العدد 556 صدر بتاريخ 23أبريل2018
عزيزي القارئ.. أرجو أن تلتمس لي العذر على صياغتي لهذا العنوان الغريب؛ لأنني أعلم أن (كافيه ريش) الذي تأسس عام 1908 مشهور، ومكانه في شارع طلعت حرب معروف للجميع!! وأعلم كذلك أن إعلان حفلة غناء أم كلثوم على مسرحه الذي نشرته جريدة المقطم عام 1923، ما زال معلقًا حتى الآن على جدران المقهى!! وعلى الرغم من هذا كله، فإنني متمسك بصيغة عنواني، لأنني بالفعل سأكتب لك عن مسرح كافيه ريش الذي لا يعرفه أحد!!
وسأبدأ موضوعي وأقول: من منا لم يذهب إلى كافيه ريش في شارع طلعت حرب؟ ومن منّا لم يقرأ العبارة المكتوبة أعلى بابه (تأسست سنة 1908)؟! ومن منّا لم يشاهد إعلان حفلة أم كلثوم المُقامة على مسرح الكافيه عام 1923، والمُعلق حتى الآن في المقهى؟! إذن فنشاط كافيه ريش الفني بدأ في عشرينات القرن الماضي؛ مما يعني أنني لو اكتشفت نشاطًا فنيًّا لكافيه ريش قبل هذا التاريخ، فيحق لي أن أعدّه اكتشافًا جديدًا، وأعدّه تبريرًا منطقيًّا لعنوان مقالي الغريب!!
الإعلان الغامض
وبناءً على ذلك إليكم هذا الخبر المنشور في جريدة (البصير) عام 1917، تحت عنوان (ليلة زاهرة في قهوة كافيه ريش)، وفيه تقول الجريدة: «سيطرب الجمهور مساء السبت ليلة الأحد 10 نوفمبر الحالي لأول مرة في الإسكندرية حضرة المغني البارع يوسف أبيض على تخت مؤلف من أشهر رجال فن الطرب يتقدمهم سامي الشوا وعبد الحميد الفضالي، ومحمد عوض وذلك في كافيه ريش».
وقد يسخر مني القارئ الآن، ويتساءل: هل خبر حفلة غنائية عام 1917 بكافيه ريش – وقبل عام 1923 كما هو معروف - يُعدّ اكتشافًا؟! سأجيبه قائلاً: نعم يُعدّ اكتشافًا، بل وأعدّه كشف الكشوف؛ لأنك (ربما) لم تقرأ الإعلان جيدًا!! وربما لم تنتبه إلى العبارة المذكورة في الإعلان، والتي تقول (لأول مرة في الإسكندرية)!! وهذا يعني أن كافيه ريش المقصود في الإعلان موجود في الإسكندرية، وليس المقصود كافيه ريش الموجود في شارع طلعت حرب بالقاهرة!! لا سيما وأن جريدة (البصير) تصدر في الإسكندرية وليس في القاهرة!!
أعلم السؤال الذي يدور في ذهنك الآن عزيزي القارئ، وتريد أن تطرحه قائلاً: أليس هناك أي احتمال بوقوع خطأ في تجميع الحروف، أو أن الإعلان كان يخص كافيه ريش بالقاهرة وأن خطًا مطبعيًّا وقع، فجاء بكلمة (الإسكندرية).. إلخ هذه الاحتمالات؟! سأجيبك قائلاً: لقد راجعت الخبر أكثر من مرة، ويا ليته كان خبرًا واحدًا أو إعلانًا واحدًا حتى أشك فيه، لقد وجدت عشرات الإعلانات والأخبار عن مسرح كافية ريش بالإسكندرية، التي جعلتني أكتب عنواني الغريب.. فهيا بنا نقرأ عن (مسرح كافيه ريش بالإسكندرية).. الذي لا يعرفه أحد.. والذي لم يكتب عنه أحد!!
فرقة عزيز عيد
من خلال تتبعي لتاريخ المسرح في كافيه ريش بالإسكندرية، لاحظت أن جريدة (البصير) كانت أكثر الجرائد التي تابعت نشاطه طوال فترة صيف عام 1918، بعد إعلانها السابق عن حفلة الغناء؛ حيث وجدتها تنشر مجموعة ضخمة من الإعلانات في يونية ويوليو، تتعلق بفرقة عزيز عيد، التي جاءت من القاهرة لتمثل موسم الصيف على خشبته، وذكرت الجريدة في إعلانها الأول إن فرقة عزيز عيد مثلت على مسرح كافيه ريش بالإسكندرية مسرحية (خلي بالك من إميلي) تأليف فيدو، ومن تعريب أمين صدقي، وقام بتمثيلها: روز اليوسف، ومحمد عبد القدوس، ومحمود رضا، وحسين رياض، ومحمد صادق، وأحمد ثابت، ومحمد إبراهيم، ونجيب فهمي، وحسين المليجي، والسيدة سعاد، وفيكتوريا ليفي.
ومن المؤكد أن مسرح كافيه ريش مسرح كبير، وليس مجرد خشبة مرتفعة في صدر المقهى أو في زاوية منه، تسمح فقط بجلوس مجموعة من الموسيقيين يتقدمهم مطرب أو مطربة للغناء!! فمن غير المعقول إن يكون مسرح كافيه ريش بالإسكندرية بهذا الشكل المتواضع!! والدليل على ذلك، إنه مسرح مناسب لتمثل عليه فرقة عريقة وكبيرة مثل فرقة عزيز عيد، ناهيك بوجود بريمادونة المسرح المصري في ذلك الوقت (روز اليوسف)؛ بوصفها بطلة الفرقة!! هذا بالإضافة إلى وجود إعلانات منشورة في الصحف، مما يعني أنها إعلانات تخص مسرحًا يستحق الإعلان عنه!!
بهذا التصور توالت الإعلانات المنشورة في جريدة البصير عن عروض فرقة عزيز عيد على مسرح كافيه ريش، ومنها مسرحيات: (ليلة الدخلة)، و(وبسلامته ما دخلش دنيا)، و(يا ستي ما تمشيش كده عريانة)، و(عندك حاجة تبلغ عنها)، و(خليها لي أمانة عندك). وأشارت الإعلانات إلى أن فاطمة قدري كانت تلقي مقطوعات غنائية بين فصول هذه العروض، كما كان محمد عبد القدوس يلقي أيضا بين الفصول بعض المونولوجات.
وفي سبتمبر 1918 نشرت جريدة الأهالي إعلانا بعنوان (حفلة أدبية شائقة)، قالت فيه: «ستقام مساء الخميس الموافق 12 سبتمبر الحالي في تياترو كافيه ريش، حفلة جميلة تمثل فيها جوقة حضرة مصطفى أفندي أمين رواية أخلاقية في قالب مضحك بديع اسمها (راحت السكرة وجات الفكرة)، وذلك لأول مرة لها. وتلقى أزجال تلحينية على الأوركسترا، وذلك عدا ما تقوم به الجوقة الفرنسية، وما تقدمه من الألعاب الأخرى. وسيكون صافي إيراد هذه الحفلة لمجلة البيان الشهيرة، فنحث أفاضل الثغر والمصطافين على مشاهدة هذه الحفلة البديعة الممتازة، التي أعدت لها الجوقة ما سيزيدها روعة وجمالاً، إكرامًا لمجلة البيان التي تستأهل كل مساعدة».
مسرح الكونكورديا
ومن المؤكد أن عروض فرقة عزيز عيد - وفرقة مصطفى أمين - تركت أثرًا طيبًا على مسرح كافيه ريش، لدرجة أن شهرة المسرح طغت على شهرة الكافيه واسمه في الإسكندرية!! ووصل بأصحاب الكافيه أن اتجه اهتمامهم نحو المسرح بقوة، جعلتهم يفصلون بين المسرح وبين المقهى، بل ويطلقون اسمًا جديدًا على هذا المسرح – التابع للمقهى – وهو اسم (مسرح الكونكورديا)!! وقد أخبرتنا بذلك جريدة (الإكسبريس) الصادرة في الإسكندرية يوم 8/ 6/ 1919، قائلة، تحت عنوان (حديث المسارح):
«كثرت مراسح التمثيل والغناء في الإسكندرية في هذه الأيام بمناسبة شهر رمضان، ومنهم مسرح الكونكورديا الجديد التابع لقهوة (ريش). ويمثل به الآن جوق الأوبريت كوميك بإدارة الممثل الهزلي المعروف أمين عطا الله رواية هزلية اسمها (صباح الخير)، على نغمات الموسيقى الوترية. وموضوع الرواية إظهار حالة أبناء الأعيان بعد انتقال ثروة آبائهم إليهم، وكيف يبددون هذه الثروة في الملاهي والملذات. ويتخلل ذلك مغاني عربية من الفتاة فتحية الصغيرة [أي فتحية أحمد] ذات الصوت الشجي اللطيف، ومغاني أفرنكية من جوقة بنات أفرنكية يشتغلن مع الجوق. وقد لقى هذا الجوق إقبالاً عظيمًا من الجمهور في الليالي الماضية؛ لأن أهل الإسكندرية في حاجة إلى أندية يريضون بها عقولهم، ويشرحون فيها صدورهم من متاعب الحياة».
ومن الملاحظ أن الجريدة تحدثت عن فرقة أمين عطا الله، ولكنها لم تذكر أي شيء عن الموسيقار (كاميل شامبير) شريك أمين في الفرقة المسرحية، والتي تحمل اسم كل منهما!! وهذا الأمر أوضحته جريدة (البصير) عنما أعلنت في يونية 1919 عن تمثيل مسرحية (نعيمًا) على مسرح الكونكورديا بكافيه ريش بالإسكندرية من قبل (جوق أمين عطا الله وشامبير)!! والثابت أن عروض هذه الفرقة لاقت نجاحًا كبيرًا بدليل ما نشرته جريدة (الإكسبريس) يوم 15/ 6/ 1919 تحت عنوان (الأوبريت كوميك)، قائلة:
“وصلتنا عدة رسائل أجمع أصحابها على امتداح التمثيل الذي تمثله جوقة الممثل النابغة أمين عطا الله والموسيقي البارع كاميل شامبير الآن في مرسح الكونكورديا. وهو من نوع التمثيل الهزلي الراقي، الذي يجد فيه المتفرج لذة وانبساطًا وسرورًا، لا سيما أنه خالف الأجواق الأخرى في تسمية رواياته باسم كشكش بك، ذلك العمدة الذي تغالوا في نسبة العبط والحماقة إليه، ومثلوه مهذارًا فاسقًا مسرفًا أحمق. واستبدل العمدة بشاب من أبناء الذوات الوارثين، الذين ينهمكون في ملذاتهم، ويبددون ثرواتهم. والدليل على رضاء الناس كافة عن هذه الجوقة، إقبالهم عليها واستحسانهم لما تمثله، وخصوصًا أناشيدها اللطيفة، التي تنشدها على نغمات الموسيقى الوترية من أوضاع كاميل شامبير، كالأوبريت عن الأفرنج، لا سيما منظر العمال في عودتهم من العمل إلى بلادهم، وهم بأزيائهم البلدية يغنون بلهجتهم الصعيدية، أو جماعة المهاجرين الأجانب الذين يستعدون لمفارقة القطر بعد عودة المواصلات إلى الخارج. وبالإجمال إن أمين عطا الله نجح في هذه المرة نجاحًا باهرًا، واكتسب رضاء الجميع، لعله يثابر على إتقان مشروعه حتى يزيد الناس عليه إقبالاً، ولعل أدباء المصريين الذين يحسنون كتابة الروايات المصرية على هذا الأسلوب الاقتصادي، أن لا يضنوا على الأمين بملاحظاتهم وانتقاداتهم، وينظموا له الأغاني والأناشيد، التي يحسن تلحينها على الموسيقى، وخصوصًا البيانو الذي يعزف عليه الشاب الشرقي النابغ كاميل شامبير”.
وهذه المقالة، تعكس لنا مدى اهتمام المسرح المصري – في هذا الوقت - بالعروض الكوميدية الهزلية، بسبب انتهاء الحرب العالمية الأولى، وكأن الشعوب تريد أن تصرف أذهانها بالكوميديا عن التفكير في نتائج الحرب المؤلمة، ومن هنا نفهم العبارة الواردة في الخبر، والتي تقول: (جماعة المهاجرين الأجانب الذين يستعدون لمفارقة القطر بعد عودة المواصلات إلى الخارج)، حيث إن الأجانب كانوا في مصر محتجزين بسبب قطع الخطوط الملاحية البحرية بين دول العالم المتحاربة.
كما أن هذا الخبر يحمل لنا حقيقة مهمة، وهي أن نجيب الريحاني كان نموذجًا كوميديًّا لأغلب الفرق المسرحية الهزلية، بدليل أن أمين عطا الله – صاحب فرقة هزلية – استبدل شخصية (كشكش بك) الشهيرة بشخصية شاب من الأثرياء، حتى يتجنب تقليد الريحاني، علما بأن أمين عطا الله بدأ نشاطه المسرحي بتقليد الريحاني وتحديدًا في اقتباس وتقليد شخصية (كشكش بك) عمدة كفر البلاص.
وهكذا نجحت عروض أمين عطا الله وشامبير، لدرجة أن سليم عطا الله – شقيق أمين – انضم إليهما، وكونوا جميعًا فرقة أطلقوا عليها اسم (جوق الأوبريت كوميك)، عرضت مسرحيات ناجحة بالكونكورديا. والجميل في الأمر كان انضمام (شركة ترقية التمثيل العربي) الخاصة بفرقة أولاد عكاشة إلى جوق الأوبريت، لتقدم الفرقتان، أو هذا الخليط العجيب مجموعة مسرحيات على مسرح كافيه ريش (الكونكورديا)، تم تحديدها بأربعة ليالٍ من شهر يوليو، وتم الإعلان عنها، وعن الاشتراك في حضورها، وقالت جريدة (المقطم) يوم 10/ 7/ 1919 عن هذا الأمر: «اشتراك الجوقان بإحياء هذه الليالي، التي ستجمع بين التمثيل الراقي، والموسيقى، والأصوات المطربة، والألحان، والضحك».
علي الكسار
ويُعدّ صيف عام 1919 من أنشط المواسم المسرحية التي مرّت على مسرح كافيه ريش المعروف باسم (كونكورديا)!! فقد وجدنا أغلب الفرق المسرحية - وأعرقها وأشهرها – تتهافت على هذا المسرح لتعرض فيه أعمالها. ففي أواخر يوليو 1919 وجدنا (جوق أمين صدقي وعلي الكسار) يُعلن في جريدة (الأهالي) عن قُرب تمثيل مجموعة من مسرحياته الشهرة على مسرح الكونكورديا بالإسكندرية، منها: (فلفل)، و(القضية نمرة 14)، و(مافيش كده). كما أعلنت الجريدة – في أغسطس - عن تمثيل مسرحية (الأمير سليم) من قبل فرقة عكاشة بمسرح الكونكورديا، والمسرحية من تأليف إبراهيم رمزي.
والجدير بالذكر إن مسرح الحمراء في الإسكندرية من المسارح المهمة والعريقة والشهيرة، وقد عرضت عليه فرقة نجيب الريحاني مجموعة من المسرحيات في أغسطس 1919، فقام غريمه ومنافسه الكوميدي علي الكسار بعرض مسرحياته بالإسكندرية على مسرح الكونكورديا وفي التوقيت نفسه لعروض الريحاني!! فقام ناقد جريدة الإكسبريس بكتابة مقالة، نقتبس منها الآتي: «راجت في الأسبوع الماضي سوق التمثيل في الإسكندرية، وكانت المزاحمة والمنافسة شديدة بين جوقي الريحاني وعلي الكسار. فقد قدما إلى الإسكندرية وعرض الأول أربع روايات على مسرح الحمراء، وعرض الثاني مثلها على مرسح الكونكورديا... أما جوق علي أفندي الكسار فقد صادف إقبالاً عظيمًا، ونفدت أوراق الليالي الأربع جميعها، فلم نتمكن من مشاهدة تمثيل هذا الممثل المشهور؛ ولكن الذين شاهدوه شكروه وقالوا إنه تمثيل راق ومتقن».
وفي سبتمبر أعلنت جريدة البصير عن قيام فرقة أخوان عطا الله بتمثيل مسرحية من أجل فعل الخير، قائلة يوم 3/ 9/ 1919، تحت عنوان (ليلة خيرية): «سيمثل مساء اليوم في تياترو الكونكورديا رواية (عواطف الزوجة)، وهي عصرية اجتماعية أخلاقية عائلية، يمثلها جوق حضرات أخوان عطا الله، ويقوم بأهم أدوارها الممثل النابغة حضرة سليم عطا الله إعانة لأولاد المرحوم السيد ماهر». وقد واصلت الصحف الإعلان عن عروض (جوق الأوبريت كوميك) – في هذه الفترة – ومنها مسرحية (المجنون)، ومسرحية (صندوق الدنيا)، التي وصفتها جريدة (الأهالي) يوم 3/ 9/ 1919 بأنها «حوت من المدهشات أبدعها، ومن الوقائع أغربها».
عزيزي القارئ.. هل اقتنعت الآن بأنك قرأت فعلاً ما لا تعرفه عن مسرح كافيه ريش؟؟ إن كنت ما زلت غير مقتنع.. وهذا ما أتمناه!! فأرجو أن تتابع المقالة الثانية حول هذا الموضوع الأسبوع القادم.. لعلك تقتنع!!
آمنت بأنك قرأت موضوعا يستحق عنوانًا يقول: (مسرح كافيه ريش الذي لا يعرفه أحد)!! أم ما زلت مؤمنًا بكافيه ريش بالقاهرة الموجود في شاع طلعت حرب، ولا تريد أن تقتنع بوجود كافيه ريش آخر غيره؟!!