في وداع السيد فجل

في وداع السيد فجل

العدد 761 صدر بتاريخ 28مارس2022

أصحاب الرسالة لا يموتون، تتجلى أرواحهم في كلماتهم، في تلامذتهم، في إبداعهم في سيرتهم وذاكرة محبيهم، لا ينتهون إلا ليبدأوا نمطا آخر من الخلود أكثر كمالا، يكتملون بالضوء الشفيف القادم من ذكراهم.. وأحد هؤلاء الخالدين هو الأستاذ والمبدع المخرج القدير السيد فجل الذي رحل عن دنيانا عن عمر يناهز 71 عاما  وقد سادت حالة من الحزن بين الفنانين والمثقفين في محافظة الغربية، والوسط المسرحي عموماً، بعد نبأ وفاة المخرج المسرحي الكبير، صاحب الإنجازات الكثيرة والأعمال المتميزة على مدار سنوات طويلة. ولد السيد فجل فى 23 نوفمبر 1950 وتخرج في كلية التجارة  جامعة عين شمس 1975، حصل على دبلوم المعهد العالي للنقد الفني تخصص سينما عام 1979 وهو مخرج معتمد من الثقافة الجماهيرية منذ 1978، أهم الأعمال التي قدمها «تمن القمر» 1997، «6شخصيات تبحث عن مؤلف» 2004، «باب الفتوح» 2007، «الخرتيت» 2001م، «رومولوس العظيم» 2003، «حلم ليلة صيف» 1981 لجامعة طنطا، «بكيت» عام 2003 مثلت مصر فى مهرجان الشباب بالمغرب، «سلطان الحرافيش» 2019، «جنة الحشاشين» 2020، «لوحه» 2021،  «دائرة الطباشير» 2015، «الهلالية» 2014، تاجر البندقية 2008 وغيرها من الأعمال التي تركت بصمة وأثر كبير. رفقاء رحلته وأصدقاؤه وتلامذته تحدثوا عنه، وهو ما رصدنا بعضه خلال هذه المساحة.
تحدثنا أولا مع أولاده الأربعة: اشرف ومحمد واحمد ومصطفى فقالوا: كان والدنا رحمه االله أبا طيبا وحنونا، يخاف علينا لأبعد الحدود و ويربينا  على الحرية والتذوق الفني، و قد أشركنا في العمل الفني منذ الطفولة فكان جانبه الإنساني لا ينفصل عن جانبه الفني، فانتهاء البروفة بالمسرح تعني بدايتها في المنزل، كان يجتمع بفريق العمل لمناقشة تفاصيل العرض من تمثيل وأشعار وألحان وديكور..الخ،  
وكنا نشاركه هذه الجلسات دائما وكان يسعد بالاستماع إلى أرائنا أحيانا بالرغم من صغرنا، فكنا نعيش داخل أكاديمية فنية كبيرة في المنزل، كما كان عاشقا لمدينته أيضا يحلم ليلا ونهارا بأن تكون «طنطا» عاصمة الفن في مصر وعلى الرغم من  كم العروض التي كان يتلقاها  ليقدم عروضا في القاهرة ويستقر هناك و للسفر خارج البلاد إلا أنه كان يفضل البقاء في مدينته ونقل علمه وفنه لأهل مدينته، التي قدم لها الكثير من الإنجازات الكبيرة ليس فقط على المستوى الفني ولكن أيضا من خلال وظيفته بالشباب والرياضة، فقد كان مديرا لنادي الطلائع والموهوبين ثم مديرا لإدارة نظم المعلومات ودعم اتخاذ القرار ثم وكيلا للشباب،  وعشنا معه كل هذه المراحل عن قرب سواء باشتراك معه في التمثيل أو الإخراج أو تصنيع الماسكات والعرائس أو الخدع المسرحية أو الغناء أو الدراما الحركية أو الأعداد الموسيقي، فلم نكن أبناء فقط، كان يعدنا لأن نصبح فريقا لتحقيق حلمه، كان لنا أبا ومعلما وملهما وصرحا فنيا ومدرسة كبيرة. عشقه للفن ليس له حدود و حتى على فراش المرض كان يتابع تجهيزات عرضه الأخير، وعندما خرج من العناية المركزة في المرة الأولى صمم أن يذهب إلى المسرح لحضور البروفة رغم تعبه الشديد وعندما طلبنا منه أن نذهب إلى المنزل أولا للراحة كان رده « انا كده هرتاح»  وقبل أن يذهب إلى العناية المركزة للمرة الثانية في رحلته الأخيرة أوصى فريق العمل بالاهتمام بعرضه الأخير ثم رحل عنا قطبا من أقطاب الفن في تاريخ مصر، وترك لا فراغا كبيرا لن يملأه العالم أجمع ولكنا لن نشعر يوما باليتم لأنه ترك فينا إرثا عظيما خالدا                                                                                              

معلم الأجيال 
مصمم الديكور المهندس سمير زيدان رفيق رحلته قال : تعملت منه أجيال أصبحوا فى صدارة المشهد الثقافي بالعاصمة، على المستوى الأكاديمي و المهني، منهم الفنان خالد عبد السلام نائب المسرح القومي، د. مدحت الكاشف عميد المعهد العالي للفنون المسرحية وغيرهما. ويعد الأستاذ سيد فجل موسوعة، امتاز بمخزون معرفي هائل لم يبخل به قط على من تتلمذوا على يديه. عمل فى بداية حياته المهنية مشرفا على طلائع الغربية ليستقبلهم كبارا في المرحلة الجامعية ويمكن حساب ذلك إحصائيا بعدد المخرجين الشباب بالغربية ومستواهم الفكري والإبداعي. 
وتابع: قدم العديد من العروض المسرحية على مستوى الجامعات المصرية كهندسة الإسكندرية  وكليات جامعة طنطا التى حازت فى معظمها على المراكز الأولى  كما هو الحال فى الثقافة الجماهيرية قدم عروضا متميزة منها «بكيت شرف الله»، وماكبث، وتاجر البندقية وغيرها من عروض المسرح العالمي، كذلك قدم «جنة الحشاشين» تأليف إبراهيم الحسيني، وقد استطاع بما يملك من أدوات ومخزون ثقافي أن يمثل القوى الناعمة من خلال نص الحسيني، فى صياغة تصل للعالمية؛ ولكن كان للكورونا رأى آخر فتوقف العرض عند الليالي المسموح بها في إطار شرائح الثقافة الجماهيرية. 
استطرد : وكان لمبدعي الكتابة المسرحية من أبناء الغربية وعلى رأسهم الكاتب الكبير د طارق عمار حظا وافرا من تناول السيد فجل، فقد تربى طارق فنيا كممثل مسرحي على يديه منذ أن كان طالبا بالجامعة، وككاتب في مراحله الأولى، وقد قدم له فجل مسرحية «تمن القمر « في مكان مفتوح خارج العلبة الايطالية بإحدى قرى مركز بسيون التي تقع على نيلنا الخالد، كما قدم له داخل العلبة الايطالية عرض «سلطان الحرافيش» الذي حصد العديد من الجوائز ومنها المركز الأول في الكتابة المسرحية فى مهرجان الثقافة الجماهيرية، وقد ترك لنا قبل وفاته عرضه الأخير مكتملا إخراجيا لأحد أبناء الغربية أيضا وهو الكاتب إبراهيم عبد القادر، ونحن بصدد تقديمه عند اكتمال عناصر الإنتاج كالديكور والملابس الأسبوع المقبل. ولا يفوتني أن أشير إلى ما قدمه السيد فجل كمخرج تلفزيوني لقناة الدلتا، وتحديدا فوازير رمضان مع الفنان حسن الأسمر، ومرة ثانية بعد نجاح الأولى مع الفنان سمير صبرى، وللأسف نسب الإخراج على  التترات آنذاك لمدير القناة! ؛ ليتلقف هذا النجاح ويحرم مبدعه الحقيقي منه، ولم يبد السيد فجل حزنا،  وهكذا كانت شخصية السيد فجل متسامحا للحد الذي كنت  ألومه عليه دائما. وأخيرا  رحل في 18 مارس كنزا ثقافيا وموسوعة فنية كبيرة وإبداعا وعطاء محليا زاخرا، في ظل إعلام تنطفئ أنواره  إذا غادر العاصمة. 

أيقونة المسرح المصري 
ونعاه د. مدحت الكاشف قائلا : المسرح المصري ومسرح الثقافة الجماهيرية ومسارح الهواة افتقدوا ركنا هاما للغاية وهو «أيقونه المسرح المصري» الأستاذ السيد فجل استاذى وصديقي.  وقد قدمت معه عملين مصمما للديكور لتجربة مهمة وهى «تمن القمر» تأليف الكاتب طارق عمار التي عرضت على شط النيل بقرية «بسيون» وهي تجربة فارقه فى حياتي، كما تعاونت معه في عرض للأطفال بعنوان «لمياء فى أرض العقلاء» 
أضاف: كانت تربطني به صداقة عمر طويل، وكان بمثابة الأب الروحي والأخ الأكبر والمرشد والمشجع والمحفز الأبداعى،و الحقيقة لمأكن  الوحيد الذي نال هذه المكانة لديه، فقد ترك أجيالا عديدة،  وأهم ما يذكر عنه كمخرج أنه صاحب الرصيد الأكبر من العروض في تاريخ المسرح المصري على مستوى الهواة والمحترفين، فقد اخرج كما كبيرا جدا من المسرحيات حيث كان يقدم أكثر من مسرحية فى العام الواحد فى أكثر من موقع. وسيظل اسم السيد فجل ملء السمع والبصر، ولا اعتقد أن بإمكان أحد أن يملأ الفراغ الذي تركه في المسرح المصري.

شيخ طريقة 
ووصف الموسيقار عبد الله رجال العمل معه فقال: كان حلقة من حلقات الإبداع المتواصلة والتعلم، ورحله صغيره من عمره المسرحى الممتد لخمسين عاما، نشر فيها القيمة والجمال وأنار عقولا وأسعد قلوبا تاركا مريدين وتلاميذ ومحبين لرائد وشيخ طريقه في المسرح وأحد الكبار والرواد بمسرح الثقافة الجماهيرية. أضاف: كان عملي الأول معه هو «السيرة الهلالية» ليسرى الجندي بقومية المنصورة، واستمرت ملازمتي والعمل معه  لسنوات حتى آخر عمل معه وهو العمل الحالي لقومية الغربية، مرورا بدائرة التباشير وسلطان الحرافيش وجنة الحشاشين وكاليجولا والبؤساء، و قد أسعدنى الحظ أن أنال معه جائزتين للتميز الموسيقي والألحان عن سلطان الحرافيش والهلالية و كان العمل معه متناغما يسيرا، لا يرفض أى إبداع أو يحد من طلاقته بل يوظفه، ويرحل الكبير ويبقي أثره حيا مضيئا .

بذل عمره لمسرح الثقافة الجماهيرية 
الكاتبة صفاء البيلى قالت: الحديث عنه يطول، فقد كنت اسمع عنه منذ بدايات عملي فى المسرح. عرفت هذا الفنان القدير الذي بذل عمره فى مسرح الثقافة الجماهيرية ولم يفكر ذات مرة أن يقدم عملا مسرحيا على مسرح الدولة أو كما يقال «مسرح المحترفين» . وهب عمره كله في خدمة الثقافة الجماهيرية، في أن يفرخ العناصر المسرحية الموهوبة فى مفردات العرض المسرحى، وكنت اسمع دائما عن السيد فجل فى الغربية والمنصورة و في العديد من المحافظات، ولكن على وجه الخصوص فى الغربية فقد ذاع صيته فيها. 
تابعت: فى أحد الأيام دعانى صديقي العزيز د. طارق عمار لمشاهدة العرض المسرحى «سلطان الحرافيش « وكان أول لقاء مباشر بيني وبين الراحل المخرج السيد فجل، وكان ذلك بالمركز الثقافي بطنطا وكان التأليف والأشعار للدكتور طارق عمار والألحان للأستاذ عبد الله رجال والديكور للأستاذ سمير زيدان وبطولة مجموعة متميزة من الفنانين على رأسهم الفنان حاتم الجيار الذى حصل بعد ذلك على جائزة أفضل ممثل فى المهرجان القومي للمسرح المصري فى دورته الثانية عشر، وعندما شاهدت العمل شعرت بأن هذا المبدع يعمل باحترافية شديدة فى نظرته العامة والخاصة فى تفتيت النص المسرحى وتقديم صورة جمالية، وأتذكر أنى كتبت مقالة كبيرة فى مجلة «الثقافة الجديدة عن «سلطان الحرافيش» و وأنه هاتفنى فى مكالمة طويلة و أبدى امتنانه وشكره على هذا  المقال وقال إنه منذ فترة طويلة لم يقرأ مقالا نقديا عن عمل مسرحي بهذه الرصانة، منذ أيام الناقد الكبير محمد مندور وكانت سعادتي كبيرة بهذا الإطراء. 
وتابعت: استمرت العلاقة بيني وبين الأستاذ سيد فجل وكانت علاقة أبويه أولا وفنية ثانيا وكان يستشيرني فى العديد النصوص التي يقرأها ويتحدث معي فى كثير من القضايا. تحاورنا كثيرا عن نصوص المونودراما والطفل وما إلى ذلك وكان يريد أن يخرج لى عملا مسرحيا خاصا بالطفل إلى أن جاءت الفرصة أن نعمل معا وكان ذلك فى آخر عرض مسرحي له فى الثقافة الجماهيرية «شمس لا تغيب» الذي لم يعرض حتى الآن، وشرفت بأن كلفني بكتابة أشعار هذا النص، وبعد أن قرأت النص و أبديت له وجهة نظري واتفقنا على النقاط التي سوف نطعم بها النص بالأشعار بدأت أتحدث معه بأن تكون الأشعار معبره عن حالة النص تعبيرا دراميا لا تكون حليه أو زخرفات وافق وكان متفهما لأقصى درجة وبدأنا نعمل وأشهد الله أني ما أرسلت له أغنية وراجعني فى كلمة بها، بل على العكس كان كثير الإطراء لأشعاري، 
وكان سعيدا بالتعاون معي وقد شرفت بأن يكون في سيرتي الذاتية هذا العمل مع المبدع السيد فجل رحمة الله عليه. أضافت:كان طيب القلب يتعامل مع الجميع بأبويه واهم ما يميزه انه كان رحيما عطوفا، وفى حالة عدم رضاه عن أحد الأشياء فى العمل يعبر عن ذلك بلطف شديد، بأسلوب راقي، وكان دائما يتعامل مع الآخرين بإنسانية، وهو إنسان قبل أن يكون فنانا وفى أزمته الصحية الأخيرة كان حامدا شاكرا لله سبحانه تعالى، لم يتضايق أو يشكو. وسيظل من أكثر المبدعين وفاء وعطاء للمسرح، وأتمنى أن تطلق وزارة الثقافة أو الهيئة العامة لقصور الثقافة اسمه على احد المسارح أو القاعات بمحافظة الغربية، وقد أعطى الكثير من عمره فى هذا المجال بل أعطى عمره كله، فكان لا يشعر بالمرض وهو يعمل كان يقول « أكون مريضا إذا لم أقدم مسرحا « كان المسرح بالنسبة له حياة .

المحب للإنسانية 
و أشار الناقد مجدي الحمزاوى إلى الجانب الإنساني للسيد فجل فقال : يتحدث الكثيرين عن السيد فجل باعتباره مخرجا مسرحيا جيدا، ولكن ما قد لا يلمحه البعض بشكل جيد هو أن السيد فجل هو ذلك الطراز من الناس المحب للإنسانية والقادر على التعايش معها بكل عيوبها، بل أنه فى بعض الأحيان كان يتغاضى عن كل العيوب المتمثلة فى الحياة، ربما كان لعمل السيد فجل الفضل فى بلورة شخصيته فقد عمل فى مجال التأمين وموظفا بالشباب والرياضة إلى أن وصل إلى ان يكون نائبا لوكيل مديرية الشباب والرياضة بالغربية، وكان عمله الأول يستلزم القدرة على الإقناع، اما عمله فى الشباب والرياضة فقد شمل الجزء الأكبر منه إعداد الطلائع وكان هذا يستلزم منه جهدا كبيرا فى الإقناع بجانب التعليم، لهذا تبلورت قدرة السيد فجل على إقناع المشاهد، نتيجة لخبراته السابقة فى هذا المجال، وأضاف: السيد فجل لم يكن مخرجا مسرحيا جيدا  فقط، كان كل من عمل معه يظن انه صديق وربما صديقه الوحيد، كان من الممكن يشعرك بأنه الصديق والمعلم والطفل حسبما يقتضى الأمر، لم أتحدث عنه كمخرج لأن الكثيرين يتحدثوا فى هذا الأمر، ولكنى أود ان أشير إلى نقطة هامة ربما لا يعرفها الكثيرين، وهي انه حصل على دبلوم النقد الفني وهو فى أوج نشاطه، ليقينه أن التعليم شرط اساسى بجانب الموهبة.                                                                                                  

ناشط مسرحي
وتحدث الناقد احمد هاشم فقال:  عرفت المخرج الكبير «سيد فجل» في أواخر تسعينات القرن الماضي، فى درة أعماله المسرحية «تمن القمر» تأليف «طارق عمار» في أول كتاباته المسرحية التى قدمت على «هاويس» بقرية «قضابة» بالغربية في إطار عروض تجارب الأماكن المفتوحة التي تبناها وأشرف عليها الراحل «بهائي الميرغني» كصيغة مسرحية تتجاوز بها الثقافة الجماهيرية عدم توافر مسارح مجهزة لعروضها المسرحية فى المواقع الكثيرة، فكانت تلك التجربة الرائعة التي توهج فيها بعض المخرجين.. كانت هناك عروض بالنادي الرياضى لمدينة «دكرنس», وساحة «جرن» بإحدى قرى البحيرة، وفناء دوار «خالد محيى الدين» ببلدته «كفر شكر» وغير ذلك من الأماكن المفتوحة التي نتج عنها أمران : الأول هو الذهاب إلى جماهير القرى المحرومة من العروض المسرحية، والأمر الثاني هو توهج السينوغرافيين فى مسرحة تلك الأماكن واستغلال مفردات المكان فى الديكور, وكانت تجربة «سيد فجل» على الهاويس هى التجربة الأهم، إذ جعل أحداثه تدور على مجموعة من القوارب المتحركة على صفحة مياه الهاويس، مستغلا كذلك الأشجار الموجودة على شاطئ النهر، بل استخدم أعمدة الإنارة الموجودة على الشاطئين، بينما كان المتفرجون يجلسون على أرض الشاطئ الفسيح وكل أبناء القرية يشاهدون العرض المسرحى، بحضور وصل إلى ثلاثة آلاف متفرج يوميا فى احتفالية استثنائية لم تتكرر للأسف الشديد. 
وتابع : «سيد فجل» كمخرج كان منهجه فى أعماله المسرحية يرتكز على ضرورة التماس التفاعلي مع مشاهديه، سواء بتلك العروض الحميمية التى يلتف فيها الجمهور حول العرض وصانعيه، أو بعرض مسرحيات يتمحور موضوعها حول الراهن و الآني لقضايا الجمهور وهمومه.. إذ كان العرض الثاني الذى شاهدته لهذا المخرج الكبير فى حديقة قصر ثقافة المحلة الكبرى, ويتحلق فيه الجمهور أيضا من كل الجهات حول العرض، وحرفية المخرج تتجلى فى رسم حركته المسرحية بما يتسق ووجود الجماهير حول العرض من كافة الجهات، أما ثالث عرض شاهدته للمخرج فكان فى المنصورة «دايرة التباشير» التى أعدها «طارق عمار» عن «دائرة الطباشير القوقازية لبرتولد بريخت، تلك التجربة التى عرف المعد والمخرج كيف تتماس مع الواقع الراهن، وما كان من تداعيات ثورة الخامس والعشرين من يناير، وصولا إلى التأكيد على أن الأرض لمن يزرعها،  ويحكم البلاد أبناؤها إلى غير ذلك من تداعيات آل إليها واقع مصر إثر الثورة، أما العرض التالي الذى شاهدته له فكان فى العام 2019 بقصر ثقافة طنطا هو «سلطان الحرافيش» تأليف «طارق عمار» وكان عرضا متكاملا فى كافة عناصره، وقد أتت كل عروضه فى جودتها بما لا يقل عن عروض المحترفين بالبيت الفني للمسرح، رغم الفارق الضخم فيما يتاح من ظروف إنتاجية بين الهواة والمحترفين، إذ كان المخرج الراحل لا يكتفى بدوره كمخرج فقط بل كان يعيش حياة مسرحية طوال الأربع والعشرين ساعة، حيث يقضى الوقت الطويل فى تدريب ممثليه ويرتفع بمستواهم الأدائي إلى مرتبة الاحتراف دون الركون إلى البكاء على الظروف القاسية التي يعمل فيها الهواة بالثقافة الجماهيرية، ولم يكن يكتفي بالتدريب فى ساعات العمل بالعروض فقط، بل كان دائم اللقاء بشباب الممثلين فى بلدته «طنطا» طوال الوقت، فى منزله أو بصومعة «طارق عمار» ولم تكن تلك اللقاءات للنميمة،بل كانت بمثابة حلقات نقاش وبحث دائم حول المسرح شاغله الدائم.

مرثية لمشروع كبير 
وفى رثاء المخرج السيد فجل قال الناقد محمد مسعد : رحل مخرج كبير، لا لم يكن مجرد مخرج يذهب للمسرح كل مساء للقيام بعمله فحسب، لقد كان جزءا من مشروع كبير وعميق اسمه مسرح الثقافة الجماهيرية، كان جزءا من مسرح لا يشبه مسارح العاصمة ولا يشبه المسارح النخبوية ... مسرح ساهم في صناعته .. ساهم في ترسيخ جمالياته وقيمه، ساهم في تنمية ثقة مبدعيه بما يقدمون،  ساهم في فتح المجال أمام نقاده - ومنظريه وصانعي سياساته وإدارته- لطرق التطوير والتحديث،  أذكر كيف حصدت تجربته (مع كبار مخرجي مسرح الثقافة الجماهيرية) ضمن مشروع الأماكن المفتوحة الاهتمام النقدي بل ووصلت إلى الأكاديمية حيث جلس أساتذتنا ليحدثونا ونحن في مقاعد الطلبة عن تجربة السيد فجل في تخليق فضاء مسرحي تحول فيه النهر والقمر والمركب لعناصر مسرحية.. لقد نجح في تحدي الابتعاد عن المركز الذي يحتقر ويصم ويستبعد وينكر إمكانية وجود مسرح خارج المراكز الحضرية في القاهرة والإسكندرية ... نجح في أن يعمل في ظل ظروف صعبة (إن لم تكن عدائية) في الثقافة الجماهيرية المحاصرة بالفساد والبيروقراطية والرقابة وضعف الميزانيات و تفسخ البنية الأساسية والتناقضات في السياسة بين إدارة للمسرح و هيئة وأفرع وأقاليم ثقافية والوزارة والمحليات والمحافظات.. تخطى كل تلك المعوقات وقدم مسرحا  أو صنع (المسرح) دون أن ينال في النهاية سوى كلمات ... مجرد كلمات. ربما لم يكن تكريم السيد فجل قبل أعوام من المهرجان القومي للمسرح أكثر من خطوة أخرى لذلك المسرح لتأكيد أحقيته وجدارته وإمكانية نجاحه خارج مركزية العاصمة..
لقد كان السيد فجل كما كان الكثير من المؤمنين والفاعلين والمستفيدين من مسرح الثقافة الجماهيرية جزءا من مسرح فقير في الإمكانيات يقدمه هواة حالمون ومخرجون متعددي المستويات، وحركة نقدية كرست نفسها لذلك المشروع..  مسرح محاط بالعديد من عوامل التحطيم والإفشال، لكنه المسرح الوحيد الذي حظي بمؤمنين مثل السيد فجل ورفاقه الذين حافظوا عليه حتى اليوم، كان أحد رموز مسرح يصارع ويقاتل منذ عقود لتحقيق مجموعة الأهداف الاستراتيجية التي تجعله في صدام دائم مع الجميع وفي قلب أي حدث... رحل مخرج كبير لمسرح أتمني ألا نضطر لتقديم مرثية له ذات صباح.

نصف عمري 
وبحزن وأسى شديدين نعاه الفنان حاتم الجيار أحد تلامذته فقال: اكتشفت عند فراق المبدع الأستاذ السيد فجل أن نصف عمري قضيته معه، وفى الليلة التي  توفى فيها ذهبت إلى المستشفى وتمكنت من أن  ألقى عليه نظرة الوداع، وفى الجنازة حاولت أن أتماسك ؛ ولكن عند لقائي بأحد تلامذته ومصافحتى له انهمرت دموعي فقد تذكرت ما كان يعطيه من فرص للجميع حتى يتأكد وبشكل غير مباشر من خلال اختبار صغير هل يصلح هذا الشخص وهل لديه إصرار أم لا حتى وإن كانت موهبته ضعيفة. كان يعطى الفرص للجميع بأن يكونوا جزءا من التجربة سواء على خشبة المسرح أو خلف الكواليس، فقد أعطى الفرصة لذوى القدرات الخاصة وكان ذلك فى عرض مهم وهو «سلطان الحرافيش «، «ماكبث» وذلك لثقته في إصرارهم. 
وتابع: كان من المخرجين الذين يقومون برسم حركة مسرحية «وليدة اللحظة « كان يخطط ويبنى حركته من خلال طاقة الممثل وكان ينتج عن ذلك عرض ناعم للغاية ليس به حركة مقحمة، عناصر العرض تتكون نتيجة استقباله لطاقة الممثل وقت ولادة الحركة، وهو ما يتطلب مخزونا عاطفيا وثقافيا كبيرا كما يتطلب بوابة إحساس، وهي عند السيد فجل «الكلمة»، وحدة بناء الصورة فى مسرحه،  وقد كان من أشهر المخرجين الذين يقدمون صورة رائعة، كما كان من أهم المخرجين الذين يستطيعون تحريك «المجاميع» والسينوغرافيا فى مسرحه مكتملة يملؤها بالممثل والديكور والموسيقى والإكسسوار الخ . 
وأضاف: مشواري مع المخرج الكبير السيد فجل بدأ منذ 1999 و انتهى في 2019 وقد حصلت معه على العديد من الجوائز أعظمها جائزة التمثيل فى المهرجان القومي للمسرح فى دورته الثانية عشر، وجائزة أفضل ممثل لمهرجان الجامعات عامي 1999و2000، كما حصلت على جائزة أفضل ممثل عن عرض «طومان باى « فى ختام مهرجان فرق الثقافة الجماهيرية عام 2019 وغيرها من الجوائز المهمة،
وقد كان شاغل الأستاذ الشاغل بناء الأجيال، فكان ملتصقا بتلامذته، وعلى الرغم من العروض الكثيرة التي قدمت له ليذهب إلى القاهرة إلا أنه كان يفضل البقاء فى طنطا ويحلم أن تكون عاصمة للفن وأن يسلط عليها الضوء، وكان له دور بارز مع الطلائع من المخرجين والممثلين  ولا نستطيع ان ننسى تجربته الأشهر «تمن القمر» التى قدمت على هاويس مياه وقد نظرت لهذه التجربة أقسام المسرح بالكليات والمعاهد المتخصصة. 

تعلمت منه الكثير 
المخرج والمؤلف المسرحى أحمد عصام قال: عرفته عام 2000 وكان أول عروضي معه في 2003 هو عرض «باب الفتوح « لمنتخب جامعة طنطا وشارك فى أسبوع الجامعات بأسيوط وحصل على المركز الثاني، وفى 2007 عرض «حلم ليلة صيف لجامعة طنطا أيضا  وحصل على المركز الأول. وفى 2009  حصل قصر ثقافة طنطا على العديد من الجوائز الفردية  عن عرض «تاجر البندقية» وقد تعلمت منه الكثير على المستوى الفني والإداري، فكان على المستوى الإداري يتميز بأنه يختار فريق الإخراج بعناية ويحدد مهام كل فرد منهم ويتأكد من أن كل منهم أتم مهمته على الصورة التي يرغبها، وكان عبقريا في إيجاد حلول وبدائل، فلم نواجه إى عقبات أو مشكلات، وأذكر أحد المواقف الهامة الدالة على عبقريته في إيجاد بدائل أنه كان نقدم عرض « حلم ليلة صيف « بجامعة المنوفية وقبل موعد العرض بساعتين حدث عطل مفاجئ للكهرباء كان يحتاج يوما كاملا حتى يتم إصلاحه وكان من حقه آنذاك أن يؤجل العرض ولكنه استعان بالزوم واستطاع توظيفه بشكل جيد، صنع به شكلا جديدا،  ولا ننسى تجربته مع د. طارق عمار في عرض «ثمن القمر» التي بعد مرور 22 عاما عليها أطلق على المكان التي أقيمت به اسم « «المسرحية» وكانت قوة التجربة تكمن فى أنه استعان بعناصر المكان، فالممثلين من أهل القرية، وصممت الإضاءة من لمبات الإضاءة العادية وصفائح السمن .. كان لديه القدرة على خلق الفن والإبداع من اللاشيء، وكان يحترم كل من لديه موهبة .

العابد الزاهد الرزين  
ووصفه الشاعر أشرف عتريس فقال» هو من أخلص مخرجي الثقافة الجماهيرية،  بل من روادها الرائعين إنسانيا وفنياً، لم يكتسب لقب ( راهب المسرح) لمجرد الدعاية والترويج بل عن جدارة وإخلاص للمسرح الإقليمي في الغربية وجامعة طنطا ومديرية الشباب والرياضة وشرائح المسرح الاقليمى  فى الصعيد والدلتا.. كم من المسرحيات والعروض التي أمتعت الجماهير دون استعلاء أو استعراض لقدرات إخراجية مظهرية ومستفزة.. قمة البساطة أيها الجميل واختيارات مبهجة في عروض قيمة وجماهيرية فى نفس اللحظة، وهى معادلة صعبة لو تعلمون، كل الكبار فى مصر يعلمون من هو السيد فجل حتى في مرضه الأخير تنافس العديد في الدعم والتضامن ومهاتفة الوزيرة لعلاج الفنان والإنسان، وهذا حقه على الوطن الذي كان يعشقه ولم يغترب هروبا قدر ما هو إيمانا بالمسرح في كل مكان فى الوطن العربي.. لحق بكل من نحبهم سمير العدل، فوزي سراج، طه عبد الجابر، وغيرهم. هو الآن فى زمرة المحبين الأنقياء. وتابع : كان قد حضر المؤتمر العلمي للمسرح فى المنيا وأبدى سعادته حينما عرضت عليه العمل مع قومية المنيا وقال حرفيا: ( المنيا بلد اخناتون وطه وجمال الخطيب والمسرح يبدأ من عندكم )، كم هى جميلة صراحتك، كم هو جميل وضوحك وتواضعك أيها الكبير بحق، رحلت مودعاً وتركت لنا رصيدا لا ينفد من الحب والعطاء وتاريخا لا ينسى، لروحك السلام حيث ترقد فى جنة الخالدين أيها العابد الزاهد الرزين.

بداية مشواري 
وروى المخرج سعيد منسي أحد المواقف الهامة له مع المخرج الراحل فقال:  حكم لي في أولى عروضي التى شاركت بها فى مهرجان زفتى عام 1997 ومنحنى جائزة الإخراج، فكانت بمثابة الدافع لي في بداية مشواري المسرحى. و هو أحد أهم مخرجي الثقافة الجماهيرية، كان مخلصا لهذا المسرح بشكل كبير وترك بصمة فى العديد من الأماكن، كما تتلمذ على يديه العديد من الأجيال. 

ظاهرة لن تتكرر 
فيما قال عنه المخرج احمد البنهاوي : السيد فجل ظاهرة لن تتكرر في المسرح، فقد بدأ من الصفر حتى وصل إلى القمة، ممثلا ثم مخرجا فى الجامعات ومراكز الشباب والثقافة الجماهيرية. هو مناضل مسرحي من الطراز الفريد، كافح وربى العديد من الأجيال في مختلف المواهب و من تلامذته الكاتب المسرحى د. طارق عمار والفنان حاتم الجيار، فهو مدرسة أفرزت العديد من المواهب فى التأليف والإخراج والتمثيل، وقد كان مشوار حياته حافلا بالانتصارات، وعلى المستوى الإنساني فهو إنسان مضياف وكريم، لم يتسبب في اى مشكلة طيلة عمره الفني، وكان إنسانا بسيطا.. رحمه الله .

 معلم من طراز فريد 
و تحدثت الكاتبة الصحفية شيماء منصور فقالت: عندما التحقت بمسرح جامعة طنطا  كان الجميع ينصحني بالعمل مع المخرج العظيم السيد فجل الذي يعد معلما من طراز فريد، وكان هدفي فى هذه الفترة ان اعمل معه وعندما سنحت الفرصة كانت بالنسبة لى من أهم الفرص فقد تعلمت الكثير على يديه، وكان كل زملائي فى الجامعة ومن فريق المسرح يجتمعون على حب هذا المبدع العظيم وعلى المستوى الإنساني كان أبا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وكان يلقب بشيخ المخرجين .

محظوظ بتلمذتي على يديه 
الممثل والمخرج أحمد الرمادي قال: كنت واحدا من أبناء جيلي المحظوظين بتلمذتهم على يديه، وكنت وأنا فى الفرقة الأولى بمسرح الجامعة أتمنى ان أعمل معه وبالفعل تحققت أمنيتي بالعمل معه في أكثر من عرض، وكنت أشاهد تعبيرات وجهه التي تتغير فى كل لحظة يقوم برسم مشهد فيها،  فقد كان شغوفا بكل لحظه تمر فى عمله المسرحى، وعندما التحقت بالمعهد العالي للسينما دعمني وهاتفنى وقام بتهنئتي وكذلك عندما التحقت بمعهد الفنون المسرحية. 
فيما قال المخرج عبد الرحمن المصري: فى عام 1985 كنت أشارك فى مهرجان زفتى المسرحى بعرض « الكل في واحد « وكان الراحل  السيد فجل والفنان سمير زيدان فى مأمورية  وشاهدوا العرض بالصدفة ولم تكن هناك صداقه قوية تربطني بهما فى هذا التوقيت، وعقب العرض أقيمت ندوة لمناقشته وهاجم المناقشون العرض بشكل كبير، و فوجئت بأن السيد فجل يثنى على العرض بشكل كبير وكان هذا سببا فى أن أحصل على المركز الأول و أفضل مخرج.. أما اللقاء الثاني به فكان عندما كان وكيلا لمديرية الشباب والرياضة ومشرفا على قطاع الطلائع وكان لنا صديق وهو فوزي شرف يقدم مسرحية « والله زمان يا مصر» وغاب بطل العرض وكانت هناك لجنة رئيسها الراحل السيد فجل، واستعان بى المخرج  وأعطانى النص وقمت بعمل الحركة سريعا وبالفعل حصل العرض على المركز الأول وحصلت على أفضل ممثل وأثنى عليه المخرج السيد فجل للمرة الثانية.


رنا رأفت