يسري الجندي.. صانع الأسطورة الباحث عن الشخصية المصرية

يسري الجندي.. صانع الأسطورة الباحث عن الشخصية المصرية

العدد 760 صدر بتاريخ 21مارس2022

1- بالأمس القريب رحل عن عالمنا كاتب قدير وفنان نادر هو الراحل “يسرى الجندي” الذى جمع بين التأليف المسرحي والسينمائي والتليفزيوني فى أعمال تربو على ستين عملاً مرئياً ومسموعاً.
 وليست هذه كل قيمة يسرى الجندي، وإنما تتمثل قيمته الحقيقية – من وجهة نظري – فى أنه واحد من قلة من الكتاب يشغلهم الفن كقضية – وهذا سر تنوع كتاباته – ويشغله العمل على اكتشاف طبيعة الشخصية المصرية – وهذا سر تميزه فى إبداعه. والذين انشغلوا بمثل ما انشغل به يسرى الجندي هم أولئك الذين تميزت أعمالهم بروح الشعب وطبيعة السلوك الإنساني المميز لها فى مواجهة المشكلات والأزمات على اختلاف طرائق اختياراتهم الفنية. بدءا من محمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم ومحمد فريد أبو حديد ومحمد سعيد العريان ومحمد عوض محمد ويحيي حقي ونجيب محفوظ إلى يوسف إدريس وإدوارد الخراط وجيل جاء فى عقبه عرف نقديا بجيل الستينات الذى انصهر فى القضايا القومية واجتهد لاكتشاف تلك الروح التى تبدو ساكنة على السطح فإذا جد الجد فارت وظهر غليان ما تحت السطح وصبر الانتظار حتى لحظة الانفجار.
 يسرى الجندي واحد من هؤلاء المنقبين عن تلك الروح لإعادة كشفها وضاءة أمام أجيال كاد أن يخيب أملها لولا تلك الشعلة التى أضاءها الفن.
 تتجلى هذه الروح فى أعماله ومنها “على الزيبق” و”المحاكمة” و”الإسكافي ملكاً” و”ما حدث لليهودي التائه” التى أعيد عرضها بعد خمسة عشر عاماً باسم “القضية 88” ثم أعيد عرضها مرة ثالثة بعنوان ثالث هو “السيرك الدولي” كما تتجلي أعماله أيضاً فى بعث “السيرة الهلالية” من بطون كتاب السيرة  ليعيدها برؤية جديدة. ويتجلى أيضا فى مسلسل “عبد الله النديم” وفى  فيلم “سعد اليتيم” ودراما “خيبر” و”مملوك فى الحارة” و”جحا المصري”.. هذا على سبيل المثال وهذا لا يعني أن ما لم يأت ذكره اقل أهمية، فالحديث عن يسرى الجندي وأعماله لا يكفيه مقال وإنما يحتاج إلى كتاب تحليلي كبير ليشمل معظم أعماله الهامة كنهاية العالم ليس غدا والمدينة والحصار وعلى بابا تلك الثلاثية الدرامية القيمة، ورابعة العدوية، وواقدساه، وحدث فى وادي الجن، وحكاوي زمان... وكثير من الأعمال التى تتفرد أيضا بقيمة فنية متميزة كثلاثية ألف ليلة وليلة التى ضمت “على بابا والأربعين حرامي” و”السندباد” و”معروف الاسكافي”.
2- كيف ندعي أن يسرى الجندي صانع الأسطورة، والأسطورة بطبيعة ظهورها قديمة قدم الإنسان فى أولي مراحل تأمله وتفكيره فى ذاته والكون المحيط به الذى وجد فيه ومصيره الغريب فى الحياة كما كان يتصوره فى بداياته الأولي التى أنتجت تصورات فنية تحاول فك لغز الوجود فى أعمال وصلت إلينا بعد ذلك وبعد أن أمكن فك شفرتها اللغوية بعد أن تحولت الأساطير إلى شعر ورواية تحكى ودراما تحاور. هكذا عرفنا “جلجامش” و”إيزيس وأوزوريس وحورس” و”الشاهنامة” و”المهابة هرتا” فى حضارة الشرق، كما عرفنا الإلياذة والأوديسة” والأعمال والأيام عند الإغريق والإنيادة عند الرومان، وأنشودة رولان عند الفرنسيين والفردوس المفقود عند الإنجليز علي سبيل التمثيل. ثم جاء كُتّاب فى العصر الحديث واستشعروا بعد المسافة بين عذوبة الخيال البدائي وجفاف المعرفة العقلية التى نتجت عن عصر المعرفة العلمية والتجريبية وصرامة قوانينها. فظهرت فى الأدب حالة جديدة من الإبداع تستفيد بجمال قضاياها المستجدة فى العصور الحديثة. هكذا أعاد جوته وأندريه جيد أسطورة فاوست، وبرنارد شو وتوفيق الحكيم أسطورة بجماليون، وجان كوكتو أسطورة أوديب وجان بول سارتر أسطورة أورست. كما فعل يسرى الجندي فى استلهامه روح الشرق فى ألف ليلة وليلة وعنترة والسيرة الهلالية واستعاد الروح المصرية فى على الزيبق وسعد اليتيم وهو ما أحاول أن افصله فى العجالة الآتية: 
 على الزيبق.. إنسان مصري بسيط فى ظاهره، لا يصل إلى أعماق نفسه أحد، لا يتظاهر ببطولة زائفة، ولكنه إذا جد الجد ظهر فعله وذكاؤه وبطولته وفدائيته ونجاحه فى قهر أعدائه. وقد عالج أسطورة على الزيبق الراحل “فاروق خورشيد” فى عملين هما “على الزيبق” و”ملاعيب على الزيبق”. وقد نحا يسرى الجندي المنحي ذاته فى إعادة إحياء بطولة على الزيبق فى صورة جديدة هى “الخداع “ أي أن يكون ظاهره شئ وباطنه الذى يضمره شئ آخر وهذا هو الخداع أو لنقل “عبقرية الخداع” فى قدرة على الزيبق على التنكر بالهيئة والصوت والفعل.
      والزيبق له من اسمه نصيب كبير، “فالزئبق” هو المعدن السائل الذى لا يندمج مع أي سائل آخر، لكنه بحكم سيولته يمكن أن يتخلل الحجر وذرات الرمل والأسطح الملساء ويظل منفصلا عنها تستطيع أن تفصله عنها وتعيده إلى كيانه المستقل بغير تأثر بالعناصر التى تمدد خلالها. وهذه هى شخصية “الزيبق” بالعامية المصرية. فهو على بساطته ابن بطل مغدور بتآمر الطامعين فيه. ورث البطولة فى جيناته ولم يكتسبها بالتعلم، فكل من كان حوله كانوا يحذرون من تعريفه بعظمة أبيه وسبب سقوطه حرصاً عليه وعلى حياته. ولكنه يشب هكذا حراً يرفض ظلم الظالمين.. ومن أظلم من حاكم ظالم أو مملوك باطش.
 كانت القضية عند “الزيبق” هى بطش المقدم “سنقر الكلبي” الذى وظف عمله الشرطي للسيطرة والبطش وظلم العباد بدل أن يكون يداً تنير للناس سبل حياتهم بالعدل. كانت مهمة الزيبق التى وهب لها نفسه هى وقف الظلم والانتقام من الظالم وحاشيته، فكيف يفعل هذا وهو فرد وحيد فى وجه جماعة تمكنت وحكمت  وظلمت وجرحت وأهانت وأخافت؟ لم يكن أمامه إلا طريقته الخاصة لضرب الباطش وإنزال الرعب فى قلبه كما أنزله فى قلوب الناس.. أما طريقته فكانت ذكاؤه واستخدامه الحيلة والقدرة على الخداع بالتنكر بالهيئة والصوت والصورة وهى وسائل مواجهته أو سلاح مواجهته لعدوه مما قلب ميزان القوة وأقلق سيدة النظام المتحكمة فى سطوته “المقدم دليلة” التى جاءت لتنقذ النظام مما تورط فيه تابعها “سنقر الكلبي” وتبحث عن حل لذلك المخيف الغامض الذى أهان تابعها وهدد وجود نظام تعتليه. هكذا نجح الزيبق الذى لا يملك قوة عدوه.. أن يهزم عدوه ويعيد للمظلومين الثقة فى ذواتهم وتحول إلى أنشودة تُغني، وأمثلة تضرب، وحكم يستدل بها على قوة الحق بالرغم من بطش الظلم.
3- أما فى فيلم “سعد التيتيم” فنجد أننا أمام عالمين مختلفين تماما أحدهما عالم الحياة المعاشة أو ما يطلق عليه العالم الفزيائي، وعالم فى الظل لا يكاد يشعر به أحد لأنه يعيش على قيم ومبادئ لم تعد سائدة. العالم الأول عالم الأقوياء الذين يعيشون بقوة النبوت والتجبر على عباد الله ممن لا حول لهم من ناحية، وفى الناحية المقابلة عالم الأثرياء الذين احتكروا فن البيع وصارت التجارة والكسب هما أداتاً قوتهم. فإذا حاول زعيم من العالم الأول أن ينسي جبروته ويفكر فى عباد الله الذين لا حول لهم ولا قوة أكله أصحابه وذبحوه ليعودوا إلى سيرتهم السابقة فإذا ضاق الحال بهم هددوا بنبابيتهم جيوب أثرياء الوكالات التجارية على ظن أن النبوت غالب فى الصراع فإذا الحقيقة تتكشف أن أهل المال حموا أنفسهم من بطش أصحاب النبوت بأجراء لهم يواجهون القوة بالقوة فى صراع دموي لا يهدأ إلى أن ينتهي بزوال فئة وبروز الفئة الأخرى. وكأنها معركة بين ذكاء شرير وغباء شرير. فهل العالم كما رآه يسرى الجندي سئ إلى هذا الحد من السواد الدموي.
 الحقيقة أن المثل الشعبي يصحح المعني بقوله “يخرج من ظهر الفاسد عالم” أو “يعمل من الفسيخ شربات” أما “الشربات” فى الملحمة السينمائية فهو الابنة الوحيدة لزعيم الفتوات الباطش أو نقطة ضعفه التى طمع فيها الشرير الآخر صاحب المال الذى يدعمه ويوجهه من وراء الستار “موسي” المستغل الانتهازي الذى يضع نصب عينيه أن يعود إلى حيث يري أنها حقه.. المكان الذى تعيش فيه وتخدمه المرأة الطيبة “كرمات” ويأوي إليه جماعة من الضعفاء الذين ضاقت بهم الحياة ففروا وأووا إلى ذلك المكان المبارك. وكان فيمن أوي إليه طفل رضيع جاءه فى عربة فاخرة ما زالت موجودة فى التكية طفل بلا أهل ولا حول ولا هوية.. ربته السيدة كرمات وأطلقت عليه “سعد اليتيم” وهو العامل المكافح الذى شذ عن قاطني “التكية” واختار العمل وسيلة للحياة والشرف قيمة والأمانة طريقاً، وفى المقابل كان موسي يشعل الحروب والفتن ويزين لصاحبه حب المال والتجارة ويغريه بالمزيد طمعاً فى هدف يحلم به هو الاستيلاء على “التكية” بدعوى أنها تأوي عظام جده أو أجداده.. وفى لحظة صدق يقذف صاحبه فى وجهه بحقيقة مؤلمة.. “أنت يا موسي لا يعرف لك احد أهل.. مالك والتكية؟”.
 من خلال هذه التناقضات.. تتفاعل الصراعات حتى تبرز شخصية “سعد اليتيم” فهو ابن أصل وابن رجل نبيل وأنه سلسال كابر ووارث رجل يمجد الناس ذكره لأنهم لمحوا فى زمانه العدل لمحة خاطفة قبل أن تتكالب عليه الأشرار ويسفكوا دمه ودم وزوجته ليجد الطفل من يحمله وينقذه من مصيره المحاك له إلى التكية ليعيش مجهولا حتى تدور الأيام دورتها وتعيده إلى تاريخه المنسي ليبدأ سلسلة من تحقيق العدل وإحقاق الحق. 


عبد البديع عبد الله