فوزي فهمي.. التمايز والتميز

فوزي فهمي.. التمايز والتميز

العدد 739 صدر بتاريخ 25أكتوبر2021

برحيل د. فوزي فهمي جسديا يكتمل رحيل جيل من رجال الثقافة ارتبطت أسماؤهم بالجمع بين الثقافة الرفيعة والقدرة الفذة على إدارة الصروح والفعاليات الثقافية، هؤلاء الأساتذة حملوا على عاتقهم أن يبنوا مؤسسات الدولة لا أن تبنيهم هذه المؤسسات. وقد رحلوا تاركين خلفهم علما وإنجازا وإبداعا، بينما آخرون يرحلون وقد حصلوا لأنفسهم على كل شيء، فلم يتركوا خلفهم شيئا.
اختار د. فوزي فهمي أن يعيش في الظل، يؤدي واجبه بعيدا عن صخب الإعلام، ولم يكن الظل عنده مرادفا للموات، فالرجل كان حضورا جارفا في الحياة الثقافية المصرية والعربية، ويكفي أن نراجع المواقع العربية التي نعته مثقفا ومسرحيا صنع جسرا من التواصل بين المسرحيين العرب والغربيين.
وربما يظن البعض أن إنجاز د. فوزي فهمي في المجال المؤسسي يتقدم ما سواه، لكن الشواهد تدحض هذا الظن، فقد عاش الرجل حياة فكرية سار فيها التطبيق في إثر النظرية، ويعلم كل من عملوا معه أن الرجل كان يدير الصروح التي تولي مسئوليتها وفقا لرؤيته التي وصل إليها ككاتب يعلم جسامة مسئولية الكاتب ودوره في تشكيل وعي المجتمع. وقد كانت هذه ميزته الفريدة، تضاف إلى ميزة أخرى كانت لديه وهي ذاكرته القوية، فقد كان الرجل لا ينسى تكليفا يصدره إلى أي من مرؤوسيه، فيظل يتابع تقدم التنفيذ حتى الاكتمال، كما لم يكن ينسى كتابا تمت ترجمته ضمن مشروع إصدارات التجريبي، فكان يتابع مقترحات الترجمة ويقارن بينها وبين ما سبق ترجمته ويقوم باستبعاد ما تشابه حرصا على ما هو جديد ومختلف.
وكشأن كل عظيم فقد حاول الكثيرون الاقتداء به –وهذا مطلوب- وحاول غيرهم تقليده، فلاحقهم الفشل وكانوا بسلوكهم هذا دليلا على رؤيته الثاقبة للتمايز والتميز، وسأبدأ بالأولى التي ضمتها دراسته التي قدمها للمهرجان التجريبي عام 1998 وفيها ينكر “فكرة الحفاظ على النقاء الثقافي كحماية للتمايز والخصوصية الثقافية في مواجهة تيار التفاعل والانفتاح واكتساب القدرات”، ويبني دفاعه عن التمايز الثقافي بوصفه “لا ينفي التفاعل مع الثقافات الأخرى”، مذكرا بأن “المجتمعات على خريطة العالم منذ فجر التاريخ لم تتطور في معزل عن بعضها البعض”، وأن “الثقافة العربية الإسلامية تفاعلت مع عناصر من الثقافات الفارسية واليونانية والهندية والصينية وغيرها”، كما أن “الثقافة الأوروبية في عصر النهضة تفاعلت مع عناصر من ثقافات عربية ويونانية ورومانية وصينية وهندية، أي أنه ليس هناك من ثقافة حية تتمتع بالنقاء البحت”.
ولم يكن تبني الرجل لـ”التمايز الثقافي” نابعا فقط من حرصه على التواصل مع الثقافات الأخرة، ولكن لأن “التمايز الثقافي بقابليته للتجدد والتفاعل هو في ذاته المناعة الحقيقية التي تواجه الإقصاء والهيمنة والتآكل والاستلاب. فالتمايز الثقافي لا يعني النفي وإنما يعني الاختلاف، ولا يعني التشرنق والانكفاء علي الذات وإنما يعني الإصغاء المتبادل وحق الآخر في التفرد”.
وقد مثلت رؤيته هذه استشرافا لما سيقع بعد عامين من هذه الدراسة من أحداث 11 سبتمبر وما تبعها من هجمات شرسة على كل ما هو عربي أو مسلم, وأمام ذلك تمسك الرجل بـمجتمع التميز والكفاءة فـ”هو القادر من جهة على مواجهة التحديات والإكراهات الخارجية، حيث لا يقف متفرجا على المتغيرات العالمية. ومن جهة أخرى، يرسخ داخليا فكرة العدالة الاجتماعية التي تعني ضمان تكافؤ الفرص واحترام القدرة والكفاءة”.
ويشرع المفكر الكبير في وضع ارتكازات مشروع مجتمع التميز والكفاءة “على منهج يسعى إلى خلق استجابة إيجابية تتجه إلى القضاء على الممارسات الطفيلية وحماية المواهب وتكثيف المنافسة وتعزيز آليات المحاسبة والشفافية وتنامي مجالات الاتصالات والمعلومات والتقنيات، وفاعلية المنظومة التربوية التي تحمي بناء مجتمع الابتكار والإبداع”.
لم يكن د. فوزي فهمي يكتفي باستخدام المصطلحات، بل كان يقوم بتمحيصها في وقت غامت فيه الرؤية وتعثرت فيه تسمية الأشياء بمسمياتها، فها هو يزيل “الفهم الملتبس لمعنى التميز الذي يكسب البعض إحساسا زائفا بالتميز، فإذا كان الفهم الملتبس يؤدي إلى الجنوح الخطر، كحالة الشاب الوسيم في رواية أوسكار وايلد (صورة دوريان جراي) فإن ممارسة (المودة) في أحد جوانبها تشبع فكرة التميز الذي يتخطى الجنوح الخطر ولا تقود إلى الاغتراب الاجتماعي، فهي تجمع بين رغبة التجمع ورغبة الانفراد”.
ولا يترك مفكرنا مفهوم “المودة” دون تمحيصه هو الآخر حتى لا يؤدي إلى مجرد “إشباع عاطفي لا يخضع لمنطق العقل”.
لقد رحل العالم الجليل ورجل الثقافة المقتدر د. فوزي فهمي، رحل بجسده فقط، ولكن بقت أفكاره نبراسا لنا ولأجيال تأتي من بعدنا تؤمن بأن التمايز الثقافي والتميز المجتمعي هما دعامتا التقدم.


محمد عبدالقادر