العدد 743 صدر بتاريخ 22نوفمبر2021
تجربة “السرادق” المسرحية عبرت بشكل فني عن تميز نوعي نظرا للتعبير الجرئ عن المهمشين والمطحونين من أبناء الشعب المصري والذي أشار إليهم صالح سعد في منشور عرض “كنوز قارون” بقوله:
“حتما قادم يوم قريب تصبح فيه ثقافتهم هي الثقافة السائدة يوم تنحل عنهم غمامة الهامشية والإقليمية والتبعية، يوم تصبح فيه مصر هي مصر كلها وليس القاهرة وحدها”.
ولعل التيمة التي اختارها د. صالح سعد ترتبط ارتباطا أصيلا بمسمى “المسرح الاحتفالي” وهو عبارة عن ظاهرة شعبية، تهدف ـ في الأساس ـ إلى تغيير الإنسان وتحريره من قيوده الذاتية، بإندماجه في الواقع عبر رؤية إنسانية.
والمسرح الاحتفالي من الواجهة العملية يرفض كلاسيكية الأداء المتعارف عليه، فبدلا من التمثيل للجمهور، يكون هناك مفهوم بديلا شعاره “التمثيل مع الجمهور”، فالمسرح في المنظور الاحتفالي عبارة عن مؤسسة شعبية، يشارك فيها الجمهور مع القائمين على العمل المسرحي بحيث تصبح الرؤية ذاتها بعدًا جدليًا في محاولة لخلق مسرح شعبي ـ بمعنى أدق ـ ليس المسرح الشعبي الذي يستهلكه الشعب ـ كما يظن الكثيرون ـ وإنما ما يساهم في إنتاجه وإبداعه، في محاولة للخروج من العزلة الاجتماعية.
ولذلك لابد من توفر آليات عملية لنجاح هذه المعادلة الصعبة على مستوى بنية النص والأداء التمثيلي والرؤية الإخراجية، وعلى مستوى المعمار المسرحي.
وأذكر هنا أنه في عام (1976) قد صدر البيان الأول لجماعة المسرح الاحتفالي في العالم العربي، والتي ضمت مجموعة من الأسماء منها “عبدالكريم برشيد” مؤلفا وناقدا و”الطيب الصديقي” و”عبد الرحمن بن زيدان” و”محمد الباتولي” و”عبدالوهاب عيدوبية” مخرجا و”ثريا جبران” ممثلة وقد تضمنت مبادئه رفضا تاما للأسس التي قام عليها المسرح العربي والسائدة في تلك الفترة باعتبارها أسسا زائفة ومتخلفة.
وأضاف البيان أن الجماعة ترى أن الاحتفالية “ليست مجرد شكل مسرحي قائم على أسس وتقنيات فنية مغايرة، بل هي في الأساس فلسفة تحمل تصورا جديدا للوجود والإنسان والتاريخ والفن والأدب والسياسة والصراع”.
ومن وجهة نظر أصحاب البيان فإن التعامل مع الجمهور ـ في ضوء الاحتفالية ـ لابد وأن يتم على محورين:
الأول: هو النزول إلى الذوق الشعبي المستلب والعمل على ترضيته بشتى المغريات.
والثاني: يتجسد في الاحترام المطلوب لتحقيق فن مسرحي يجعل الجمهور يمايز بين التجربة التي يراها، وما عليه حال المسرح الذي يقوم لأغراض تجارية، وإن رأى أصحاب البيان أن المسرح الحقيقي يقع في منطقة وسطى بين هذين المحورينو حيث ضرورة وجود قاسم مشترك عبر إحساس جماعي وقضية اجتماعية تعني كل الفئات المختلفة بشرط أن تتسم تلك القضية المطروحة بطابع شموليّ.
وربما هذا الارتباط العضوي بين العرض المسرحي والجمهور هو ما يؤكده “صالح سعد” في بيانه التأسيسي لفرقة السرادق والذي نشر في مجلة “المسرح” عدد يوليو (1984)، حيث يقول:
“نحن نؤكد هنا ـ وحتى لا يستوي الذين يعملون والذين لا يعملون أن التجريب روح علمية بالدرجة الأولى وشمولي بالدرجة الأخرى.. يعتمد بالضرورة على منهج موضوعي ورؤية علمية للأمور وهو باختصار أسلوب استقرائي شمولي في البحث الدؤوب والمستمر عن وسيلة للتغيير.. لا نزعم أننا نفتح الستار عن كشف جديد في المسرح فمن ذا يملك حق الدفع بأن ما سوف يقدمه من تصورات خاصة لشكل من أشكال التعبير المسرحي. هي خطوة مجددة نحو تأصيل وتحديد هوية مميزة للمسرح المصري؟! وهي حق لا تمنحه سوى الجماهير من خلال التجربة الفنية العملية، أي أثناء ما تشاهده الجماهير من عروض مسرحية تطبيقية”.
وهذه الرؤية كما يحددها البيان تستقي منطلقاتها الفكرية وتصوراتها الذهنية من ضرورة الاستفادة من المنجز الشعبي أو علي حد تعبيره:
“حين نجتمع على مثل هذا المنهج يكون اجتماعنا بناء على رغبة كاملة وإيمان عميق وأيضا حس جمالي وفني بعظمة وثراء الشخصية المصرية بما فيها من أساطير ومعتقدات وحكايات وفنون أخرى.. حتى تكتمل لدينا أرضية فكرية محددة وهو ما يفرض لنا أسلوبنا الخاص والمتميز عن أساليب الغرب والشرق، وهي خصوصية وتميز سيكولوجية الشعب المصري عن سائر الشعوب”.
وللحق فقد واجهت تجربة “السرادق” مجموعة من العوائق لعل أهمها قلة الإمكانيات المادية والتكنولوجية، مما جعل فريق العمل يحاول تعويض ذلك من خلال التدريب الشاق لتنمية قدرات أفراده، مع الاعتماد على إقامة ورش فنية تهتم بجمع السير الشعبية والمواويل، بالإضافة إلى اكتساب مهارات جديدة في التدريب على فنون تحريك العرائس والتنكر والتقليد وغيرها من ألعاب الاحتفال الشعبي.
مع التركيز على عنصر الأداء نظرا لأن الممثل هو العنصر الأول والرئيسي في المسرح الاحتفالي.
ولذلك نرى البيان يتضمن في أحد فقراته هذه العبارة الدالة “ونؤكد على أن الفقر في مسرحنا لابد وأن يكون اختياريا، فهو ليس بالمخرج لمشاكلنا المالية أو نقص إمكانياتنا الفنية.. وإنما هو في حقيقته تخل عن كافة العناصر التي سوف نتفق أثناء عملنا الممنهج على استبعادها والتخلص من سطوتها بالتدريب والخلق المستمر من أجل التوظيف الفني لكافة قوى الإبداع الموجودة لدى الممثل “مادية ومعنوية” بما فيها عيوب الممثل ذاتها.
وهذا ليس بالاختيار المدعي أيضا ـ ولا هو بدافع التفرد وحب الظهور.. بل هو اختيار “مبدئي” من أجل عمل متنام نحو الحصول على أعلى قدرات الممثل وأيضا على استجابات جماهيرية، ونزيد بأن جماهيرنا هي ما تفصل بيننا وبين مناهج أخرى.. فبالقطع أن لجمهورنا ذوقه الخاص وتراثه الخاص بما يحويه من تجارب اسطورية مشتركة فيما بيننا وبينه.. وإلا فمن أين نستمد ونبني لغة التعبير في مسرحنا الكلمة ـ الإشارة، الإيماءة.. الخ؟”
وهذا الطرح الذي يقدمه د. صالح سعد في بيانه التأسيسي يقترب ولو بشكل نسبي من البيان التأسيسي لفرقة “مسرح الشمس” التي أسستها المخرجة الفرنسية “أريان منوشكين” منذ أكثر من أربعين عاما حيث تقول إحدى فقراته المهمة:
“إن هدفنا هو أن نجعل من مسرح الشمس مؤسسة ديمقراطية بقدر الإمكان، وأن نحاول بقدر المستطاع أن نمنح ممثلينا القدرة على التحكم في فنهم، وإدارة كل ما يتعلق به، وذلك حتى نجعلهم، قادرين ومستعدين لأن يضعوا هذا الفن في خدمة الشعب، وأن يطوعوه لتلبية احتياجات الجماهير. ولا نعني بتلبية احتياجات الجماهير هنا أن نسألهم ماذا يودون مشاهدته فنقدمه لهم، بل نقصد أننا سنقدم لهم تجاربهم الحياتية.. وواقعهم المعاش”
وقد حققت “منوشكين” وزملائها نجاحات عدة من خلال انخراط أعضاء الفرقة في التجريب في مجالات الارتجال والتأليف الجماعي، والمشاركة الإيجابية للجمهور، بالإضافة إلى استلهام فنون أدائية من الكوميديا الإيطالية “ديللارتي” ومسرح “النو” و”البونراكو” وكذلك الاستفادة من التجارب المسرحية في الشرق الأقصى، ويتبدى هذا الجانب الأخير فيما طرأ في السنوات الأخيرة على الأداء التمثيلي لأعضاء الفرقة.
كذلك كان للإطار التنظيمي دور كبير في تحقيق معدلات متزايدة من الإنتاج المسرحي، مما جعل هناك مرتبًا ثابتًا ومتساويًا لكل الأعضاء، نظرا للمشاركة الجماعية المتساوية خدمة الفرقة من جميع المادة المسرحية والتدريب على فنون الأداء ـ الديكور ـ والكتابة حتى في أعمال الكنس والتنظيف.
وهذا الأمر الأخير ـ ربما لم يتوفر لفرقة “السرادق المصرية” لعدة أسباب:
أولا: أن مسرح الشمس قد جذب جمهورًا عريضًا من مختلف القطاعات، وكان مسرحا مدفوع الثمن، فعلى من يريد مشاهدة أحد العروض عليه أن يدفع ثمن التذكرة، بخلاف مسرح السرادق الذي جاء في إطار مجاني.
ثانيا: أنه رغم الإطار النظري الذي أشار إليه “بيان السرادق الأول” من ضرورة العمل الجماعي إلا أنه جاء في إطار محدود، فورشة العمل لم يتعد المشاركون فيها خمسة أفراد، بخلاف مسرح الشمس الذي بدأ صغيرًا إلا أنه مع مرور الوقت تحوّل إلى مؤسسة ضخمة.
ثالثا: جاءت تجربة السرادق في بعض عروضها صادمة للجمهور الريفي البسيط من خلال طرحها المباشر للقضايا، وهذا يتنافى مع ما يتطلبه هذا النوع من المسرح من ضرورة وجود نوع من التحايل على الجمهور أو على حد تعبير “بيتر بروك” في “الزمن الغابر كان المسرح يبدو كضرب من ضروب السحر، سواء شاهده المتفرج في الاحتفالات الدينية المقدسة أو في الإضاءة الصناعية على خشبة مسرح تقليدي لكن الأمر يختلف في زماننا هذا، فقد أنصرف الجمهور عن المسرح، وأصبح فنانوه موضع شك وريبة، لهذا لا يمكننا أن نؤسس عملنا على فرضية أن الجمهور سيأتي إلينا في خشوع ويصغى لنا في صمت واهتمام، بل علينا نحن المسرحيين أن نجاهد كي نجذب انتباهه وندفعه إلى تصديقنا، وحتى يتحقق لنا ذلك، علينا أولا أن نقنعه أن عملنا يخلو من التحايل والخديعة، وأننا لا نخفي عنه شيئا، علينا أن نضع ما في أيدينا أمامه، وأن نثبت له أننا لا نخفي عنه أسرارا”.