

التمثيل   والأداء متعدد الوسائط(2)

العدد 783 صدر بتاريخ 29أغسطس2022

   تحليل أفعال الأداء ( في الموقف متعدد الوسائط):   
 اقتراحي هنا هو أنه يمكننا نقل فكرة اليستروم عن الطرائق والنماذج من النظر في وسائط معينة إلى النظر في أفعال أداء معينة. وسوف أعود إلى الكيفية التي يمكن أن نفعل بها ذلك، ولكن يجب أولا أن أتناول السؤال السابق : لماذا نريد أن نفعل ذلك في المقام الأول ؟. 
 أحد الإجابات هي أنه من المفيد أن يكون لدينا نسق لتحليل الأداء الذي يمكن يستوعب مجموعة العروض التي تملأ المشهد الثقافي المعاصر. وهذا يتضمن التمثيل الذي يقوم علي الشخصية character-based acting  (سواء في السينما أو التليفزيون أو العروض باستخدام الإنترنت أو الإذاعة أو المسرح)؛ التمثيل الذي ينزلق بين تقديم الشخصية وتقديم الذات؛ وحضور المؤدين في سلسلة أوسع من الأحداث والمواقف والتركيبات؛ وأداء المغنين والفنانين الآخرين في أنواع متعددة من التقديم في الزمن الفعلي أو التقديم المسجل؛ وظهور الأفراد المشهورين وغير المشهورين، في الترفيه المبني علي الواقع؛ والسيناريوهات؛ وأفعال الجمهور وتفاعلاتهم (بعبارة أوضح – يمكننا أن نقول المتفرجين أو المشاركين)، الذين يصبحون فعالين في الأحداث بطرق مميزة، وظهور السياسيين والنماذج الأخرى في المجال العام الذي يمكن تحديده من خلال وسائل نقدية لدراسات الأداء. 
ويمكننا أن نقترح بإنصاف أن هذه قائمة شديدة التفاوت، تضم أنواعا متغيرة للأداء، ويمكنني ألا أوافق عليها بالضرورة – إلا أن الإجابة الثانية علي السؤال (لماذا نأخذ في الاعتبار نماذج الأداء؟) هي أن الأداء يحدث في بيئة شديدة الترابط والتعددية، حيث نشهد غالبا (وأحيانا طرفا) أنواعا مختلفة من الأداء كل يوم، وحيث أصبح لانزلاق الثقافي عبر الوسائط وأنواع الأداء أمرا روتيني وليس أمرا غير منتظم. وليس من قبيل الصدفة أن يطور اليستروم نموذجه صراحة للموقف بين الوسائطي، مع وسائط متميزة تعمل بالتكافل. ويوجد مجال التمثيل والأداء في المشهد الحالي لفن الأداء الذي يتم توسيطه بكثافة  والمتعدد بشكل عميق – ليس فقط في أنواع الأداء التي نراها بل أيضا في سجلاته المتفاوتة وانزلاقها عبر الأشكال. وبالطبع هناك إجماع متزايد في كل من دراسات الاتصال ودراسات الأداء فيما يتعلق بالطبيعة الممتزجة والمتعددة للمجال الثقافي والاتصالي. ففي تعدد الوسائط يصف بيتمان وآخرين البيئة التواصلية متعددة التخصصات بشكل متزايد، والتي لم يعد لدينا فيها وسيط منفصل، بل وسائط قادرة علي القيام بوظائف متعددة. والأمثلة علي ذلك تتضمن عرض صفحات الجرائد علي الآيباد أو المواقع التي تعزف الموسيقى – وبينما تكون هذه أكثر انتشارا في بعض أجزاء من العالم أكثر من غيرها، فان تسارع الاتصال عبر الوسائط أمر لا جدال فيه. وتقدم منظرة الأداء شانون جاكسون نقطة ذات صلة  من موقع مختلف، في مناقشتها لسياقية الأداء المفرطة، التي تراها كشرط ( يعمل الأداء عبر مجالات أصولية) ولكنها أيضا تحديا (الأداء عرضة للتشتيت وله مكانة مشروطة بشكل مكثف). ويتخذ نموذج الممثل /المؤدي شكلا أكثر بروزا في هذه البيئة. وفي كلتا الحالتين، من المفيد أن نفكر فيما إذا كان هناك طريقة مشتركة لتقويم الأداء وسط هذه الأمثلة المتنوعة والمتباينة. 
 هناك العديد من أنساق تحليل الأداء. وهناك طريقة واحدة للنظر إلى مشروع التحليل النموذجي هذا وهو النظر في جدوى الأنساق الراسخة لمواقف الأداء الحالية. وهذا لا يعني القول أنه يجب التخلص من النماذج القديمة – بعيدا عنها.
 بل هو بحث للجوانب الجمالية والمحتوى المحدد لأنساق التمثيل/ الأداء، التي تميل إلى التلاؤم بشكل أكبر مع بعض أنواع العمل أكثر من غيرها. يوجد كل نسق أداء وتحليل أداء علي نحو ثقافي وله تاريخه. ولكي نلتفت، باختصار، إلى أشهر هذه الأنساق (علي الأقل في السياق الأوروبي الحديث)، نجد نسق كونستانتين ستانسلافسكي في تدريب الممثل، والذي تطور خلال الجزء الأول من القرن العشرين، وقد تم تدعيمه بشكل واسع بين الأربعينيات والسبعينيات، فقد واجهت أفكاره رحلة مضطربة في طريق نقلها إلى الطباعة، إذ كانت عرضة للتأخير والتحيز في تحريرها. وقد وصف جون بنديتي كتابه المهم «إعداد الممثل» (الذي نشر في روسيا عام 1936) بأنه «ظل باهت». فقد اتسم منهجه وممارساته برحلة مختلطة إلى مختلف مجالات التأثر. وفي كتابه «بهلوان القلب An Acrobat of the Heart» يقدم ستيفن وأن ملخصا للمسار التاريخي المثير للجدل، متتبعا خيوطا انتقائية لنسق ستانسلافسكي من خلال هجرتها إلى مناطق أخرى. إذ يقترح وان أن ستانسلافسكي: 
بحثت عن طريقة تعتمد علي الممارسات النفسية الداخلية. لقــد طـور تماريـن الذاكـرة الحسـية والذاكـرة الوجدانيـة.  وكـانت هـذه التقنيات الداخليـة هي التي جـاء بهـا تلاميــذ ستانسلافسكي ريتشارد بوليسلافسـكي وماريا أوسبنسكايا من روسيا إلى نيويورك عام 1923. وكانـت هذه هـي الأعمـال التي درّسـوها في مختبـر المسـرح الأمـريكي، حيث حضر هذه الدراسات هارولد كلورمـان، وستيــلا أدلر ولي ستراسبورج. 
 وكما يعرف دارسو المسرح، فقد وفرت مجموعة هذه الممارسات بنية ودفعة لما يمكن أن يصبح نسق المنهج الأمريكي، الموجه نحو الاكتشاف الداخلي من جانب الممثل للديناميات الفردية والنفسية للشخصية من خلال الاعتماد بشكل كبير علي التجربة الذاتية والحدس الفردي. وفي نفس الوقت، كما يصف وان، فان ستانسلافسكي أدرك أنه من خلال التركيز تماما علي عقل الممثل، فانه تجاهل جسم الممثل. وفي سنواته التالية طور النسق الذي سماه «الأفعال البدنية».
 وقد كان انتشار تأثيره معقدا من خلال ما قام به مساعدوه، ومن بينها أعمال مايكل تشيكوف في الثلاثينيات. وقد كان تشيكوف (وهو ابن شقيق الكاتب المسرحي أنطون تشيكوف) عضوا في ستديو ستانسلافسكي الأول، وعمل علي منهج ستانسلافسكي الموجه نحو الجسم، ونشر معالجاته وتفسيراته، مع التركيز علي الإيماءة النفسية في أعماله في ألمانيا وليتوانيا وانجلترا والولايات المتحدة الأمريكية. ولا شك أن منتجات الوسائط التي ارتبطت بمنهج ستانسلافسكي لم تكن موحدة. 
 لقد كان لتعاليم ستانسلافسكي تاريخا مشحونا في حد ذاته، من حيث تدوينها من خلال الكتابات المنشورة - والتي استغرقت وقتا وتطلبت مراجعات مكثفة شارك فيها ستانسلافسكي نفسه جزئيا – وفي مجموعة مختلفة من الفهم الذي تلا ذلك، مثلما حدث مع تلاميذه. ولا أقصد هنا التخلص من هذا الإرث واختلافاته. الفكرة الأكبر هي أنه مهما كان الأمر بسيطا – سواء كان سواء كان مهتما في الغالب بعم النفس الداخلي والحالة الداخلية للممثل، والإيماءة الخارجية والعمل البدني للمؤدين – فإن منهج ستانسلافسكي يطبق بشكل مقلوب في تقديم الشخصية التي تنبثق عادة من العمل المسرحي في علاقته بنص المسرحية. وهذا ببساطة لا يطبق علي السياق،أو النوع الفني أو نموذج العرض أو المتطلبات التقنية للعديد من أمثلة الأداء اليوم. فمنهج ستانسلافسكي يظل مفيدا في تطوير الأداء الذي يقوم علي الدراما ذات الأساس السردي narrative-based drama  التي تتفاعل فيها الشخصيات داخل واقعية جمالية واسعة النطاق. وهو منهج غير ملائم كوسيلة نعد بها الأداء ونفسره في مسرحية مثل مسرحية هانير موللر « آلة هاملت Hamletmachine» ( التي قدمت لأول مرة في مسرح جيرار فيليب Theatre Gerard Philipe في باريس عام 1979) أو مسرحية بانشدرانك Punchdrunk « لا تنام بعد الآن  Sleep No More «، وهي الصياغة الخاصة بالفرقة لمسرحية « ماكبث « ( والتي قدمت في فندق ماكيتريك في نيويورك في مارس 2011، وظلت تعرض حتى كتابة هذا المقال ) – ناهيك عن عروض الربرتوار في المجال الأوسع، والتي تتضمن الأحداث التي تقدم في معارض الفن التشكيلي، ومشروعات الواقع الافتراضي، والأعمال بعد الدرامية التي تقوم علي الرقص. فأساليب ستانسلافسكي بشرطيتها السحرية ونواياها وظروفها قابلة للتطبيق علي بعض هذه الأمثلة، ولكنها لا تطبق علي الأمثلة بشكل موحد. 
 ويصدق نفس الشيء علي أنساق تقديم وتحليل الأداء. ودعونا نتأمل سلسلة ما يكل كيربي الشهيرة التي تصف مختلف النماذج من التمثيل إلى الأداء – وهو إسهام مهم لفهم الأداء في سياق ووصف بعد حداثي جماعي تتخيل محاولته لتغطية مجموعة من مظاهر الأداء طموحا متباينا في المقال الحالي. يلاحظ كيربي أن عمله مستلهم في مسرح الوقائع في أوائل ومنتصف الستينيات، حيث : 
 تغيرت كل جوانب المسرح في هذا البلد : فقدت النصوص أهميتهــا وتم ابتكـار العروض جماعـيا، وتبدلـت علاقــة  الجمهــور والأداء بعــدة طرق متباينــة وأصبحت الجـزء  الأصـيل في العمـل، وتمـت دراسـة مشـاركة الجمهور، وقد استخدمت الأماكن فضلا عن المسارح من أجل الأداء وكان هـناك تأكيــد متزايـد علي الحركـة وعلي التصويـر البصري. 
 واستجابة لهذا الموقف – الذي أصبح معيارا في مختلف المواقع – اقترح كيربي تسلسلا للأداء يبدأ من « اللا تمثيل non-acting» مع «الأداء غير المقولب non-matrixed performing» في طرف، و«التمثيل المركب complex acting» في الطرف الآخر. وتكمن قيمة تسلسل كيربي في محاولته للدمج والتمييز بين مجموعة واسعة من فعالية الأداء وإصراره علي أن المشروع هو مشروع تصنيف فضلا عن أنه مشروع تقويم ( أحكام القيمة مثل هل التمثيل جيد أم لا، والتي يؤكد كيربي عدم ملائمتها ). ورغم ذلك، فان صعوبته هي أنه لا يشرح مجموعة من معايير الدقة للاستخدام بواسطة الناقد أو المؤدي – انه يصف بالأحرى مكان الأداء في التسلسل الذي يتحدد عموما بواسطة بالدرجة التي يمكن أن يُرى المؤدي الفرد بأنه يشارك في التمثيل الذي يقوم علي إعداد الشخصيات، والتي توفر بهذه الطريقة معيارا في مقابل الأشياء التي يمكن الحكم عليها. ويقترح كيربي أن أبسط السمات التي تميز التمثيل إما أن تكون عاطفية أو بدنية. وإذا فعل المؤدي شيئا لكي يحاكي ويمثل ويشخص وما إلى ذلك، فانه يمثل. التمثيل هو المعيار الذي يتم علي أساسه الحكم علي أنواع أداء أخرى – مثل اللا تمثيل. 
 ومع ذلك فان التسلسل هو الأكثر إشكالية بالنسبة للعروض المعاصرة حيث ربما نلاحظ التمثيل والتمثيل غير المقولب في نفس الأداء – كما كان هو الحال علي مدى جيل، علي الأقل. وبعد مرور خمسة وعشرين سنة علي مقال كيربي « التمثيل واللا تمثيل Acting and Notacting « نشرت مجموعة مقالات فيليب أوسلاندر المهمة بعنوان « من التمثيل إلى الأداء From Acting to Performance» (1997). إذا كان أوسلاندر يحاول تحديد الأداء داخل ووسط نموذج ما بعد الحداثة المتصاعد. ووفرت فرقة ووستر جروب الموجودة في نيويورك اشارة مرجعية. اذ يقول أوسلاندر « عروض ووستر جروب هي من أقل تمثيلات المؤدين للواقع الخارجي في علاقتهم بظروف الأداء .ويمكن وصف أسلوب أدائهم، الذي يستدعي وينتقد التمثيل التقليدي، بأنه يدور حول التمثيل. ومقالات أوسلاندر عن مشهد الأداء الجديد هذا بأنه أداء واع، ولكنه كما في حالة كيربي، يقدم منظورا تنظيريا فضلا عن مجموعة من المعايير التي يمكن أن يستخدمها المؤدون المعاصرون، أو التي تتيح وصفا تقنيا دقيقا للأداء المعاصر. فمنذ الستينيات حتى الآن، لوحظ توغل أنماط أداء غير التمثيل، قد تم تحليلها وتدريسها. فهل يمكن تصور نموذج تقويم لهذا التنوع الكبير في الأداء الذي يمكن أن يساعدنا في وضعه وانتقاده وتدريسه من خلال استمرارية فردية للتحليل؟ 
 وهناك منعطف مختصر آخر، عن طريق التأكيد الجزئي. في عام 1928، نشر رودولف لابان كتابه « علم الحركة عند لابان Kinetographie Laban»، والذي وضع الأساس لعلم تدوين الحركة المنسوب اليه Labanotation، وهو نسقه لوصف الحركة الانسانية وتصنيفها. ويصف لابان أربعة تصنيفات : الجسم، والشكل، والمكان، والجهد. ويمكن تنظيم هذه المكونات الأربعة : المكان/التركيز ( المباشر أو غير المباشر ) والزمن ( سريع أو مستدام) والوزن ( ثقيل أو خفيف) والتدفق ( مقيد أو حر ). 
 ويعالج نسق لابان الحركة الإنسانية، ولذلك بينما أثبت نسقه فائدته للممثلين والمؤدين، الا أنه لا يوفر وسيلة شاملة لتصنيف فعالية الأداء. ويمكننا أن نقترح أيضا أن هذا التصنيف الشامل ليس مناسبا الآن علي أية حال، بسبب المشهد الفوضوي والمختلط ولسائل والهجين للأداء المعاصر. ومهمتنا هي أن نحدد الرسم التخطيطي الذي يسمح بالتحليل الدقيق لمجموعة واسعة من الأمثلة والذي يدرك التنوع داخل النسق المعد لكي يستوعب الفروق. واسمحوا لي أن أحاول ذلك في اللحظة بعد الحداثية، التي تقوم علي إعادة صياغة طرائق اليستروم ونماذجه. فكما رأينا آنفا، وصف اليستروم العلاقة بين النماذج والطرائق في شكل القائمة التالية،
الثمان حركات التي قدمها رودولف لابان  ومكوناتها الأربع (الشكل 3-1)
 الاتجاه          السرعة            الوزن                التدفق.......
اللكمة         مباشرة       سريعة       ثقيلة               مقيدة
الجرح       غير مباشر         سريع        ثقيل                حر 
الربت          مباشر         سريع           خفيف          مقيد
النقر        غير مباشر       سريع           خفيف              حر
الضغط        مباشر         دائم            ثقيل               مقيد
اللوي       غير مباشر      دائم          ثقيل                  مقيد
الانزلاق        مباشر           دائم        خفيف               حر 
الطفو      غير مباشر       دائم         خفيف                 حر
 
وأقترح الاحتفاظ بهذا التخطيط المنهجي في الجزء التالي – مع ملاحظة عابرة أنه يوفر وسيلة للعلاقات المتبادلة بين المكونات التي لا تختلف تماما عن نسق لابان الذي يحدد تصنيف الحركة والتعبير النمطي الخاص بكل منها. 
 التحدي إذن هو هل يمكننا نشرح المخطط لتحليل الأداء الملائم لمجموعة من أفعال الأداء المعاصرة. وأعي تماما المخاطر، لأن أي نسق يسعى لأن يكون شاملا ربما يبدو أنه خالي من السياق أو قاصر بشكل غامض ( غير ملائم للتحليل المفصل ). وأفضل المنهج الثقافي المادي الذي يستوعب الخصوصية المحلية داخل التخطيط العام، وهو المنهج الذي يسعى إلى تقديم أداة مفيدة لتحليل أهداف الأداء المتعددة. والجهد لا يعني اختزال كل شيء إلى نموذج واحد بل يعني التحرك تجاه نسق مرن بالقدر الكافي لتمييز الأشكال والتمازجات الجديدة بينما يسمح بالفروق ويفسرها. 
.......................................................................................
هذه المقالة هي افصل الثالث من كتاب « فيما وراء حدود الوسائط : العلاقات بين الوسائطية في الوسائط المتعددة Beyond Media Borders : Intermedial Relations among Multimodal media تقديم واعداد لارس اليستروم، والصادر عن دار نشر بالجراف 2021. 
أندي لافندر يعمل أستاذا للدراما والموسيقى في كلية Guildhall في لندن. 


ترجمة أحمد عبد الفتاح