كتاب التسعينات مسرح الأصوات المتعددة

كتاب التسعينات   مسرح الأصوات المتعددة

العدد 744 صدر بتاريخ 29نوفمبر2021

سلطة الكاتب: الذاتية / الرؤية الأحادية
الكاتب: العقل المدبر وصاحب الفكرة، المتحدث الأوحد على لسان شخوصه، و بالتبعية تتسم كل النصوص صاحبة المؤلف الفرد بكونها حاملة وجهة نظره فكريا وبصمات أسلوبه تقنيا أو على أكثر تقدير نتاج مختلط لافكار متبادلة بين الكاتب والمخرج في الفرق المسرحية مثل ثنائي نجيب الريحاني وبديع خيري - الكسار وأمين صدقي - حديثا محمد صبحي ولينين الرملي وغيرهما.
هذا هو الشكل المتعارف عليه عبر تاريخ الكتابة المسرحية، سواء كان ما قدموه ( اقتباس- نصوص مترجمة/أساطير - تمصير - إعداد عن روايات - كتابة خالصة ) كلها تخضع لسلطة المؤلف، أو المؤلف والمخرج معا .
وإذا اُعتبر البعض الارتجال في الاسكتشات المسرحية على نص مكتوب بالفعل أو مُمَصر هي نوع من الكتابة الجماعية مثلها مثل ما ظهر من أشكال كتابة مسرحية في التسعينات في مصر، أعتقد أن هذا منافي للواقع، الارتجال في هذه الحالات هو تنكيت وتنبيط وإطار كاريكاتيري على محتوى وأفكار ومشاهد موجودة بالفعل، أو ارتجال الرواة الشعبيين في مسرح السيرة ببعض الإضافات أو المحذوفات بحكم أن النص منقول شفاهة عبر الأجيال.
أما ما حدث في كتابة التسعينات في مصر وسبقها العالم في هذا النوع من الكتابة منذ السبعينات - كانت منظومة وآلية مختلفة تماما عن الارتجال بمفهومه السابق ولنبدأ بالبيئة المُفجرة لهذا الاتجاه :-
أولا :- إرهاصات جنينية
 ذكر الدكتور هناء عبد الفتاح في كتاب «المسرح القريب» لأحمد إسماعيل أنه في عام 1972 قدم مسرحية عن أحداث دنشواى بقرية دنشواى من ارتجالات الفريق تحت إشرافه، ثم قدم عبد العزيز مخيون والناقدة منحة البطراوي من 74 وحتى 77 تجربة «عزبة زكي أفندي» بالبحيرة عن مسرحية «الصفقة» لتوفيق الحكيم حول مشكلات ريفية وترك الفصل الثالث مفتوحا لتفاعل فلاحين العزبة وآراؤهم، بعد أن أُحبطت رغبته في أن يكون العرض بمجمله على ارتجالات الفلاحين لأن الثقافة الجماهيرية أرادت نص مكتوب ثابت ومعتمد بشكل مُسبق، وبرغم ذلك استطاع أن يقدم فيما بعد عرض اعتمد على ارتجال الفلاح الفصيح «سيد القحف» الذي حكي تجربة واقعية عن سرقة معونات اليونيسيف.
بالطبع تلك كانت أشكال جنينية وخلطة بين المسرح التفاعلي والمسرح المجتمعي والكتابة الجماعية والحكي وغيرها .

ثانيا : بدايات التشكل والبلورة مرحلة ما قبل التجريبي
 نأتي إلي مرحلة أكثر تبلور لظهور حرفية الدراماتورج في بدايات الثمانينيات عند المخرج أحمد إسماعيل في تجربته التي عُنونت حينئذ «بالإبداع الجماعي» حيث يلتف فريق عمل المسرحية (مخرج -مؤلف -كاتب - ممثلون- المؤلف الموسيقي -السينوجرافر) الجميع حول فكرة أو حكايات عن مكان ما أو مرحلة تاريخية وتبدأ جلسات العصف الذهني والنقاش واقتراح مراجع ( أفلام - أغاني - نصوص أدبية - مسرح - لوحات - أحداث -حكايات من البيوت - شهادات أفراد - أبحاث علمية ) كل هذا يُنَاقش ويخرج منه مقترحات بإطار عام ومدخل للنص المسرحي ثم أفكار لمشاهد وشخوص يتم الارتجال عليها كتابا وتمثيلا، وعبر النقاش والحذف والإضافة تحت قيادة المخرج والمؤلف والذي من الممكن أن يكون المخرج هو نفسه المؤلف أو الدراماتورج الذي يقود رحلة البحث والإبداع الجماعي وصولا إلى العرض مكتملا .
 في هذا الإطار قدم احمد إسماعيل مشروعه للإبداع الجماعي في ثلاث قرى (شما -الماى - شبرابخوم) وثلاث أحياء شعبية (باب الشعرية -الشرابية - منطقة دير الملاك بحدائق القبة) تحت إشرافه ومخرج لكل موقع مثال بهاء الميرغني - حسن عبده وغيرهما.
 واستعان فريق المسرحية في قرية شبرا بخوم بمراكز البحوث بكلية الزراعة لدراسة أثر المبيدات على الفلاحين، وذلك لكتابة نص عن رحلة بذرة القطن. وكان كتابة جماعية وخليط من التعبير الحركى والدراما المكتوبة .
بالتوازي كان «مسرح السرادق» للراحل صالح سعد وإن كان في فلسفة تكوينه هو مسرح احتفالي يجنح لعروض مسرحية تفاعلية خارج مسرح العلبة التقليدي في السرادقات والموالد والشارع يعتمد فيه الارتجال الحى و على إدارة تفاعل وحوار مع الجمهور يجدد من نسخة العرض كل يوم حسب إضافات الجمهور مثال جمهورية زفتى الذي عرض في بشتيل بإمبابة فى أواخر الثمانينيات
هنا فلسفة الفرق ومؤسسيها التي تعتمد المسرح كظاهرة اجتماعية تشاركية مع الجمهور أثرت بشكل كبير على توجه في الكتابة مختلف .
سواء بطريقة التفكير والكتابة الجماعية منذ البداية مثل أحمد إسماعيل أو اعتماد الارتجال والتفاعل جزء من العرض مما يستدعي ملازمة المؤلف للفرقة لإدارة تلك الارتجالات وآليات التفاعل مع الجمهور، أو يكون المخرج هو أيضا المؤلف مثل مخيون وصالح سعد.

ثالثا : التجريبي 1988 - المسرح المستقل 1989
طرح التجريبي على جمهور المسرح ومبدعيه أفكار وقضايا وأنماط مسرحية مغايرة جريئة وحرة متحدية الكثير من الابنية المعتادة للكتابة المسرحية وطرق الكتابة والإخراج والتناول وأيضا طرق التمثيل، حتى العمل على الكلاسيكيات الأدبية تم برؤى طليعية فقُدم هاملت مونودراما المكوجي الذي يُعاير بأمه في منطقة شعبية، وأبطال لير يظهرون على المسرح بملابسهم الداخلية كرمز لتعري وإدانة لتلك الطبقة .هذا ما اعتبره البعض تجروء على النص واعتبر البعض الآخر «أن النص المكتوب ملك للكاتب بينما العرض ملك للمخرج»، بالإضافة لهذا ظهر مسرح الدراما الحركية بدون كلمه ولا نص لغوي مكتوب، فقط حوار وجدل حر بين أجساد المؤديين.
هنا تعالى صراخ المؤلفين واعتبروا ما يحدث تعدي على سلطاتهم، بينما شعر المخرجون بقيود تدخُل المؤلف وكبح جماح حريتهم في التحليق.
خرج من رحم هذا الزخم فرق «المسرح الحر» أو المستقل تجلياته متمثلة في:-
- فرق مسرح التعبير الحركي والرقص المعاصر: نصوص حركية بلا كلمة واحدة بالجسد فقط نتخاطب ونرسل إشارتنا بما تحمله من دلالات وإيماءات وإيحاءات درامية
- فرق لمخرجات نساء يطرحن رؤية مختلفة لقضايا المرأة وحضورها الإبداعي.
- فرق أعتمد اغلبها طرق مغايرة في الكتابة بعضهم اعتمد طريقة إعادة تفكيك وكتابة وتأويل نصوص كلاسيكية على غرار ما فعله بريخت مثلا عن جان دارك في “جان دارك قديسة المسالخ “ عالميا عندما أراد أن يوجه أصابع الاتهام إلي الرأسمالية وتوحشها، مثال عروض عبير علي / فرقة المسحراتي في : “الرمادي “ عن 1984 لجورج أورويل/ “ 2015 بعد أن قامت المعدة آمال الميرغني بمسرحة الرواية قامت الدراماتورج وفريقها بتفكيك النص وإعادة كتابته انتصارا لفكرة التعددية وحق الاختلاف وتعدد صور الأخ الأكبر في مجتمع يخاف الآخر ويعتبره عدوه، ثم “تصبحي على خير يا ماما“ مارشا نورمان تم تفكيك وإعادة كتابة نص يكون متنه الأساسي هو الرغبة الجماعية في مغادرة الحياة وعبر إعادة التركيب طُرح سؤال ما هذا الواقع الذي يدفعنا إلى الاتفاق جميعا على المغادرة؟ وفي “إثبات العكس” لأوليفييه شتيارى استخدمت الإرشادات لخلق نص موازي على لسان طريدة المدينة التي تتكوم على أبواب البلدة مع نفايات المجتمع الاستهلاكي وتعيد تشكيل فرضيات النص من خلال قطع الصلصال.
 وطارق الدويري “فرقة المِخبر“ في عرض “المسيرة الوهمية” 2021 عن أعمال الكاتب رأفت الدويرى وانطلاقا من نصه الأساسي المسيرة الوهمية وخيول الخيال وخيول النيل حيث عمل مع فريقه على قراءة وتفكيك كتابات المؤلف واعادة تركيبها بنسق غير منطقي لبناء رؤية جديدة آنية، وكذلك طارق سعيد “ فرقة الضوء “ في “الساعات الست” 1986 عن مأساة روزنبرج تأليف ليون كراتشكوفسكي بنفس المنطق تفكيك وإعادة تركيب وبناء لصالح فكرة جديدة وهي قبل إعدام ايثيل وجوليوس روزنبرج - أثناء التحقيق وتصاعد المواقف وردود أفعالهم تبعا لسماع أصوات أطفالهم بالخارج وما يتبعه من صراع مع أنفسهم وبينهم ومع المحقق.
عند دويري الابن تكون الكتابة جماعية تحت محددات وأطر بناء الدراماتورج/ المخرج سواء كان تفكيك وإعادة كتابة مثل المسيرة الوهمية أو انطلاقا من فكرة تشكل هاجس مثل “الزومبي والخطايا العشر” عن تداعيات ما بعد ثورة 2011، وكانت مراجعها 451 فهرنهايت راي برادبيري و 1984 لجورج أورويل و عالم جديد شجاع ألدوس هكسلي والأعمال الشعرية لوديع سعادة وأعمال فلسفية لفوكو عن السجون، وكذلك “ الموقف الثالث “ كان مشاركة مع الكاتبة رشا عبد المنعم عن فكرة الحرب والموت مراجعها العادلون لألبير كامي/ أنتيغون / هاملت لشكسبير / أمام الباب لفولفجانج بورشت / الغول لبيتر فايس /مشعلو الحرائق لماكس فريش
في تلك العروض يقوم الدراماتورج باقتراح المراجع التي تتماهى مع الفكرة وتخلق وسط متجانس بينه وبين فريقه وبعد قراءتها يحدد البناء والتقنية المقترحة للكتابة ويبدأ بوضع الفرضيات للارتجال والكتابة وما يتبعها من طرح مراجع جديدة لاحتياجات تطوير الفرضيات مع وجود الكريجراف لأنه شريك أساسي في عروض طارق الدويري .
اما المرحلة التالية لبناء تلك العروض عند طارق الدويري تكون ارتجال المشاهد على إمكانيات الممثلين ومهاراتهم من غناء /حركة / لهجة / الشكل الفيزيائي للجسم ...الخ، وبالتالي يختلف العرض لو تغير الممثلين.
بنفس الطريقة يعمل أبو السعود مع اختلافات مثل أن الشريك الأساسي لأبو السعود هو السينوجرافر بعكس طارق شريكه الأساسي الكريوجراف. أيضا أبو السعود في عرض العميان اعتمد في الارتجالات على لوحة العميان لبيتر بروجل بشكل أساسي -بينما نص العميان لميشيل ديجل دوره كان محفز فقط، وكذلك أهل الكهف لتوفيق الحكيم كان المحفز للارتجال حول فكرة ماذا لو استيقظ أهل الكهف من سبات طويل هل سيقبلون التغيير أم يصرون على العيش في الماضي .أما طارق سعيد في أغلب عروضه المراجع هي محفز للارتجال ولا علاقة لنصها بنص العرض النهائي وأيضا ارتجالات الممثلين تكون محفز له على الكتابة النهائية للنص مثال “فتافيت الماس” عام 1999 عن 17 قصيدة لتشيكوف وصلاح جاهين و“ قاعد ولا ماشي“ المحفز كان كتاب جلال أمين
 “ماذا حدث للمصريين“ 2014 و”انصاف الثائرون” 1992 عن شخصية الفرفور عند يوسف إدريس و المحفز 13 قصة قصيرة ليوسف إدريس وبعكس طارق سعيد كان طارق دويري وعبير علي وأبو السعود ارتجالات الممثلين جزء أصيل في النص واحيانا تكون المراجع محفز فقط مثل عبير علي في عرض “أشباح مصرية“ كان نص الأشباح لهنريك أبسن وأطروحاته الأساسية العالم السري والعالم العلني للطبقة الوسطى هو محفز الكتابة والجمع الميداني والارتجالات لكتابة نص جديد تماما حول ازدواجية الطبقة الوسطى في مصر والموقف المزدوج من المرأة، أما باقي التجارب كانت المراجع والجمع الميداني وارتجالات الممثلين جزء أصيل من العرض النهائي مثال فرقة المسحراتي /عبير علي “فيفا ماما“ عن “أشياء عادية لملء الوقت“ بهيجة حسين، و“التاريخ الذى أحمله على رأسي” سيرة ذاتية لسيد عويس مع المادة المجموعة من حكايات الحياة اليومية، و عرض “حلو مصر “ عن شهادات المهجرين من مدن القناة عن الحروب التي مرت بها مصر وأشعار بريخت وشهادات 1956 دلال البزري وكتاب حرب السويس لهيكل .،وأيضا مثل فرقة الشظية والاقتراب / محمد أبو السعود في عرض “دير جبل الطير “ المرجع هنا بحث ميداني حيث سافر الفريق إلى المنيا لدير جبل الطير وحضروا مولد العذراء و سجلوا مع زوار المولد حول أمانيهم والأحلام التي سوف يرسلوها للطير عند ظهوره، ثم قام الفريق بقيادة أبو السعود بتفريغ المادة المجمعة في ارتجالات عبر أطر وألعاب درامية وضعها أبو السعود ثم أضاف للنص شخصية متخيلة وهي الراوية العرافة وصاغ الارتجالات، وفي” بريسكا “ استعان أبو السعود في التدريب بلوحات لجوكال وتماثيل رودان، وفي البوتقة لآرثر ميلر استعان برسومات شاغال كمحفز للارتجال، ولأن المشهد البصري هو الشريك الأساسي بدلالاته عند أبو السعود فقد كان يقوم برحلات للمتاحف مع فريقه لدراسة اللون وأطر العرض - الظل والنور، فهو يعد الممثل كجزء من السينوغرافيا - وهم يبحثون عن لوحات من وحى نوع الصورة التي سوف يقومون بها على المسرح .
عبر تلك التجارب مجتمعة تبلور مفهوم الدراماتورج عند كل فريق ببصمته الخاصة وبزغ نجم حرفية الدراماتورج انتصار لآلية البحث والتدريب المستمر والجمع الميداني لحكايات الحياة اليومية والأحداث مما مكن من تعدد الأصوات داخل النص بدرجات مختلفة في مواجهة ديكتاتورية وسلطة الصوت الواحد، وكذا طزاجة الأفكار و آنيتها في مواجهة الأفكار والأبنية النمطية المتحفية .

أخيرا يبقى أن نقول
أولا : إن حرفية الدراماتورج نشأت تمردا على النمطية والصوت الواحد ولكنها لا تنفي وجوده كرافد فهناك كتاب النص المسرحي من الأجيال الجديدة بحساسية مغايرة مع استمرار رواد الكتابة المسرحية في كتاباتهم وأى كانت اختلافاتنا معهم الا لا يمكننا انكار ريادتهم و كونهم شركاء في لعبة المسرح، وقد نحلم أن يقتربوا قليلا من الخشبة و يتورطوا مع فرق ومخرجين لحدوث تلك النقلة السحرية من نص على ورق إلى عرض على خشبة وليكن ثنائيات نجيب وبديع وصبحى ولينين وغيرهم نماذج تدعو للتأمل .
ثانيا :أشكال الكتابة الجديدة وحرفية الدراماتورج في حاجة إلى حركة نقدية وخطاب نقدي يرصد ويؤل وينظر لتلك الأشكال ليطورها ويحميها من الذبول وعد التطور .
ثالثا : أن حرفية الدراماتورج تلك الطريقة التي تعتمد على الانطلاق من فكرة تشكل هاجس للمخرج والمؤلف أو لكليهما ثم يبدأون عبر جلسات عصف ذهني جماعية مع الفريق( ممثلين -سينوجرافر- موسيقي ) تحديد خطة بحث ميداني ومكتبي ومراجع للقراءة والمشاهدة وعدة تدريبات وعبر رحلة البحث والارتجال المنظم على أفكار ووجهات نظر يُخَلّق العرض المسرحي بناء على توجيهات من الكاتب الجديد ( الدراماتورج ) الذي قد يكون هو ذاته المخرج أو يكون هو والمخرج معا .
 أيا كان - هنا يسمى منظم تلك الآلية الإبداعية “الدراماتورج” هذه الآلية لاتمت بقريب أو بعيد من ارتجال الممثلين بإضافة جمل أو مشاهد تشكل حليات كوميدية كاريكاتيرية للعرض المسرحي .


عبير علي