فرقة الطيف والخيال والمسرح الشعبي

فرقة الطيف والخيال  والمسرح الشعبي

العدد 741 صدر بتاريخ 8نوفمبر2021

قامت فرقة “الطيف والخيال المسرحية” والتي شارك في تأسيسها الثلاثي بهائي الميرغني وعماد المدرك وناصف عزمي على ثلاث ركائز فنية وهي: استلهام التراث العربي مع عرضه على الأحداث الآنية ووضعه في إطار اختباري، كذلك ضرورة أن يأتي هذا الاستلهام ليسد ثغرة فنية في بنية العرض المسرحي وليس مجرد أداة شكلية، ويرتبط بذلكـ أيضا ـ أن يتم توظيفه وفق آليات درامية محددة.
وفي هذا الإطار  جاء عرضها الأول “سهرة من خيال الظل والأراجوز” 1988 الذي تم من خلاله اكتشاف إمكانيات فنية عصرية لفن عريق هو “الأراجوز” و”خيال الظل” وهو من الفنون التي أوشكت على الانقراض، رغم ما تتميز به من عمق تاريخي يصل لأكثر من ألف عام، حيث كان في فترة من الفترات هو فن الخاصة حيث يعرض في مجالس الخلفاء والأمراء.
ويرى د. علي الراعي في كتابه “المسرح في الوطن العربي” ص 45: أن مسرح خيال الظل والذي أسسه ابن دنيال استفاد منم فن “المقامة” بما تحمله من دراما، ثم طور “ابن دنيال” طرائق الأداء وجعل من تجاربه مسرحا حقيقيا له “نظرية واضحة وممارسة أوضح”.
ونظرية ابن دنيال تقوم على أساس تشخيصي بحيث يصبح لكل شخص دور ولكل دور صوت، وهو فن يتوجه إلى جماهير من لحم ودم.. جماهير قدموا لرؤيته ودفعوا مالا في سبيل مشاهدته هم نظارة حقيقيون، وابن دنيال يعلم أن فنه لا قيام له إلا إذا موله هؤلاء النظارة، ولهذا فهو ـ ماديا ـ يتوجه إليهم بطلب المعونة ـ وفنيا ـ يشاركهم في الأحداث بتوجيه الخطاب إليهم في مواضع معينة من باباته.
وتتميز عروض “خيال الظل” و”الأراجوز” باعتمادها على منطق التورية وعلو الخطاب الرموزي نظرا لما يطرح فيها من قضايا شائكة، وما تتسم به من نقد لاذع للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وإن جاءت مغلفة بخطاب هزلي.
ولكن هناك سؤالا ربما يسأله القارئ عن وجود ضرورة فنية ـ في الوقت الراهن ـ تستدعي إحياء مثل هذا الفن مع وجود تقنيات مسرحية مغايرة ومتقدمة.
ولنترك الإجابة عن هذا السؤال لبهائي الميرغني والذي يقول في شهادة عن تجربته الأولى في مسرح الأراجوز وخيال الظل:
“نحن لا نستهدف تبني شعارات العودة المطلقة إلى التراث أو إعلان القطيعة التامة للمسرح الأوروبي، لأننا نؤمن تماما بأن المسرح الإنساني كل لا يتجزأ ولكننا نهدف إلى التطلع من جديد إلى أشكالنا المسرحية الشعبية، من خلال فرجة ممتعة على تراث ذي شهرة تاريخية، مستعينين في ذلك ـ أيضا ـ برصيدنا وتصوراتنا المسرحية المعاصرة، ولذلك فقد حاولنا من خلال العرض أن نستعرض الإمكانيات التراثية لهذا الفن الشعبي لنبرز للمشاهد أن باستطاعته أن يلعب دورا قد لا يستطيع المسرح الأوروبي أن يكون به أي أن الفكرة الجوهرية بالتحديد لن تكون داخل العرض بل كانت هي العرض نفسه معتمدين على تقديم صيغ تراثية في شكل معاصر”.
وما ذهب إليه الميرغني ـ في شهادته ـ فيه كثير من الصدق نظرا لأن مثل هذه العروض تتميز عن سائر الفنون المسرحية الأخرى بوجود مساحة كبيرة من التخيل لدى المشاهد، وذلك عن طريق تسليط الإضاءة على اللعبة أو إحداث نوع من الإظلام أو القيام بذلك من خلال الأداء داخل العمل، وهي تقنية قلما توجد في أغلب الفنون الأخرى، بالإضافة إلى ذلك وجود وسيط بصري وما يترتب علي ظهور الدمية القفازية أو الظلية كبديل عن الحضور المباشر للممثل أمام الجمهور، مما يساعد على إيجاد حالة خاصة من التماس بين المطروح الفني والوعي الجماهيري.
ولكن من ناحية أخرى يمكن أن نقول: إن مثل هذه العروض التي تغوص في بنية التراث من أجل البحث عن مناطق مغايرة للرؤى تكون مدفوعة إلى ذلك لسببين:
الأول: ينطوي على فعل “الدهشة” الكامن في النص التراثي مع العلم أن “الفنان الشعبي لا يعرف الدهشة لأنه مؤمن بأن رسالته الحقيقية تكمن في نقد الواقع المحيط حتى وإن جاء خطابه الإبداعي به مناطق ومساحات تدعو إلى الاندهاش.
أما السبب الثانيـ وهو الأهم من وجهة نظري ـ وهو ما أسماه الناقد د. محمود نسيم بـ”قلق النمذجة” بما يحتوي عليه هذا المصطلح من نقد واضح للحركة المسرحية العربية خاصة والحداثة العربية عامة.
وقد يكون هذا القلق سببا جوهريا في عدم استمرارية التجارب القائمة على مثل هذه الفنون التراثية، وأضيف إلى هذا السبب خفوت الخطاب النقدي ـ وهو ما رأيناه في تجربة الميرغني الأولى ـ بحيث تحول الأراجوز إلى فن للفرجة والإمتاع اللحظي، بعيدا عن وجود ذلك الصراع الداخلي في بنية الحوار.
وفي عام 1989 قدمت فرقة “الطيف والخيال” عرضها الثاني “سكة السرايا الصفرا” والتي اعتمد فيها بهائي الميرغني ـ مخرج ومؤلف العرض ـ على نصين للكاتب المسرحي “يوجين يونسكو” هما “جاك أو الخضوع” و”المستقبل في البيض” والنصان متقاربان يكمل بعضهما الآخر فقد كتبا في فترة زمانية متقاربة فالأول انتهى “يونسكو” من كتابته عام 1950 ويناقش سلسلة من المواقف العبثية الممعنة في السخف، أما “المستقبل في البيض” والتي كتبها “يونسكو” عام 1951 فتواصل ما طرحه في عرضه المثير للجدل “جاك” وإن خرج من حالته العبثية ذات الطابع الشخصاني إلى دائرة أوسع وأشرس وهي دائرة الواقع المحيط به فالخضوع هنا ليس خضوعا نسبيا، وإنما خضوع في إطار الجماعة.
ولكن كيف تسنى للميرغني أن يستعين بنصين هما من أكثر نصوص أمير دراما العبث “يونسكو” وأكثرهم تشابكا وتعقيدا، وهو القائل: “إنني أريد أن أظهر سلحفاة على المسرح ثم أحولها إلى جواد ثم أحول الجواد إلى قبعة ثم إلى أغنية ثم إلى نافورة مياه، إن خشبة المسرح هي المكان الوحيد الذي يستطيع الإنسان أن يقدم فوقه أي شيء”.
فإذا كان “ألبير كامي” ورفاقه من كتاب الدراما في منتصف الخمسينيات اتخذوا مسلكا مشتركا تجاه موقف الإنسان من الكون فإن “يونسكو” رغم المنحى الذي اتخذه من “لا عقلانية التجربة” والاعتماد على دائرية الحدث، وصدمة النهايات إلا أنه في أحد جوانبه يتخذ ـ خطابه المسرحي طابعا فلسفيا ذا نزعة أخلاقية، وإن اتسمت بنوع من الفانتازيا والمفارقة.
ومن هذا الجانب يمكن أن نرى العلاقة بين النص “اليونسكي” ومصرية الرؤية عند بهائي الميرغني والذي استخدم تقنيات خيال الظل، منطلقا من فكرة التحول أو مسخ الإنسان، وهي فكرة ليست جديدة فقد تمت معالجتها في أكثر من عمل أدبي، ويجسد هذه الفكرة دراميا عبر صراع محتدم بين الإنسان والدمية أي صراع البشر الذي تسجن آدميتهم قوالب الدمى المقنعة بالآدمية والتي تهيمن على حياة البشر، وعلى حد تعبير الناقدة د. نهاد صليحة “فإن هذا الصراع يفرز حدثا دراميا يتشكل في أربع مراحل تمثل أولا تحول الإنسان إلى دمية من خلال القهر على المستوى الشخصي ثم تحول الدمية إلى إنسان من خلال الثورة الفردية، ثم عودة الإنسان إلى سجن العرائس من خلال القهر العام الجمعي، وأخيرا عودته آدميا عمن خلال الثورة الجماعية.
وقد حاول الميرغني أن يجمع أكثر من لون في الأداء فجاء العرض محتشدا بفنون مختلفة من الغناء والتشخيص والسلويت والغناء التحريضي، في حالة أشبه بالمسرح الملحمي، وإن فارقته في كون المخرج قد اعتمد على المشاهد القصيرة عبر وحدتين دراميتين:
الأولى: جدلية من خلال الصراع الدائر بين الممثل بطبيعته الإنسانية وبين صور العرائس الماثلة على شاشة خيال الظل، وهذه الجدلية تطرح رؤية خاصة حول الممارسة القهرية ضد الإنسان سواء في مجتمعه الصغير “الأسرة” أو في المحيط الخارجي.
وها تبرز الوحدة الدرامية الثانية والتي تبدأ من انتقاله من بيت العائلة إلى الشارع لتجسد لنا ـ في لغة بصرية ـ ما يعانيه الفرد من قهر اجتماعي شديد الوطأة وهنا يلعب الخيال الفني لعبته من خلال صراع المواطن الذي يتحول بفعل المؤسسات الرقابية القمعية إلى مجرد “دمية أراجوزية” من خلال شخصية “جاد” الذي يثور على عالم الدمى، ويسعى إلى الشارع ليستنشق الهواء ويطوف خياله بعيدا بحثا عن الحرية المفقودة، لكن كثرة التفكير في الحريات الغائبة يأخذه إلى عوالم من القهر المركب.
وقد استفاد المخرج ـ كثيرا ـ من الزمان والمكان خاصة من الجانب “السنوغرافي” حيث استعاض بالمسمى عن جوهره، فليس هناك ديكور حقيقي، وإنما ترجمة ـ على خشبة المسرح ـ للصراع بين الإنسان والدمية/ بين الفعل واللا فعل، من خلال التركيز على ما يمكن أن يسمى بـ”الجدل المكاني” حيث تم تقسيم خشبة المسرح إلى عدة مناطق، ربما اختلفت في خطابها الدرامي، إلا أنها تتحد في النهاية عبر دلالات واحدة فهناك: مسرح الأراجوز، الذي اعتمد ـ في العرض ـ على فكرة الاستلاب الإنساني، وهناك ـ أيضا ـ المنطقة المظللة لشاشة خيال الظل ثم هناك المنطقة الخاصة بالمتفرج وبين ذلك تقع المنطقة الحقيقية للمسرح، وهي منطقة منخفضة بعض الشيء عليها مباني لحجرة استقبال وحديقة بيت وشارع وردهة مستشفى المجانين.
:وقد استفاد الميرغنيـ كثيرا ـ من آليات المسرح الفقير، وكذلك المسرح الشعبي بتجلياته المختلفة ساعده على ذلك وجود مجموعات من الفنانين الناطقين والمحركين للعرائس أدت دورها بإتقان ومع ذلك يبقى هناك تساؤل حيوي وضروري في آن وهو هل استطاع الميرغني وفريق عمله أن يخضع عالم يونسكو المليء بالتناقضات لعالمه الشعبي بمستوياته المختلفة؟ هل استطاع أن يتجاوز تلك الهوة العميقة بين التجربة التراثية العربية وحداثة الرؤية الغربية بفضاءاتها المتعددة؟
أعتقد أن الميرغني كان واعيا إلى هذا الخيط الرفيع بين الموروث الظلي ومسرح العبث وكونهما ابني مجتمع قاهر للقيم الإنسانية، لذا لابد وأن يحملا مضمونا أو على الأقل رسالة إصلاحية وأن غلب عليها الطابع الرمزي.
ونستطيع أن نقول إن الميرغني  حاول قدر الإمكان أن يخرج من تقليدية الأداء خاصة في استخدامه للعرائس فلم يلجأ لاستخدام الطريقة الأفقية المتعارف عليها، والتي تحد من إمكانية الحركة، بحيث استخدم بدلا منها خيط مربوطًا بعصًا لتحريك العرائس. مضيفا إلى ذلك مجموعة من “مشهيات الفرجة” إذا صح التعبير ليربط الجميع بأحداث العرض.


عيد عبد الحليم