العلاقات المسرحية والفنية بين مصر وتونس (13) بديعة والمطربة نادرة في تونس

العلاقات المسرحية والفنية بين مصر وتونس (13) بديعة والمطربة نادرة في تونس

العدد 744 صدر بتاريخ 29نوفمبر2021

علمنا من المقالة السابقة أن «بديعة مصابني» بطلة فرقة «نجيب الريحاني» التي حضرت إلى تونس، قامت بتمثيل بعض الليالي التي تمّ عرضها على المسرح البلدي بالعاصمة تونس؛ ولكنها لم تستكمل عروض الفرقة في بقية المدن التونسية، لأنها عادت إلى مصر فجأة، وتخلت عن الفرقة وتركتها تعرض المسرحيات المتبقية في المدن التونسية والجزائرية والمراكشية. كما علمنا أن بعض أعضاء فرقة نجيب الريحاني تخلوا أيضاً عن الفرقة، ولم يسافروا معها إلى الجزائر، وظلوا في تونس وكونوا مع بعض التونسيين والتونسيات فرقة موزيكهول للغناء والرقص والتمثيل، وعملوا معاً في صالة «نزهة النفوس الجديدة».

رقص وغناء تونسي
عادت بديعة مصابني من تونس إلى مصر في مارس 1933، فنشرت مجلة «الكواكب» صورتها على الغلاف وكتبت عبارة، قالت فيها: «السيدة بديعة مصابني الراقصة البارعة وقد افتتحت أخيراً صالتها بشارع عماد الدين بعد عودتها من تونس فلقيت نجاحاً كبيراً». والقارئ لن يجد شيئاً ملفتاً للنظر في هذه العبارة، ولكن عندما يتصفح المجلة من الداخل، سيجد إعلاناً لصالة بديعة الجديدة، ويتصدر هذا الإعلان عبارة تقول: ««صالة بديعة» إدارة ملكة الرشاقة الفنانة بديعة مصابني، تقدم لأول مرة مغنى ورقص تونسي غاية في الإبداع»!! وفي عدد آخر وجدنا الإعلان نفسه بصيغة أخرى، جاء فيه: ««أفخم صالة شرقية .. صالة بديعة» مجتمع الطبقات الراقية، مغنى ورقص تونسي ومنولوجات فرانكو أراب من ملكة الرشاقة الفنانة السيدة بديعة مصابني».
وهناك عشرات الإعلانات المتكررة حول صالة بديعة، بما تقدمه من رقصات وأغنيات تونسية، ولأول مرة كما جاء في الإعلان!! فهل هناك علاقة بين وجود بديعة في تونس، وبين عودتها فجأة إلى مصر، ثم افتتاحها لصالتها بالمغنى والرقص التونسي لأول مرة!! هل هذا يعني أن بديعة أحضرت معها مغنيات وراقصات تونسيات عملن معها في صالتها، لا سيما وأن مجموعة من أعضاء فرقة نجيب الريحاني انشقوا عليه في تونس، وكونوا مع مجموعة من التونسيين والتونسيات فرقة عملت في إحدى الصالات التونسية، كما أوضحنا في المقالة السابقة؟! أم أن بديعة استطاعت – هي أو غيرها من المصريات – تعلم الغناء والرقص التونسي أثناء وجودها في تونس، وقامت بتأديتهما في الصالة بالقاهرة؟! مهما كانت الإجابة، فالواقع يقول إن بديعة قدمت رقصاً وغناء تونسياً في صالتها بمصر «لأول مرة» بعد أن تركت تونس مباشرة، مما يعني وجود علاقات فنية تمت في هذه الفترة بين الفنين المصري والتونسي.

الرحلة المعتمدة
بعد مرور عامين وجدنا المجلات الفنية تشير إلى قُرب زيارة فرقة غنائية استعراضية مصرية إلى بلاد المغرب العربي - طرابلس الغرب وتونس والجزائر ومراكش - وعلى رأسها بديعة مصابني والمطربة نادرة، التي تألقت مؤخراً في السينما المصرية! وفي مارس 1935 نشرت مجلة «الصباح» بعض أسماء أعضاء الفرقة، ومنهم: أحمد شريف، وفريد غصن، ومحمود الشريف، وأحمد الحفناوي، ومحمود رمزي، وفهمي أمان، وأحمد غانم. وقام أصحاب الصالات الأخرى بتوديع بديعة ونادرة على رصيف ميناء الإسكندرية، أمثال: ماري منصور، وفتحية محمود. هذا بالإضافة إلى وداع موريس قصيري، والمسيو إيزاك مدرس الرقص، والراقصة ميمي وفؤاد الجزايرلي، وأرسل أبو السعود الإبياري برقية على ظهر الباخرة يعتذر فيها عن عدم تمكنه من التوديع لمرضه!
وفي أواخر مارس نشرت مجلة «المصور» موضوعاً عنوانه «رحلة نادرة وبديعة»، قالت فيه: وصلتنا اليوم رسالة من الفرقة تاريخها 6 مارس الجاري تعيد إلى الأذهان مدى النجاح الكبير الذي صادف الفرقة في طرابلس الغرب، ورفع إيراد الحفلات الأربع إلى مستوى يعتبر رقماً قياسياً. وبعد أن انتهت الفرقة من طرابلس قامت برأ إلى صفاقس بتونس، وقد صادفها في الطريق برد شديد أثّر على أفرادها، ونال من صوت السيدة «نادرة» وكانت تذاكر الحفلة الأولى قد بيعت عن آخرها. واضطرت السيدتان بديعة ونادرة إلى الاعتذار للجمهور عن العمل في تلك الليلة مع سريان تذاكرها إلى الليلة المقبلة. هذا وقد أشارت الرسالة إلى أن ألحان الأستاذ «فريد غصن»، وهو أحد أعضاء الفرقة قد لقيت هناك استحساناً رائعاً فكتبت عنها الصحف من عربية وتونسية مشيرة إلى أنها تعتبر ألحاناً عالمية يطرب لها الشرقي والغربي. ومن ألحان فريد غصن التي قوبلت بمزيد الاستحسان قطعة «الرومبا» التي غنتها السيدة نادرة في فيلم «شبح الماضي».
أما مجلة «الصباح» فنشرت تقريراً مطولاً بعنوان «رحلة فرقة نادرة وبديعة في طرابلس الغرب وصفاقس وسوسة وتونس»، أسهبت في وصفها لعمل الفرقة في المدن الليبية وما نالته من تكريم، ثم انتقلت إلى نشاط الفرقة في صفاقس، قائلة: «انتهت حفلات طرابلس الغرب وسافرت الفرقة بجميع أفرادها إلى صفاقس من أعمال تونس، وأحيت بها أربع حفلات كان الإقبال عليها عظيماً. وقد تبرعت السيدتان نادرة وبديعة مصابني بمبلغ 20% من إيراد الحفلة الرابعة إلى جمعية قدماء المكتب العربي الفرنساوي، وجمعية البر العربية. وقد شرف الحفلة الأولى جناب القائد العام وخليفته، وأنعم بنيشان صفاقس الرفيع على السيدة نادرة، وقد أنعم بمثل هذا النيشان على السيدة بديعة في رحلتها السابقة. وفي الليلة الأخيرة قدمت الجمعية البلدية الصفاقسية وساماً للأستاذ فريد غصن إعجاباً بألحانه، كما تطوعت جمعية صفاقس بعزف موسيقاها في الحفلتين الأولى والرابعة مجاناً. وقد رحبت فرقة جمعية التهذيب بجميع أفراد الفرقة واستقبلوهم استقبالاً كبيراً. وفي الليلة الختامية ألقى الأستاذ «مصطفى مهذب» كلمة قال فيها: «يا ضيوف مصر الأفاضل، لقد حللتم ضيوفاً عندنا فأكرم بكم من ضيوف، فباسم الشباب المدرسي الصفاقسي أرحب بكم وأحييكم أطيب تحية، وإذا رجعتم لمصر بلاد الفراعنة بلغوها من شقيقتها تونس العزيزة سلاماً طيباً .. سلام أخت لأخت». وردت عليه السيدة بديعة مصابني بخطبة طويلة جاء فيها: «بالنيابة عن السيدة نادرة وبالأصالة عن نفسي أقول إن فؤادنا يرقص طرباً مما رأيناه من كرم الشعب التونسي وخصوصاً شباب صفاقس الناهض فشكراً لكم وألف شكر، وأعدكم بأنني سأحمل رسالتكم إلى شباب مصر وختاماً أهتف بأعلى صوتي ليحيا الشباب التونسي ولتحيا مصر العزيزة». ومن التهاني التي تقدمت إلى السيدة بديعة مصابني في طرابلس تهنئة رقيقة من المسيو «نينو» الذي يعد من أعلام الموسيقى وقد كتب لها عدة مقالات في الصحف. وأكملت المجلة تقريرها، قائلة: وصلت فرقة نادرة وبديعة إلى سوسة يوم 11 مارس، وأقامت بها أربع حفلات، وكان الإقبال عليها لا بأس به، غير أن إدارة الفرقة لاحظت أن هذا يرجع إلى ارتفاع أسعار الدخول فأعلنت للجمهور عن تخفيضها. ثم وصلت الفرقة إلى تونس يوم 15 مارس وبدأت حفلاتها.

آثار ورطة الريحاني
تحدثنا في المقالة السابقة عن ورطة الريحاني في مدينة تونس، وكيف أن تأخر الفرقة في أحد الموانئ بسبب إصابة بعض ركاب الباخرة بالطاعون، أدى إلى تأخر وصولها إلى تونس، مما أضاع على الفرقة مكسب أربع حفلات، تسببت في تراكم الديون على الريحاني كما أوضحنا. ولكن هناك أمراً لم ننتبه إليه، وهو أن من ضمن الديون إعلانات تم نشرها في جريدة «النهضة» التونسية عن العروض المسرحية التي من المفروض عرضها في الحفلات الأربع التي لم تتم، وبالتالي لم يدفع ثمنها الريحاني وقتذاك حيث إنها إعلانات لحفلات لم تتم على أرض الواقع! هذه الحادثة تجددت مرة أخرى أثناء وجود بديعة في تونس! وكتبت عنها مجلة «الصباح» توضيحاً، قالت فيه:
«أما ما أشيع عن تفكير البعض في محاربة الفرقة فلم يحصل، وقد رحبت أكثر الصحف بالفرقة، والجريدة الوحيدة التي انتقدت حضور فرقة نادرة وبديعة إلى تونس هي جريدة «النهضة» الغراء. وقد صرح الأستاذ البشير المتهني لبعض الصحفيين أن إدارة جريدة النهضة لها متأخر حساب إعلانات على فرقة الريحاني، وكانت تريد أن تدفع بديعة المبالغ المتأخرة من أجور إعلانات فرقة الريحاني؛ ولكن الأستاذ البشير المتهني قال إن بديعة شيء والريحاني شيء آخر ومن هنا سوء التفاهم!
وتعليقاً على هذه الحادثة، نشرت المجلة كلمة لأديب تونسي – لم تذكر اسمه – قال فيها: «تأتي كل يوم إلى تونس الفرق التمثيلية المختلفة من طليان وفرنسيين وروسيين، فتشاهدها الجاليات المختلفة في أدب واحترام. وتشيعها بعطف وشكر. ولم نسمع أن الجالية الإيطالية مثلاً أعلنت الحرب على فرقة قدمت من إيطاليا لأنها قصرت في كذا وكذا. أو الجالية الفرنسية تصب غضبها على فرقة من جنسها لأنها ارتكبت كيت وكيت. أما نحن التونسيون فكل فرقة شرقية يربطنا بها ألف رباط من اللغة والذوق والجوار فلا بد أن ننتصب لمناقشتها الحساب وننظر إليها كما ننظر إلى الغزاة المغيرين على الوطن ليسلبوا خيراته ويعودوا بها إلى بلادهم ثم لا نستنكف من أن نستجدي منهم الدريهمات التي يحصلونها جزاء عملهم ولطفهم للبر بفقرائنا!!
كما أشارت المجلة إلى محاولة البشير المتهني تلطيف الأجواء مع «جمعية أحباء الطلبة»، التي اتخذت موقفاً عدائياً من نجيب الريحاني – كما أوضحنا في المقالة السابقة – وقالت المجلة عن هذه المحاولة: «وكان السيد البشير المتهني قد عرض على حضرات الأساتذة أعضاء مجلس إدارة جمعية أحباء الطلبة استعداد فرقة نادرة وبديعة إحياء حفلة أو حفلات يخصص بعض ريعها لمساعدة الجمعية على أغراضها الخيرية والإنسانية. غير أن مجلس إدارة الجمعية أصدر بياناً شكر فيه السيد البشير المتهني على حُسن عواطفه وجميل مسعاه واعتذر عن قبول المعاونة من الفرقة، وقال في بيانه إن فرقة بديعة والريحاني عندما كانت في تونس بالمرة السابقة لم تنفذ وعداً كالوعد الذي تعرضه اليوم».

جمعية أحباء الطلبة
من الواضح أن مسألة «جمعية أحباء الطلبة» كانت العقبة الوحيدة التي من الممكن أن تفسد رحلة فرقة نادرة وبديعة في تونس، بل وكان من الممكن أن تترك أثراً أسوأ من الأثر الذي تركته فرقة الريحاني!! لذلك اهتمت مجلة «الصباح» بالموضوع وتابعته بالنشر حتى اتضحت الأمور ومرت الأزمة على خير، وكان النجاح من نصيب الجمعية والفرقة معاً!! لذلك نشرت المجلة في منتصف إبريل 1935 كلمة بعنوان «رحلة فرقة نادرة وبديعة»، قالت فيها:
«أوقفنا القراء في العدد الماضي على ما صادفته فرقة نادرة وبديعة في رحلتها بطرابلس الغرب وصفاقس وسوسة من نجاح. وقلنا إن الفرقة عند وصولها إلى تونس أعلنت رغبتها في التنازل عن عشرة في المائة من الإيراد لجمعية أحباء الطلبة بتونس غير أن الجمعية اعتذرت مبدئياً عن قبول هذا التبرع لسابق وعد فرقة الريحاني بمثله حينما كانت بتونس ولم تنفذه، وهنا بدأ موقف الفرقة يتحرج خصوصاً وأن دعوة وجهت ضد حفلاتها. لكن كثيرين من العقلاء توسطوا في الأمر وأحيت الفرقة حفلة خصصت كامل إيرادها للجمعية الخيرية الإسلامية، كما تبرعت الفرقة لجمعية أحباء الطلبة بعشرة في المائة من إيراد حفلتين، وقبلت هذه الجمعية في النهاية هذا التبرع. ثم خفضت الفرقة أسعار الدخول أيضاً. فاستطاعت بهذه الوسائل الخيرية وبتخفيض الأسعار أن تتخلص من موقفها الحرج وتفوز برضاء إخواننا التونسيين. حيث أقبل الجمهور على حفلاتها وكتب لها النجاح التام. وجاءنا من تونس أن المتفرجين في الحفلات أعجبهم من السيدة نادرة جميع أغانيها ما عدا قطعة «الرومبا» التي ظهرت في فيلم «شبح الماضي» وأعجبهم من مونولوجات بديعة «بدعدع» و«في الضلمة يا محلا الضلمة». وفي الحفلات الخيرية التي أحيتها الفرقة أهدى الجمهور إلى السيدة نادرة وإلى السيدة بديعة باقات جميلة من الورد. ولو أن الفرقة أحيت حفلات أخرى في تونس فوق التي أحيتها لنجحت؛ ولكنها اضطرت إلى السفر إلى الجزائر تنفيذاً لعقد اتفاق سابق».
ونختتم رحلة بديعة ونادرة إلى تونس، بما ذكرته مجلة «آخر ساعة» في مايو 1935، حيث أشارت إلى أن التونسيين شاهدوا المطربة «نادرة» لأول مرة وجهاً لوجه، حيث إنهم شاهدوها وسمعوا غناءها عبر فيلمين سينمائيين الأول «أنشودة الفؤاد» والآخر «شبح الماضي». كما ذكرت المجلة أرقاماً مهمة، ربما تعكس بعض الحقائق، حيث قالت:
«.. وتوجهت الفرقة إلى الأقطار التونسية حيث نزلت في صفاقس فبلغ الإقبال في هذه البلاد حداً كبيراً، ومكثت الفرقة ثلاثة أيام سافرت بعدها إلى سوسة بتونس وكانت بعض الجرائد التونسية قد حملت على السيدة بديعة قائلة إنها رفضت العمل للجمعيات الخيرية، ولكن بديعة أعلنت أنها مستعدة للتبرع للجمعيات الخيرية عن طيب خاطر، وخصصت 20% من الإيراد لذلك الغرض النبيل فبلغ في صفاقس 950 فرنكاً بعد المصاريف. ولا شك أن هذا عمل جليل يستحق الشكر ثم تبرعت ب800 فرنك منها 500 فرنك من إيراد الحفلة و300 فرنك من جيبها الخاص. ووصلت الفرقة إلى تونس وأحيت خمس ليال لحسابها والسادسة للجمعيات الخيرية، وخصصت من أرباح الحفلات الخاصة بالفرقة 10% لجمعية «أحباء الطلبة» فبلغ ما خص الجمعية 2015 فرنكاً وتبرعت بديعة للجمعية الخيرية بمبلغ 1600 فرنكاً وقد خطب في الحفلة الأستاذ الشاعر التونسي «أبو رقيبة» وهتفوا في الحفلة باسم جلالة الملك فؤاد ومصر والمصريين. ومما لفت النظر أن أصغر قرية في تونس بها مسرح أفخم من أي مسرح بمصر، وأغلب هذه المسارح مكون من خمسة أدوار».


سيد علي إسماعيل