العدد 734 صدر بتاريخ 20سبتمبر2021
“فرقة الورشة” واحدة من أهم الفرق المسرحية المستقلة في مصر، التي ساهمت – بشكل واضح – في تطور حركة المسرح الحر، على مدار أكثر من خمسة عشرين عاما.
بدأت الفرقة نشاطها عام 1987 على يد المخرج حسن الجريتلي الذي يعمل في المجال المسرحي منذ السبعينيات من القرن الماضي، فقد حصل على ليسانس المسرح من جامعة برتسول ثم على دبلوم الدراسات العليا في السينما من برنامج خاص بجامعة السوربون، وظل مديرا فنيا لمسرح الأرض والهواء، وهو جزء من المركز القومي للدراما لتطوير التجريب في المسرح الإقليمي البديل في فرنسا في الفترة بين أعوام 1975 و1982.
وبعد عودته إلى القاهرة عام 1982 وتعينيه مخرجا بمسرح الطليعة في العام التالي قوبلت أعماله المسرحية التي كان يعدها إما بالرفض وإما التربص غير المعلن، مما حدا به إلى الاتجاه إلى المجال السينمائي، وفي هذه الأثناء قابل مجموعة من الفنانين ممن يتشوقون إلى إيجاد مسرح بديل يحقق حساسيتهم الاجتماعية والجمالية، ويخرج من دائرة رقابة المؤسسة الثقافية، فكونوا “فرقة الورشة” عام 1987، التي قدمت في سبتمبر من نفس العام عرضين ارتكزت فيهما على نصوص عالمية هي “يموت المعلم” لبيتر هاندكه، و”نوبة صحيان” لدرايوفو وفرانكاما، وقد أعيد هذا العرض في أوائل 1988، ثم قدم في مهرجان القاهرة التجريبي الأول في سبتمبر من نفس العام، وهو عبارة عن مونودراما قامت بتجسيدها الفنانة عبلة كامل.
وقد أجادت منحة البطراوي في إعداد وترجمة النص نظرا لصعوبته، حيث تتضافر في مادته الأصلية جذور الأداء الشعبي مع الفكرة الاجتماعية للمسرح.
وهذه الفكرة تعتمد على توليد الطاقة الدرامية من خلال لغة مقتضبة كانت إحدى السمات الأساسية للمرحلة الأولى للورشة التي قدمت فيها أيضا، بعض مسرحيات “هارولد بنتر” باللغة العامية المصرية بما فيها من مشاعر متلاطمة الأمواج، وفضاءات رحبة للتعبير الشعبي. وبما تخفيه الشخصيات وراء أقنعة التعامل الاجتماعي اليومي، ولعل عرض “المستعمرة التأديبية” كان خير مثال على ذلك، فقد جاء بمثابة أمثولة غنية وأليمة في علاقتها بواقعنا، حيث تفضل المؤسسات أن يقتلها الجمود على أن تعيش مغامرة النمو والتطور.
وجاء عرض “غزير الليل” 1993 بعد تدريب طويل على الحكى بمنظوراته المتعددة وعلاقته البديلة بالجمهور، من خلال الكشف عن مواطن الالتقاء في المادة الشعبية بأصواتها وإيقاعاتها المختلفة، وفي الحرية المتمثلة في المنطلقات المتعددة للخيال، ما أنتج تكوين سياق مسرحي يحتضن إيقاع المشاعر، وإلى مراجعة العلاقة المكانية بين العرض والجمهور.
وقد ألقى هذا التوجه بظلاله على طبيعة العرض الذي قدمه ممثلون فطريون شعبيون، بالإضافة إلى بعض الممثلين المحترفين وكذلك المغنين وعازفي الآلات الشعبية القادمين من الريف.
وهذا ما أوجد ما يمكن أن يسمى بـ”الفعل الفيزيائي” للشخصية المسرحية التي جاءت مزيجا من المناجاة والابتهال والصراخ والرقص، وهي مفردات تعلن عن انتمائها ـ بكل صراحة ـ إلى المزاج الشعبي المصري، وتستحث المشاهد ـ أيضا ـ إلى اللجوء إلى الذاكرة الشعبية الغنية بتراثها وموسيقاها وإيقاعها الذي يهتم بالإنسان أولا.
وقد اعتمد الجريتلي في عرض “غزير الليل” على إعادة إنتاج العلاقات الإنسانية داخل الحكاية الشعبية الشهيرة “حسن ونعمية”، وهي قصة الفتى المغني حسن، ونعيمة التي تعشقه وتهرب معه، فيقلته أهلها انتقاما منه، وقد لعب “الجريتلي” على توظيف هوامش الحكاية وإدخالها في متن العرض مع استخدام نص مسرحي موازٍ يستفيد من الأغاني الأصلية الموجودة في الحكاية المتوارثة، وتتحول الحكاية الأصلية إلى منطقة تصويرية لصنع مشاهد تتسم بجرأة طرح عورات الواقع بعيدا عن المحسنات الشكلية التي تتسم بها لغة “الفلكلور” وقد اعتمد الجريتلي في عرضه على استخدام شخصية “الحكواتي” الذي يمثل جزءا من سياق العرض، وقد قام بهذا الدور الفنان سيد رجب، واستمرت إلى جانب ذلك “ليالي الورشة” التي بدأت بالحواديت فقدمت في القاهرة والإسكندرية والمنيا وقرى البياضة وشرموخ وبورسعيد وبيروت وعمان وباريس وروتردام ولندن وواشنطن، وأصبحت تشمل الخيال والأراجوز والأغاني والتحطيب والآلات الشعبية، وهي الفنون التي يتدرب عليها الممثلون تحت إشراف الفنانين الشعبيين.
وفي هذا الإطار أنتجت الفرقة فيلما تسجيليا تحت عنوان “مولد السيدة عيشة” بالتعاون مع أهالي حي السيدة عيشة الذين ينظمون “زفة” تختلف في طابعها الكرنفالي عن أغلب المواكب التي تصاحب الموالد الأخرى.
كما اهتمت الفرقة بجمع مادة “السيرة الهلالية” من الشعراء الذين يحملون تراثها الشفاهي، والتدريب على أدائها حكيا وغناء، وتقديمها من خلال “ليالٍ مسرحية مستقلة”، وقد تجسدت تلك التجربة في عدة عروض منها عرض “غزل الأعمار” الذي قدم لأول مرة عام 1988 والذي مثل مصر في أكثر من مهرجان مسرحي عربي، كما عرض في عدة أماكن منها معهد العالم العربي بباريس، ومعهد الفنون المسرحية بدمشق، ومهرجان الفجر بطهران ومهرجان “قمة الفنون” في جاكرتا، وفي بعض القرى المصرية في المنيا والإسكندرية وسوهاج وأسوان والشرقية.
ونرى في هذا العرض أن الراوي لم يعد هو البطل المحوري للعرض كما في النص الأصلي، حيث يتولد من خلال الفعل الحدثي للحكاية، فالمنشد له الدور الرئيسي الذي يحرك الأحداث والشخصيات التي تخرج ـ بتلقائية ـ من دائرة الإنشاد إلى التمثيل، ومن الحكي إلى التجسيد، عن طريق تكثيف فكرة الاستلهام التراثي وتطوير “مسرح الحكواتي” الذي بدأ في لبنان على يد “روجيه عساف” في منتصف الستينيات، وقد اشتغلت الورشة على روايتين للسيرة الهلالية، أولاهما رواية الشاعر الشعبي “جابر أبو حسين” 1912ـ1980، التي تم تجميعها من قبل الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، وصدرت منها خمسة أجزاء وأشرطة مسجلة بصوت أبو حسين، أما الرواية الثانية فهي للشاعرين سيد الضوى “الابن والأب”.
وبالإضافة إلى تلك العروض فقد قامت الفرقة بتأسيس “مركز الورشة” لتدريب الممثلين على الفنون الشعبية، وعلى المهارات والتقنيات المسرحية الجديدة، وكذلك إقامة عدة مشروعات بالتعاون مع بعض الفنانين الشعبيين، كان أولها “مركز التحطيب وفنون العصا” في ملوي، كما أسست الفرقة بالتعاون مع جمعية “الجيزويت” و”الفرير” في المنيا مركزا مسرحيا للأطفال قائما على الارتجال المسرحي وخيال الظل والرسوم المتحركة، بالإضافة إلى إقامة عدة مراكز للتدريب على الغناء بالتعاون مع “كورال جمعية الصعيد”.
وحاولت الفرقة ـ أيضا ـ تطوير طرق التعامل مع التراث اليومي للحياة من خلال جمع ما يتعلق بروح الحياة اليومية كالكتابات الموجودة على الحوائط والسيارات والذكريات والأحلام والنكات وأغاني الميكروباص والأفراح والأتراح والأسواق والموالد، وقد تم تقديم هذه المادة في عدة عروض حملت اسم “اللي يعيش” في محاولة من أعضاء الفرقة للبحث عن سياق مسرحي يأخذ أشكالا تبتعد عن استنساخ الواقع، وفي هذا الإطار بدأت الفرقة مرحلة جديدة تهتم بعملية التمثيل باعتبارها وسيلة يتم من خلالها استحضار شخصيات تنبض بالحياة، سواء كانت حقيقية أو متخيلة، من خلال توسيع مساحة الحكي التي جاءت كبديل موضوعي مضاد لميراث التمثيل الخطابي والتجاري.
ومن أهم العروض التي قدمتها الفرقة عرض “رصاصة في القلب” لتوفيق الحكيم، وهي من أهم الأعمال التي أنتجها المسرح العربي حتى الآن، وقد أهمل النص المسرحي نظرا لأن شعبية الفيلم قد طغت عليه منذ الأربعينيات من القرن الماضي، وقد جاء هذا العرض في إطار “دراما تورجي” قام على تنفيذه خالد جويلي، وهو من أكثر المهتمين بهذا الجانب، وجاء العرض في إطار إنساني يقوم على الإيثار بين الأصدقاء وإعلاء قيمة التضحية، وقد قام ببطولته أحمد كمال والراحلة فانيا اكسر جيان وبطرس رءوف وقدم بالتعاون مع مسرح الطليعة.