العدد 782 صدر بتاريخ 22أغسطس2022
في نهاية المقالة السابقة تحدثنا عن رأي الناقد المسرحي «جبر» في أعضاء إدارة فرقة «الأوبريت المصري» التي تعرض أعمالها في كازينو العائلات بطنطا، ووصلنا معه إلى حيرته حول أهم شخص في الفرقة، هل هو النجم «عباس الدالي» مديرها الفني أي المخرج، أم المدير المالي «عبد الحميد شريف»!! وأمام هذه الحيرة، يقول الناقد: هناك اعتراض على هذين الشخصين، بزعم أن المدير الفعلي في الحقيقة هو «محمد أفندي يوسف»، الذي يمثل كل ليلة رواية «كش كش بك»، ويسمونه عندهم دور البطل! وكل قائم بهذا الدور يعتبر في العُرف المسرحي مديراً أسوة بالكسار والريحاني وبشارة واكيم والمسيري ومن شاكلهم. وهنا نقطة ضعف يجمل تداركها ويحسن تلافيها منعاً لتولد فكرة الانقسام الذي يترتب عليه حتما تفكيك عرى الارتباط!
ويستكمل الناقد حديثه، فيقول: ناهيك من عبد الحميد أفندي شريف، رجل أغرم بالتمثيل وتعشق المسارح فترك من أجل هذا الفن الجميل وظيفة حكومية راقية ذات مرتب كبير وهام بأن يضع نفسه تحت أيدي الكُتّاب يعلون من شأنه أو يخفضون تقريظاً، أو نقداً شأن عظماء الرجال، لا يعنيهم غير ما يعتقدونه حقاً في ضمائرهم، ومن شعورهم. وها هو الأستاذ مدير الفرقة التي نتكلم عنها، ولكنا بكل أسف لم نشهده على ذلك المرسح، لنحكم على مبلغ تعلقه بالفن، واهتمامه بإتقان الدور، ولكننا شاهدناه شخصاً عادياً ورجلاً مثلنا فحسب. فعلمنا عن تلك الشخصية عظمة ورزانة ووقاراً، خليقة كلها بأن يتسم بها كل ممثل كامل بارع في مهنته، متقن فنه لأن النفسية التي توزاي نفسية عبد الحميد أفندي جديرة بالإعجاب، وخليقة بأن تبعث إلى النفوس الثقة فيها بغير كبير عناء، بل يكفي أن تشرف على أدب جم، وعلم وافر، وخلق راق، وسحنة بسيطة. فتعتقد أن هذا الذي ترى قدير على التمثيل، وكفء لما يعهده إليه من عمل. وأنه بطبعه بعيد عن الرسوب في قرارة المجموعة بل هو يتصف بصفة محدثة ويدخل إلى نفسه من حيث لا يشعركم! كنا نود أن نراه على المسرح ليؤمن بصدق نظريتنا فيه.
أما «عباس أفندي الدالي» ابن طنطا البار، فقال عنه الناقد جبر: إنه ممثل كفء يحفظ دوره دائماً ويشرف على غيره في معظم الأحيان، ولا نلاحظ على عباس أفندي شيئاً غير التهاون في تكييف صوته، وفق الوظيفة التي تُسند إليه فتراه، وهو باشكاتب في رواية «مرحب»، وحاكم الصين وعفريت في رواية «دقة المعلم»، ذا صوت واحد، ولهجة واحدة، حتى لا تستطيع أن تجد فارقاً ولو طفيفاً بين الأصوات. فلا اتصال بين اللهجة وصاحبها، ولهذا ننصح إليه أن يحكم حنجرته ويعمل على تنويع صوته، وإن كان بطبعه قادراً على التمثيل ومغرماً بالفن.
أما «محمد أفندي يوسف» فقال عنه الناقد: لقد أمسى محمد يوسف بارعاً في كل دور يُعهد إليه بغير تكلف أو تصنع. وله قدرة فنية خاصة لا يطاوله فيها ممثل، يستطيع بها أن يكيف نفسه على مقتضيات الدور، الذي يتولاه، ولا تحسبن محمد يوسف قائماً بدور «كشكش بك» وكفي، وإن كان يجيده دائماً. بل لو أردت المعجز فتعال معي أحدثك عنه في دور «مرزوق» في رواية «ريا وسكينة» فلقد كان هو الوحيد الذي دخل بتأثيره إلى نفوس المتفرجين، وتغلغل بين حنايا ضلوعهم حتى اعتقد الجميع أن «محمد» في الدراما أكفأ من «محمد» في الكوميدي! ولكننا نتسامح في التعبير فنقول إنه ممثل بارع في النوعين، ولعله أكثر ممثلي الفرقة استغناء عن الملقن، وهذه ميزة الذكي فنقدم إليه تهانينا في كل دور يقوم به.
وعن «توفيق إسماعيل»، قال: يمكننا الجزم بأن «توفيق» هو الذي يلي محمد يوسف في الترتيب، وبين الباقين في القدرة على تنويع شكله والقدرة على حفظ دوره. ولعله أكثر إخوانه نشاطاً وحركة وأوفرهم أدباً ومجاملة للجمهور. وهذا يرجع إلى كونه قد خلق ممثلاً بفطرته، فتراه في كل دور يعهد إليه مثالاً كاملاً من الشخصية التي يمثلها. وكم كان ظريفاً وفكهاً عند تمثيله دور ملك العجم «المكسح» في رواية «دقة المعلم»، بقدر ما كان مؤثراً وتقياً في دور «درغام» في رواية «ريا وسكينة». والذين يعرفون توفيق أفندي ويشرفون على حسن أدبه وجميل ملاطفته وطيب حديثه يقدرون له مستقبلاً باهراً في عالم التمثيل.
وقال عن «حسين لطفي»: أما هذا فيلوح لنا أنه حديث عهد بالمهنة فإن خالف حسبناه منصرفاً عن الفن أو غير كفء لممارسته، وإلا فبماذا نفسر موقفه الجامد في تمثيل دور الملك في رواية «دقة المعلم» إذ كان بعيد كل البعد عن أبهة الملك وعظمة السلطان. وبالرغم من أن مثل هذا الدور كبير الأهمية في الرواية فقد فتر بين يدي حضرته، لدرجة أسأمت الجمهور حتى أن «الحاجب» ألفت نظره إلى الجلوس على الكرسي المعد للملك! وحيق بملك لا يعرف معنى الجلوس على الكرسي أن يبعد عنه! فننصح للمدير - أو لواحد من الثلاثة - أن يعهد إليه في أية رواية بأبسط دور فيها ليتسنى له التقدم من ألف إلى باء وهكذا، حتى يمكنه التوفيق بين أدبه الجم وأخلاقه الحسان، وبين قدرته على أداء واجبه.
وبالنسبة لـ«حسين الشماع» وهذا أيضاً ممثل وكفء، ولكن ليس في كل الأدوار، بل في الأدوار التي يكون «للفتونة» له قسم فيها ونصيب منها، فهو يمثل جيداً دور خفير أو بائع أو عربجي، ولكنه لا يمثل مثلاً دور ملك ولا دور مغرم! ويدهشنا منه هذا التناقض، لأنه مطرب ماهر وبلبل غريد، ونعجب كيف ينفر صاحب الصوت الجميل عن تمثيل الجميل!!
أما الممثلة «مرجريت شماع»، فهي راقصة ماهرة لا ننكر عليها هذا، ولكن حسن الرقص، ذاهب في تيار زهوها وكبريائها وضائع في سبيل «عنطزتها» وغرورها، أو شعورها ببدونة جسمها وتنسيق أعضائها، ولكن الجمهور لا يتطلع إلا للفن، ولا يقدر إلا إجادة الدور. فأنت تراها في دور بنت الملك في رواية «دقة المعلم» قد عجزت عجزاً تاماً عن تمثيل الحب والمرض في آن واحد. فلا عواطف ولا حسن محادثة في الحب، ولا ضعف ولا ذبول في المرض، بل بالعكس كانت حالتها وقت المرض أحسن وأصح وأقوي من حالتها بعد استعادة قوتها ونشاطها. ولم يجد الجمهور فرقاً يذكر ولا أحدث تمثيلها أي أثر في النفوس. فكانت هي وأبوها الملك «حسين لطفي» العلة الظاهرة في الرواية. ولو لم يكمل الباقون هذا النقص الواضح لكانت الليلة في منتهي «البواخة». فلعل السيدة مرجريت تكتفي بقسمها في الرقص أو في الغناء، لأنها بغير شك بارعة في كليهما.
أما «سنية»، فقال عنها الناقد: كل ما يشمئز منه الجمهور تذهب سنية بأثره وتحل محله الإقبال والرضاء، ولا غرو في هذا، لأنك ترى على وجه سنية ابتسامة لا تفارقها، حببتها إلى جمهور المتفرجين، فأنستهم مساوئ زميلتها. وهي فوق هذا تقبض على زمام البشر والايناس، وتتمتع بقسط وافر من الجمال، علاوة على إتقان كل دور تمثله، وعلى إجادة الرقص غاية الإجادة، ونقسم لو لم تكن سنية وبساطتها ومنادمتها اللذيذة واستعطافاتها الحلوة وابتسامتها الدائمة وطلعتها المبهجة، لساءت العقبي في ليلة «دقة المعلم»، ولكن الله سلم. وكما مثلت في الرواية دور ملك ملوك الجان، فكذلك مثلت في نفوس المتفرجين ملكة ملوك الشعور والوجدان. فنحن نهنئها بجمالها ونهنئها أخيراً بقدرتها.
أما الممثلة «دولت» فقال عنها الناقد جبر: إنها ممثلة صغيرة تنسج على منوال سنية في خفة الروح والرشاقة وفي جودة الرقص ومجاملة المتفرجين. وإن زادت عليها بلثغة في لسانها زينت ألفاظها وحببت إلى الأسماع نطقها. هي ميزة طبيعية أضافها الله إلى جمالها، فازدادت جمالاً، وهي ساحرة في سكونها وفي هدوئها، أطال الله في عمرها لينفع بها غواة محاسنها ورشاقتها وخفة روحها وعذوبة لفظها.
واختتم الناقد موضوعه بخاتمة شاملة بها معلومات مهمة حول أدب الفرقة ومجاملتها للجمهور، قال فيها: ولعل أكبر ما حببت الفرقة إلى نفوس الجمهور ومشاركتها إياه في شعوره وإحساساته، عندما أوقفت العمل خمس دقائق ليلتين متتاليتين، الأولي حداداً على وفاة السيد حسين القصي، والثانية حداداً على وفاة المرحوم حماد بك إسماعيل. ونكست في الليلة الأخيرة السبعة الكراسي المعدة لبعض أقارب الفقيد إعلاماً بهذا الحداد أيضاً. ولقد أثر هذا العمل الجليل من جانب الفرقة أثراً طيباً في النفوس، وجعل الجمهور يعتقد بحق أنه بين يدي فرقة مهذبة مؤدبة، تقدر الشعور وتعرف الواجب عليها، وتشاطره سراء وضراء! لقد لمسنا هذا الأثر في إقبال الجمهور عليها وتشجيعه إياها بعد هذين الحادثين مباشرة. فإذا نحن أثنينا على مجموع أفراد الفرقة هذا الصنيع المحمود فإنما نخص بالذكر عباس أفندي الدالي، ذلك المجموعة المتدفقة بالعواطف والأخلاق الفاضلة والمعرفة الكاملة. وخليق بفرقة هو مديرها أن تنهض، وخليق بها أن ترتقي فلقد جمعت في شخصه الكريم مزايا وسجايا ولا يطاوله فيها ممثل. أضف إلى هذا أدبه الراقي وعلمه الغزير وقيامه في كل رواية بالأدوار الهامة، يجيدها خير إجادة، ويتقنها أبدع إتقان وهو في الواقع صاحب القدح المعلى في هذه المجموعة الراقية. واستطاع أن يضم حواليه أعضاء نافعين يجني الجمهور من ورائهم ما شرع التمثيل لأجله. فإلى الأمام أيتها الفرقة الناهضة، وإلى الأمام يا عباس!
عبد اللطيف خليل
ظهرت جريدة أخرى اسمها «الحضارة المصرية»، وكان لها ناقد فني اسمه «عبد اللطيف خليل»! وأول مقالة وجدناها له تتعلق بفرقة الأوبريت المصري كانت منشورة يوم 31 أغسطس 1927، وعنوانها «رواية الدموع»، قال فيها:
«اصطفاه صديقاً واتخذه خليلاً فأكرم مثواه وأعز جانبه، وكان منه بمنزلة الأخ من أخيه، فجالس زوجته وأمن الزوج جانب صديقه. ولكن الصديق وقد طبعت نفسه على اللؤم والغدر، فلم يرع لصديقه حرمة فتودد لزوجته وحدثته نفسه بالخيانة. فمازال يستهويها ويغرر بها والمرأة ضعيفة مسكينة فانخدعت بكلماته وتأثرت بعبارات الحب الكاذب، والغرام الباطل، غلبها على أمرها. وسقطت المرأة بعمل ذلك الصديق. وجاء الزوج من سفره، وهو أشوق ما يكون إلى طفلته وزوجته، فما كاد يدخل الدار حتى شم رائحة الخيانة وشاهد آثار الجريمة. مسكين ذلك الزوج خانته زوجته وخانه صديقه وكان موقف مؤلم أراد الصديق أن يغفر له صديقه ذلك الجرم، ولكن شرف الزوج قد لوث بدم العار والرذيلة ولا يغسل الدم إلا بالدم. طرد صديقه بعد أن أشبعه قوارص الكلم، ورمى بزوجته إلى الخارج مطرودة مهانة بعد أن حرمها طفلتها وحال بينها وبين أن تقبلها القبلة الأخيرة، ولم يشفع لدى الزوج دموع زوجته وعبراتها. مضى على ذلك الحادث خمسة عشر عاماً وقد كبرت طفلة الأمس وأصبحت غادة هيفاء، وهي لا تدري شيئاً عن ماضي والدتها فقد أخبرها والدها أنها توفيت من زمن بعيد. علم الزوج من صديقه «علي بك» أن امرأته قد سقطت سقوطاً هائلاً فهي تتاجر بعرضها في سوق المومسات، وقد أضحت امرأة بغي عاهرة، والابنة مخطوبة لشاب له مركز سام ولو افتضح الأمر لقضي على الزوج وابنته بالسقوط والانتحار. إذاً فلا بد من أن يتوسل إليها ويرجوها أن تغادر مصر لأجل ابنتها. وكان حواراً عنيفاً، وموقفاً مؤثراً، فهي تصر على رؤية ابنتها ثمناً لرحيلها، وهو يأبى خوفاً من أن تصارح الفتاة بأنها أمها. وأخيراً رضيت الأم برؤية ابنتها على أن تكون مجهولة لديها. عانقت الأم ابنتها وبكت الأم بكاءً حاراً والفتاة في ذهول واضطراب ويجئ خطيب الفتاة ومعشوق الأم، ويكون مشهداً مملوءً بالعواطف المؤثرة. تلك هي رواية الدموع التي مثلتها فرقة «الأوبريت المصري» بطنطا، وهي من النوع الدرام مؤثرة ومحزنة أجادت الفرقة تمثيلها بإعجاب ومهارة. وكان البطل البارز فيها الأستاذ عباس أفندي الدالي، والسيدة مرجريت شماع. وبلسان الشعب الطنطاوي نرجوه إعادة تمثيلها ونود أن لا تحرمنا الفرقة من هذا النوع الراقي. [توقيع] عبد اللطيف خليل.
هذه المقالة عن مسرحية «الدموع»، كانت سريعة تشتمل فقط على ملخص سريع للمسرحية، ولكن الناقد «جبر» كتب نقداً مسهباً في جريدة «الممتاز» سنتعرض له في المقالة القادمة.