الأزمات الاقتصادية وانعكاساتها في الأدب المسرحي

الأزمات الاقتصادية  وانعكاساتها في الأدب المسرحي

العدد 782 صدر بتاريخ 22أغسطس2022

ثمة مناطق مظلمة في البحث المسرحي، لم يتجرأ احد لكي بغمرها بمشاعل البحث العلمي أو يسلط عليها أضواء النقد المسرحي في العالم وبخاصة في نقدنا المسرحي العربي أو حتى باحثينا في أكاديميات الفنون الجميلة في البلدان العربية، وذلك ظنا منهم أن هذه المناطق هي بعيدة عن أدبنا المسرحي، ومن ابرز تلك الأماكن التي بقيت معتمة هو علاقة الاقتصاد بتمظهراته كافة مع الأدب المسرحي، وربما يستغرب من يقرأ هذه الجملة، فمن أين تنطلق تلك العلاقة؟! وما هو الرابط الذي يجمع علم مهم مثل الاقتصاد مع الأدب المسرحي، وهنا سأستعرض جملة من النصوص المسرحية التي كانت متعاطية تماماً مع الأزمات الاقتصادية في العالم أو في بلدان مؤلفي تلك النصوص، فتشكل الأزمات بكل أنواعها بنية تاريخية حاضرة بقوة في طبيعة المجتمعات الإنسانية سواء أكان ذلك على مستوى الأفراد أو الجماعة، ذلك نتيجة التعقيدات والتطورات والتحولات لسيرورة الحياة البشرية ونتيجة لاختلاف الإرادات وصراع الإنسان على تحقيق المكاسب المختلفة أو محاولة الدفاع عن ذاته ودرء المخاطر عنها، مما يفضي إلى وقوع الأزمة نتيجة هذه الاختلافات، وبالتالي لا يمكن المضي بهذه الأزمات أو البقاء في دوامة المخاطر دون حلول تمثل الانفراج العملي والتوافق الذي يؤدي إلى حلحلت الإشكالات والتخفيف من حدتها والذهاب لنهايات ذات نتائج وحلول، ولا تأتي هذه الحلول إلا بطرق يمكن من خلالها وضع مقاربات فكرية وعملية للآراء المتضادة (التي تتشكل منها ذروة الأزمات) وبالتالي تلجأ مفاهيم الإدارة إلى العديد من الحلول للإحاطة بالأزمة وتطويقها ومحاولة تذويبها ناهيك عن فاعلية المعالجات التي تعمل أساليب ومدارس الإدارة على تقديمها بعد وقوع الأزمات، ذلك لان الأزمة نقطة تحول تؤدي إلى أوضاع غير مستقرة، مما يستلزم قرار محدد لمواجهة هذه الأزمة من خلال الأطراف المعنية وإلا يستبد الصراع على أوجه مختلفة ومتعددة وتبقى الأزمات فضفاضة ومن دون حلول، وتزداد المخاطر التي تحيط بالفرد والجماعات جراء تفاقم هذه الأزمات وجريانها لأبعاد متعددة وجانبية، لذا لابد من قراءة متأنية لهذه الأزمات ومحاولة الإحاطة بها وتفكيكها وفقاً لاستراتيجيات مختلفة وتبعاً لطبيعة الأزمة وقوتها وتوجهات أطرافها. فقد شهد العالم أزمات كثيرة ودورية خاصة على المستوى الاقتصادي، مما أدى إلى حدوث اختلالات اقتصادية في العالم ضمن سلسة أزمات اقتصادية في تاريخ الاقتصاد العالمي في عالم متسارع ومتأثر بالتغيرات ومصادر الأزمات، بوصف تلك الأزمات غالبا ما تكون مترابطة ومتشابكة لأنها آفات تصيب الأنشطة الاقتصادية وبالتالي يهيمن هذا الإرباك بالنشاط الاقتصادي على جميع مفاصل الحياة، وعبر التاريخ الاقتصادي مرت عدة أزمات اقتصادية انهارت خلالها الأسواق وبعض البلدان والأنظمة، لان تلك الأزمات الاقتصادية هددت ومست الاستقرار السياسي والمجتمعي وأثرت حتى على سلوكيات الأفراد والجماعات، كما قد تكون تلك الأزمات الاقتصادية في بعض الأحيان ناجمة عن الكوارث الطبيعية كالجفاف والطوفان وبقية الآفات المعطلة للحياة، أو تنتج من خلال ما تفرزه الحروب والغارات التي يصنعها الإنسان ذاته وما تشكله من تبعات فيما بعد، وقد تكون الأزمات الاقتصادية كامنة في النظام المعتمد، فقد قدمت الرأسمالية نفسها بوصفها منظومة التقدم والرفاهية للمجتمعات واعتمدت كنظام اقتصادي في اغلب البلدان الأوروبية، لكن هذا الأمر لم يلبث طويلاً فقد برزت دعوات تكشف عن ضرورة إحداث تحولات في نظام تلك البلدان بعد أن توالت الأزمات الاقتصادية الحادة في تلك البلدان،واهمية اللجوء إلى الاشتراكية بوصفها النظام الأكثر نجاعة ومواءمة لتلك البلدان، وهذا التبادل والتنازع بين الأنظمة أفضى لاختلاف في الآراء وأزمات وصراعات طويلة فضلاً عن مؤثرات كبرى على مستوى النشاط الاقتصادي لمختلف البلدان، ناهيك عن هيمنة العولمة الاقتصادية وأثرها الضاغط على البلدان النامية وخلق تشكلات جديدة في تعاملات الإنسان مع حياتهم اليومية وفقاً لمنطلقات هذه العولمة التي لم تكن ضمن أطرها الاقتصادية وحسب بل تحولت إلى عولمة ثقافية لها أثراً ملموساً في بنية الثقافة بصورة عامة والثقافة المسرحية بصورة خاصة، أو مؤثرات مرحلة ما بعد الثورة الصناعية وما تلاها من مظاهر تشيؤ للإنسان، وبالتالي كل هذه الظروف شكلت حالة من التأثير على الأفراد والمجتمعات في تلك البلدان ونمط حياتهم وتعاطيهم مع ظروف معيشتهم اليومية، وهو الأمر الذي يمنح مفكري وكتاب وأدباء تلك البلدان مؤشرات واضحة للتعاطي مع هذه الظروف الجديدة والمتغيرات التي يخلقها الأثر الاقتصادي على حياة الناس بوصف كتاب المسرح مجسات فاعلة للتغيرات الجوهرية والأزمات الحقيقية التي تمس مجتمعاتهم، ذلك لأنهم جزء أساس من هذه المجتمعات بل اغلب كتاب المسرح عملوا على حمل هموم الإنسان وإيصال رسائله إلى الرأي العام والمعنيين وذلك يتوضح من خلال إبراز القيم والمعاني الإنسانية التي تطرح في نصوصهم.
إذ أن هذه الأزمات كانت حاضرة في كل اتجاهات الحياة وتشكلات بنية الأدب والثقافة والفن، ففي الفن المسرحي استلهم العديد من الكتاب المسرحيين من الأزمات المحيطة بهم أو بمجتمعاتهم ووظفوها في نصوصهم وعملوا على أعادة تمثلها من خلال أفكار نصوصهم المسرحية، سواء أكانت تلك الأزمات معاصرة لهم أو موظفة عبر الاستدعاء بغية الإفادة من قيمتها على واقعهم المعاصر، ولاسيما الأزمات التي تتعلق بمناحي اقتصادية تؤثر على مسار حياة الإنسان بصورة عامة، والكاتب بصورة خاصة سيما أن العديد من كتاب المسرح قد تبنوا أيديولوجيات واضحة عبروا من خلالها بكتاباتهم عن انتمائهم ودعمهم لبعض التوجهات أو معارضتهم لبعض الأنظمة وهو ما يتوضح من خلال الثيم والقيم المقدمة في بنية نصوصهم المسرحية، فلنأخذ مثلاً مسرحية وليام شكسبير الشهيرة ( تاجر البندقية) فهي تطرقت لجشع الشخصية اليهودية (شايلوك) وسطوته على الأخرين عن طريق تقديم القروض بالربا وهي مشكلة كبيرة تتعلق بمفصل اقتصادي مهم حاول شكسبير تناوله بزاوية إنسانية يوضح من خلالها الوجه القبيح للجشع ومحاولة الحصول على الفوائد والضغط على الأخرين بسبب هذا المال، وهناك مسرحية (فولبون) وهي مسرحية كوميدية للكاتب الإنجليزي بن جونسون أنتجت لأول مرة في عام 1605-1606، عن شخصية فولبون الثري من البندقية (من دون ورثة) والذي يبتكر مخططًا ليصبح أكثر ثراءً من خلال اللعب على جشع الناس. وهناك مسرحية (المال الجاد) التي كتبها كاريل تشرشل وعرضت في لندن عام 1987 والتي تطرقت  لسوق الأسهم البريطانية، وبالتحديد بورصة لندن الدولية للعقود الآجلة والخيارات المالية.، وأيضا النص السويسري (نهاية المال) للكاتب أورس فيدمر الذي يستعرض واقع الاقتصاد وبخاصة النخبة الاقتصادية،ولا يمكن عبور مسرحية (أعمدة المجتمع) لهنريك إبسن التي تناولت الرأسمالية وانتقدتها بقوة عبر شخصية كارستن بيرنيك رجل الأعمال المهيمن في بلدة ساحلية صغيرة في النرويج، وله مصالح في الشحن وبناء السفن، كما انتقد الألماني فالك ريشتر (الحياة الاستهلاكية) للأفراد بمسرحيته (تحت الجليد) إذ انتقد بقوة سطوة الحياة الاستهلاكية التي تخنق الإنسان المعاصر بحيث أصبح هذا الكائن مجرد رقماً ضمن شبكة واسعة من فضاءات الحياة، ويتركز الجانب الاقتصادي وأزماته بوضوح في مسرحيات (داريو فو) فقد كتب المؤلف الايطالي نص مهم بهذا الصدد (لن ندفع، لن ندفع!) والذي يناقش الصراع الطبقي وهيمنة راس المال وتوحش الرأسمالية التي توسع من دائرة الحرمان وتكثر من الفقراء بصورة متزايدة، إذ يحكي النص المنشور عام 1974 عن كيفية وصول التضخُّم الاقتصادي حدّاً قياسياً في الارتفاع، فينكسر الغضب والتوتر السائد عندما تقود أنطونيا ثورة في السوبر ماركت في الحي وتتم سرقة المبنى، ثم تحاول هي وصديقتها ريتا يائستين أن تخبئا «البضاعة المحرّرة» قبل أن يكتشف زوجاهما وكذلك الشرطة ما جرى، كما كتب مسرحية (الأبواق والتوت البري) والمستلهمة من حدث حقيقي آنذاك جرى أواخر السبعينيات في إيطاليا يتمثل بحادثة اختطاف رئيس الوزراء الذي يعد من رجال المال والصناعة مالك ورئيس شركات فيات والذي يملك قوة اقتصادية مسيطرة على الدولة وبأسلوب ساخر يكتب المؤلف عن سلطة وهيمنة المال على الحكومات، ويتمظهر الجانب الاقتصادي من خلال ثيمة الفساد في مسرحية (المفتش العام) للروسي نيكولا جوجول فهي مسرحية ساخرة ينتقد فيها جوجول الفساد والبيروقراطية وجشع البشر الذي كان يسود روسيا الإمبراطورية آنذاك، وهناك مسرحية بعنوان (راس المال) عرضت في موسكو، مستوحاة من كتاب كارل ماركس الشهير «رأس المال» المسرحية من تأليف ناديا قبيلات وألكسي تسفيتكوف، ولا يمكن تجاوز أعمال برنارد شو بوصفه احد اهم المؤمنين بالاشتراكية وعكس ذلك في أدبه بخاصة في مسرحية (بيوت الأرامل)  التي اظهر فيها الفساد الأخلاقي لبعض أبناء الطبقة الأرستقراطية في المجتمع الإنجليزي مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إذ يقوم شخص بتأجير بيوتا قديمة ليس فيها أي خدمات للفقراء ولا يصلح فيها شيئا ويسحب من هؤلاء الفقراء كل نقودهم ويعاملهم بازدراء وبالمقابل يبني الطرف الأخر مجده عن طريق إقراض الأموال بالربا من أجل بناء هذه المساكن غير الصالحة للسكن، فهو ينتقد هذا المجتمع الذي لا يعبأ بالفقراء، وتهيمن ثيمة المال في نصه الأخر مسرحية المليونيرة وهي مسرحية كتبها جورج برنارد شو عام 1936 يروي من خلالها  قصة إبيفانيا، الوريثة المدللة وبحثها عن خاطب، وشهد المسرح الأمريكي كذلك موضوعات من هذا القبيل بل يعد المسرح الأمريكي اكثر من تناول هذه الثيم والموضوعات بخاصة بعد الحربين العالميتين والتحولات الكبيرة التي جرت خلال القرن العشرين، فمثلا في مسرحية (موت بائع متجول)  للكاتب المسرحي الشهير آرثر ميلر والحاصلة على جائزة «بوليتزر» فقد ألقي المؤلف الضوء على قضية الفقر والاستغلال والطمع وما ينتج عن ذلك من أزمات، وكذلك مسرحيته الأخرى (كلهم أبنائي) التي قدمها عام 1947، والتي تحدثت عن البحث عن الربح بصفقات السلاح خلال الحروب وأثارها الإنسانية، أما الكاتب (جوي أورتون) فقد اختار في مسرحيته ( الغنيمة) أن يتحدث عن السرقة بالإكراه فضلاً عن موضوعات أخرى، وعند برتولد بريخت يحضر الفكر الاشتراكي بوضوح في معرض نقده المستمر (للرأسمالية) في اغلب نصوصه المسرحية ومحاولة الانتصار لطبقة البروليتارية، وهو ما يتجسد في نصوصه المسرحية ومنها (أوبرا القروش الثلاثة) المستمدة من جون جي أوبرا الشحاذين سنة 1728، وكتب تولستوي مسرحية مهمة يدافع فيها عن حقوق الطبقات المسحوقة ومنها (سلطة الظلام أو سلطة العتمة أو سلطان الظلمات) وهي مسرحية كتبها تولستوي عام 1886 وقد عرضت المسرحية في موسكو وبطرسبورغ  لكن الرقابة منعتها عام 1888 بسبب التهجم على الموظفين والإقطاعيين فيها، أما مسرحيته الأخرى هي (ثمار التربية أو ثمار الحضارة أو ثمار المعرفة) وكتبها الروسي عام 1889 وقدمت على خشبات المسارح في روسيا متطرقة لحياة الإقطاعيين التافهة المترفة ومعاناة الفلاحين الكبيرة، وكذلك هناك مسرحية الشائعة لتشارلز مونرو، تتحدث عن صفة الاحتكار وبخاصة احتكار السلاح خلال فترات الحروب والجشع والطمع الذي يسهم بتأجيج رحى الحرب، فضلا عن نص مسرحي مهم بعنوان (الظباء) كتبه الكاتب المسرحي السويدي هنينغ مانكل وهي مسرحية من فصلين وثلاث شخصيات رئيسة، وهو يركز على الحقيقة الاستعمارية للهيمنة على (الأفارقة) من خلال مظاهر إنسانية ومنها حفر الآبار، فهؤلاء لم يأتوا لإعانتهم بل لفرض سطوتهم الاستعمارية وحسب، وفي مسرحية ( قضية أنوف) تتطرق المؤلفة ماروشا بيلالتا لقضية بيع الأسلحة خلال حقبة الحروب واستغلال المعارك الدائرة بين الأطراف، أما مسرحية (الأبراج والريح) للكاتب الفنزويلي ثيسر رينخيفو فهي تعالج أثر اكتشاف النفط على المجتمع الفنزويلي والتحولات التي تحدث جراء هذا الاكتشاف، فبعد أن كان المجتمع زراعياً، تغزوه الآلات والمعدات والماكينات وتستولي الشركات على الأراضي الزراعية للحفر فيها لاستخراج النفط، وهناك نص مسرحي بعنوان (مضارب البورصة) لأليكسي تولستوي ينتقد الحياة الرأسمالية ويمجد الحياة الاشتراكية بإظهار الأب في صورة الأثرياء الماديين الذين يؤمنون فقط بقيمة المال ويبني كل قراراته حسب مصلحته المادية حتى وان كان ذلك على حساب مشاعر عائلته، فهو الرأسمالي الجشع الذي يقيس كل شيء بقدر المال وينسى الإنسانية ومشاعر أفراد عائلته، وأيضا مسرحية السويسري فريدريش دورنمات المهمة (زيارة السيدة العجوز) المليارديرة الأرملة التي تعود إلى مسقط رأسها في قرية غولن لتقدم لأهل القرية عرضاً مغرياً، وهو مبلغاً هائلاً من المال في مقابل موت ألفريد إيل الذي اغتصبها في شبابها، وأيضا ملامح هذه الأزمات الاقتصادية والمالية حاضرة في مسرحية (الملف) لنادوش ريجيفيتش ومسرحية (مستر دولار) للكاتب اليوغسلافي برانسيلاف نوشيتش، وغيرها العشرات من النصوص التي يمكن رصدها عبر تقصي بحثي دقيق. 
أما في المسرح العربي كتب المؤلف المسرحي المصري علي السالم مسرحية (البترول طلع في بيتنا) متطرقاً إلى الواقع الاجتماعي عبر شخصية (مواطن) تفجر النفط في ارض منزله ولكنه يدرك أن البيروقراطية التي تحكم المجتمع هي السبب الذي يقف حائلا دون تحقيق أحلامه وهي ثيمة ليست خاصة وإنما مرموزها يحيل إلى بلداننا النفطية وأزمات هذه البلدان النفطية مع هذه الثروة التي يتقاتل عليها الجميع! ليكون البترول نحساً على الفقراء وعالة عليهم ولا يأخذون منه سوى الأمراض والعلل، وهناك أيضا  مسرحية (البورصة) ليعقوب صنوع التي عالجت مشكلة الصعود والهبوط المفاجئ في الأوراق المالية وتأثير ذلك على مصالح الناس، وثمة مسرحيتان للعراقي يوسف العاني كتبهما عام 1954 هما (ستة دراهم) و(فلوس الدواء)، تتحدث عن العوز والفقر في إطار الأزمات الاقتصادية التي كان يعيشها البلد آنذاك. وغيرها من النصوص التي حاول خلالها الكتاب استلهام الأزمات المحيطة ببلدانهم وإعادة توظيفها المعرفي والجمالي ضمن بناء نصوصهم المسرحية.


حيدر الأسدي - ناقد وأكاديمي ( العراق )