البنية الدائرية في مسرح صلاح عبد الصبور (3-3)

البنية الدائرية  في مسرح صلاح عبد الصبور (3-3)

العدد 760 صدر بتاريخ 21مارس2022

يبدو مع القراءة المتأنية لمسرحية “مأساة الحلاج” أن صلاح عبد الصبور يترجم من خلالها الخطاب الأيديولوجي في مصر أثناء التحول الاشتراكي ومحاولة نشر العدالة الاجتماعية بين الجميع، ولذا كانت هناك ضرورة فنية للالتقاء الماضي بالحاضر في قضية واحدة، وبهذا يكون المسرح في مراميه النهائية عملية استعادة وتكرار خلق المشهد الهادف عبر خشبة المسرح، ويكون في الوقت نفسه زمن الحلاج هو زمن التحول الاشتراكي في مصر.
الزمان والمكان  ينموان معا في المسرحية في مسار صراعي.

الرمز الواقعي
النمو المسرحي في “مأساة الحلاج” يجيء مرموزا له بقضيتي الخير والشر وقواهما المحتشدة، ولا بد في النهاية من انتصار الحق، والنصر هنا يأخذ شكل الشهادة.
وأثناء هذا البعد الصراعي تنتشر عيون الوالي ورجاله لتشويه سمعة هذا الثائر المتصوف المتوحد مع مبادئه. ثم بعد ذلك تحويله إلى محاكمة ظالمة، بقائمة تهم جاهزة وأحكام مسبقة.
وهنا نرى “عبد الصبور” في مسرحيته يدين النظم الشمولية.
ففي مشهد المحاكمة نجد السلطة تجلس على منصة القضاء حاكمة سلفا وتدين قبل السؤال، وهي بعيدة عن العدل تماما، منحازة تماما.
وتنتهي المأساة بشهادة الثائر وهتاف الغوغاء من أصحاب مبدأ (عاش الملك – مات الملك) على طريق عبدة الظلم منذ فجر البشرية ضده ورميه بالكفر والزندقة، فهم أبواق السلطات.
أما البطل فمهزوم سلفا، مصعوق بلعنة سيزيف وهو يحمل صخرته.
إنها مسيرة العقل والتنوير في مواجهة ظلام الجهل والتخلف والاستبداد.

القناع المسرحي
ولعل فن المسرح، هو من أكثر الفنون استخداما للبعد السيميولوجي، فالإيماءات والكلمات والحوار المسرحي –بالتأكيد- يحمل في طياته كثيرا من العلامات، وكذلك حركة الممثلين على خشبة المسرح.
وقد استفاد صلاح عبدالصبور في “مأساة الحلاج” من هذا البعد، لاستخدامه لتيمة القناع المسرحي، حيث يقوم العرض المسرحي عنده على مجموعة من الشفرات الجمالية ، وهي (تلك الشفرات التي تميل إلى الاحتفاء بالتضمين ، والإيحاء ، وتنوع التفسيرات)- على حد تعبير” دانيال تشاندلر” .
والعلامة كما يشير د. محمد عناني “عنصر من عناصر الشفرة.ومعنى الشفرة فهو أي نظام رمزي يتفق عليه المرسل والمستقبل للدلالة على الأشياء والمعاني”
ولنا هنا أن نضع مجموعة من الملاحظات الفنية حول مسرحية “مأساة الحلاج”  ومنها:
1- مسرحية مأساة الحلاج تمزج بين الديني والاجتماعي ، في حالة وعي واحدة هي الثورة المستمرة.
والدين هنا ليس طقوسا ومناسك، إنما هو رؤى واختراق وبشارة، والحلاج في تصوفه رأى الحقيقة بمقدار ما رأى الله حلا به، ومن هنا يبدو مدفوعا بقدره إلى مصيره المحتوم.
الضوء الساطع في أعماقه كان باستمرار يدله ويقوده إلى الشجرة التىي سيصلب عليها، أما الموت عنده فمرحلة من مراحل المكاشفة مع الله، وهذا ما يخفف من ألمه، وهذه طبائع الشهداء باستمرار.
والحلاج كما يقول صلاح عبد الصبور: “كان يريد أن يموت كي يعود للسماء”.
2- ثقافة السلطة كانت تحرف فكر الحلاج وتحمله ما لا يريد حمله، وكانت تبثها عبر الشرطي والقاضي والجان والغوغاء، لكن هذه الثقافة تظل غائبة رغم حضورها، وتظل ثقافة الحلاج هي الحضور رغم غيابها.
ويظل موت الحلاج ضرورة في كل عصر لتوحد الإبداع من دون فعل، والفعل.
والذي يشد الإنسان (الجمهور) إلى المسرح، يحمل في معظمه تأثيرات التربية الفكرية والبعد الروحي في أمة ما، فقضايا الإنسان الكبرى متطابقة باستمرار،
3- حاول صلاح عبد الصبور في “مأساة الحلاج”، أن يكون الفكر الصوفي المبدع أحد أهم عناصر الدفاع عن شخصية الحلاج في المحكمة، وهو الذي جذب إليه السجان والسجناء معا. وكانت قضية الإيمان هي مأساته عند الجمهور البسيط الذي اعتقد- بإيعز من السلطة - أن الحلاج كافر ومفسد في الأرض ، ودور السلطة واضح في تكوين هذا الوعي المنحرف لدى الجمهور.
4- لعل فكرة “الشهادة” في “مأساة الحلاج” من أهم بواعث التفاعل عند المتلقي، وهذا يرفع المسرحية وشخوصها من المسرح إلى الحياة نفسها، فهم الفضاء الروحي لأمة مع زمنها الخاص بها ضروري لفهم التأثر والتأثير في العمل المسرحي.
5-عصر الحلاج كان عصر جذب صوفي حاد بعد الانكسارات التي أصابت كيان الأمة، وكان ظهور البطل ضروريا لإعادة الثقة إلى الجمهور المنهزم.
6- حاول الشاعر جاهدا الجمع بين لغة الحداثة، ولغة الواقع التي يحتاجها مسرحه.
7- استعمل عبد الصبور على ألسنة البطل وتلاميذه ومريديه اللغة الصوفية، وهذه اللغة تحدث حالة مختلفة تغذي حالة التشوق القصوى التي  يريد المتلقي أن يتقدم عبرها إلى مراحل متقدمة، ولعل وظيفة المسرح تكمن في هذا الاتجاه، حيث الدلالة تتحول إلى فعل، ويصبح المسرح ثورة يخافها الحكام، استخدام لغة المتصوفة متناسب مع روح الأمة التي تنتظر المخلص.
8- استعمل عبد الصبور لغة الشارع ولغة العصر الاشتراكي، محاولا عبرها تحويل الحلاج صاحب نظرية الحلول إلى ثائر اشتراكي.


عيد عبد الحليم