خلطة شبرا.. وروح ما قبل البترودولار

خلطة شبرا..  وروح ما قبل البترودولار

العدد 765 صدر بتاريخ 25أبريل2022

الكاتب والشاعر “يسرى حسان” شبراوى المولد والنشأة.. عاش فى حوارى شبرا وأزقتها، وجلس على مقاهيها ولعب فى دروبها فأحبها وعشق ترابها، وناسها على مختلف فئاتهم.. فكتب عن شبرا وناسها كتابه “خلطة شبرا” الذى جاء معجونا بحب هذه المنطقة مبرزا لخصال ناسها، وأهم ما يتميزون به هو الونس والدفئ الإنسانى والتكافل والتكاتف بين بعضهم البعض، ومن البداية يؤكد على أن هذه السمات لا تقتصر على شبرا فقط، بل هى موجودة بكل المناطق الشعبية كالمغربلين والدرب الأحمر والجمالية وغيرها، كما أن تلك الخصال تنتشر فى كل محافظات مصر (السويس، والمنيا وأسيوط) وغيرها ويوجه دعوة لكل من يستطيع الكتابة عن منطقته فليفعل، وإذا حدث هذا، فسوف نكتشف كنوزا.. ومن البداية يحدد الكاتب فئة سكان شبرا الذين سيحكى عنهم.. فهم ليسوا الكتاب والشعراء أو الممثلين رغم أن شبرا أنجبت العديد منهم وهم مدعاة لفخر كل شبراوى، وقد تناولتهم وسائل الإعلام بما فيه الكفاية، ومن ثم فهو يحدد فئة المنسيين الذين لم تتناولهم وسائل الإعلام.. إنه ينحاز إلى المهمشين من عمال معمار، بقالين، نجارين، منجدين، موظفين صغر، وأصحاب مطاعم فول وطعمية، وأصحاب الخضار والفاكهة الذين يأتون بزرعهم من الأرياف إلى سوق روض الفرج قبل هدمه، ويتوغل بنا إلى عالم هذا السوق وأسراره التى لا يعرفها إلا من عاشها عن قرب، كما يكتب عن الباعة الجائلين، والفرانين، وحتى الحرامية الذين يكشف لنا عن عالمهم المحكوم بقواعد ونظام دقيق، وقد قام الكاتب بتحويل كتابه هذا «خلطة شبرا» إلى معالجة (حكى) لتقدم على مسرح الطليعة من إخراج المجتهد “محمد سليم” الذى أشفقت عليه ـ قبل مشاهدة العرض ـ من كيفية تقديم عرض (حكى) على خشبة المسرح يفتقد إلى وجود حكاية مسلسلة الأحداث يربطها سياق درامى محكم البناء، وفعل مسرحى تقوم به شخصيات ذات أبعاد اجتماعية وثقافية ونفسية تتسق مع فعل الشخصية وسياق وجودها الدرامى وتشابك علاقاتها مع الشخصيات الأخرى، وغير ذلك مما يعنى عدم وجوده تسرب الملل لدى المتلقى، إلا أن خصوصية الكتابة التى قام بها المؤلف الذى يأخذ المتفرج من البداية إلى تقديم الحدود الجغرافية لمنطقة شبرا التى تبدأ جنوبا من بعد نفق شبرا الشهير بشارعيها الرئيسيين (شارع الترعة البولاقية، وشارع شبرا) لتمتد شرقا حتى شريط السكك الحديدية وغربا حتى نهر النيل وشمالا حتى ترعة الإسماعيلية، وأكسبتها تلك الجغرافية خصوصية تقترب من العبقرية، وتضم بينها مناطق ( أحمد حلمى، عايدة، العسال، الحفظية فيكتوريا الشيخ رمضان، عبود، الساحل، روض الفرج، منية السيرج، الخلفاوى، طوسون، جسر البحر، بديع، مسرة، وشارع أبو الفرج، وشارع ابن الرشيد، وغيرها والخلطة هنا مقصود بها تلك الخلطة العجيبة من قاطنيها فهم خلطة حقيقية من أهل بحرى وقبلى، مسلمين ومسيحيين وبقايا فرنجة كاليونانيين والطليان، وغيرهما، ودخل الجميع فى ما يشبه الخلاط لينتج عنهم تلك الخلطة الخاصة بشبرا فقط، التى تميزها كثرة المقاهى، وهى دليل على حب الناس للونس والدفئ، والمنطقة التى لا تكثر أو توجد بها مقاه ـ كما يرى المؤلف ـ دليل افتقادها لهذا الونس وهذا الدفئ وناسها براوية وينصحنا أن نفر منها... وبعد أن يقدم لنا الكاتب المنطقة ومميزات ناسها يبدأ بالحكى عن نماذج محددة منها، ومن على المقهى يسرسب لك العرض حكاياته ويقدم لك ناسه... فعلى الرغم من وجود الانطباع المسبق بأنه لا يجلس على المقهى سوى العواطلية، ومن تخلو يديه من عمل فإن المؤلف يقدم لك الوجه الآخر لذلك، فرغم صحة هذا الانطباع إلا أن وجهه الآخر أن العاطل من “الصنايعية” يذهب إلى مقهاه، فلكل طائفة من العمال مقهاها الخاص، فهناك مقهى الفرانين، ومقهى لعمال المعمار، حتى الحرامية لهم مقهاهم الخاص بهم، والفران العاطل يذهب إلى المقهى، ويأتى صاحب الفرن إليها ليطلب ما ينقصه من العمال سواء (عجان أو خباز أو طولجى) وهكذا فى كل المهن، يأخذنا العرض إلى صاحب المقهى «أبو اليمين» الذى كان يسئ معاملة عماله ويأكل عليهم عرقهم فانصرفوا عنه ليجلس هو على باب مقهاه، ليجعل كل زبون يقوم بصنع المشروب الذى يريده، وكانت الزبائن «تحف» فى المونة حتى أفلس الرجل... أما قهوة الحرامية لصاحبها «سيد إيدن» فلها عالمها الخاص حيث يقوم المعلم بتسريح صبيانه على خطوط الأوتوبيسات والتروميات ليأتون إليه فى نهاية اليوم بالغلة ليقوم بتوزيع العائد على الصبيان، بعد أن يقوم بتصريف / بيع المسروقات من مشغولات ذهبية وغيرها، وفى المقابل يقوم برعاية أسر رجاله إذا مرض أو حبس أحدهم، رغم أنهم حرامية إلا أنهم لا يسرقون أهل المنطقة، وإذا حدث ذلك على سبيل الخطأ فإن ما سرق يتم إعادته إلى صاحبه بمجرد ذهابه إلى المعلم “إيدن” كما حدث مع “خالد إبن توفيق الطعمجى” الذى سرقت منه ساعته فى أتوبيس 82 فى وسط البلد، وذهب مع والده إلى المعلم، فأمر بعودة الساعة لهما فى الحال (وفوقها بوسة كمان) كما يأخذنا العرض إلى «عبيط المنطقة” التى كانت الناس تطلق عليه ـ من باب الأدب ـ “بتاع ربنا” وبتاع ربنا فى شبرا كان اسمه “سعيد” شاب مسيحى حيث لم يكن يهتم أحد بديانة الآخر، وهواية هذا الشاب أنه يقوم بتقليد السيارات الوهمية التى يقودها، ويقوم كذلك من فوق سطح منزلهم برفع آذان الفجر يوميا بشكل غير صحيح دون أن ينهره أحد، ومشهود لهذا الشاب العبيط بشبه معجزتين : الأولى حين سقط من فوق سطح منزلهم بالدور الخامس دون أن يقع له مكروه، والثانية حين طلب “فندامة” من الشيخ “حامد” البقال الذى اعتاد أن يعطيه ما يطلب والمرة الوحيدة التى رفض إعطاؤه فى لم يكن قد (استفتح) بعد مما أغضب “سعيد” الذى قال للبقال “ربنا يعورك” ومن فوره شعر البقال بجيوش من النمل تسرى تحت جلده، وجرب الاستحمام بكل أنوا ع الصابون دون جدوى، ولم يجد أيضا الاستحمام بقشر البطيخ الذى نصح به “خير” الفكهانى، وحتى جاء “سعيد بتاع ربنا” فصاح به البقال وأعطاه الكثير من قطع “الفندام” فأخذها مبتسما وأكلها، وذهب على الفور الشعور بجيوش النمل الذى كان يسرى تحت جلد البقال، ومن هذه الحكاية يذهب العرض إلى حكاية “حسن مدفع” ويطلق عليه ذلك لسرعة تسديده الضربات للخصم إذا تعارك مع أحد، وقد قرر “مدفع” أن يعمل فتوة ليرتزق، رغم أن شبرا لم تعرف نظام الفتونة الذى كان سائدا فى الأحياء الشعبية، وبدأ الحكاية مع “أم شعبان بائعة الفجل والجرجير طالبا منها إتاوة لكى يأكل وحين رفضت قذف بما تجلس به فى الشارع فكان نصيبه علقة لم يأخذها حرامى فى مسجد، وقد قرر «حسن مدفع» بعدها أن يعمل مدرسا للدروس الخصوصية لكل المواد، وبكل المراحل رغم أنه حاصل على دبلوم، ونظره ضعيف للغاية، ولم يكن يعلم شيئا سوى أن يجعل الأولاد يحفظون الدروس، ولأن نظره ضعيف كان يعطى الجميع الدرجات النهائية، والأهل فرحة بذلك ولرخص أجره أيضا، وحين ظهرت النتيجة آخر العام ورسب معظم التلاميذ أو حاز بعضهم الآخر على درجات ضعيفة فقام “أبو فخرى” وأشقائه بطحن “حسن مدفع” وغلق فصل الدروس الخصوصية، وغاب عدة أيام عن العيان وظهر معلنا عن اختراعه العجيب “الغسالة” التى ستريح السيدات من الغسيل وأذى البوتاس، وكان يقوم ببيع الغسالة التى يصنعها بنفسة بالقسط على سبعة أشهر مما جعل “أم فخرى” تجعل زوجها يشترى لها واحدة، وأقامت ما يشبه الحفل لتدشينها وسط كل الجارات، وما إن وضعت فيشة الغسالة فى مقبس الكهرباء حتى صعقها التيار الكهربائى نتيجة خلل فى توصيل أسلاك الغسالة لخطأ ارتكبه “حسن” وذهبت المرأة إلى المستشفى، واكتفى زوجها هذه المرة باستعادة المقدم الذى دفعه، وإعادة الغسالة، واختفى مدفع حتى سافر إلى العراق وانقطعت أخباره.. وتتسرسب الحكايات إلى حكاية «أبو فتحية زوج أم محمود» وهو عامل معمار عاطل تزوج من زوجته بعد أن حرق زوجها الأول نفسه ليرتاح من عذاب عدم الإنجاب، واعتاد الأهل أن ينادونها بـ “أم محمود» مراعاة لمشاعرها وحرمانها من الإنجاب وكانت تلك هى عادتهم مع كل من هى مثلها... كانت المرأة تسرح بعربة صغيرة تبيع عليها البخور فى الموالد وشاركها “أبو فتحية” فى العمل الذى طوره بعمل زجاجات عطرية رخيصة يشتريها منه لنسائهم الفلاحون الذين أتوا لبيع الزرع فى سوق روض الفرج، ثم بدأ فى تصنيع وبيع وصفات عشبية شعبية للمغص، والإسهال والإمساك وتركيبة لزيادة القدرة الزوجية أسماها ليلة الخميس، وازدهرت تجارته حتى أعلن على أهل المنطقة أنه اكتشف علاجا للقضاء على مرض السكر، بنقيضه من أكل الطرشى والمخللات، أما أكل الدهون فيمكن مقاومتها بتدخين المعسل، وقد قام بالتجريب على نفسه أولا، دون أن يرضخ لعلاج الأطباء الذين اكتشفوا أن سكره وصل إلى 750، وبعد شهر نادى المنادى معلنا موت “أبو فتحية”.. إن حكايات حى شبرا ولا حكايات السينما التى منها يأخذنا الرواى والحكائين إلى سينمات شبرا الشعبية ومنها سنما (دولى، شبرا بلاس، مسرة، التحرير، مودرن، سينما الصيفى) والأخيرة كانت تذهب إليها العائلات بحلل المحشى والكشرى، وخلافه، وكان الأطفال يحسدون جيران تلك السينما الذين يشاهدون أفلامها مجانا من شرفاتهم دون الفطنة إلى ما تسببه من إزعاج دائم لهؤلاء الجيران، وكانت تلك السينما تستقدم المغنين الشعبيين كـ«محمد طه، خضرة محمد خضر، وزكى العسكرى» بديلا عن الأفلام فى شهر رمضان... ثم عرف صبية شبرا سينمات الأفلام الأوروبية، وبعدها سنمات العرض الأول، وينعى العرض هدم تلك السينمات فى شبرا وإقامة الجراجات أو الأبراج مكانها، ويعرج العرض على ما يتميز به أهل شبرا من التكاتف وتداول الأطعمة بينهم، ولا سيما فى مناسبات العزاء، واعتياد أن تستعير من الجار ما هو ناقص فى بيتك من زيت أو سكر وخلافهما لحين ميسرة، والمعذور فى مبلغ من المال لزواج أحد الأبناء سرعان ما يتم تكوين جمعية يأخذها فى الأول ويتم تقسيطها شهريا، والمريض يعوده الجيران ويضعون مبلغ من المال تحت وسادته، هكذا كانت تسير الأمور حتى تغير الحال.
إن العرض يرصد لنا ذلك الدفئ والتكاتف والأمان فى ستينات وسبعينات وربما جزء من ثمانينيات القرن الماضى حتى تغير الحال بعودة المسافرين إلى الخليج بمظاهر وأفكار مختلفة وتشدد فى الأفكار الدينية وكمثال إعراض “حمدى» العائد من الخليج بجلباب أبيض وذقن مطلقة وتهديده لسعيد «بتاع ربنا» ومنعه من رفع آذان الفجر مرة أخرى، وتستمر الحكايا لا تنتهى عن شبرا التى وإن فقدت بعض سماتها إلا أن روحها لم تتغير، والأهم هو الروح.
ومع العرض يتبدد الإشفاق على المخرج “محمد سليم” الذى استطاع أن ينفلت من ملل الحكى الذى يتنافى مع حوية المسرح، وقد تغلب على ذلك بأمرين بسيطين، أولهما: تقسيم الحكايا بين راو وثلاث حكائين، وتسليم وتسلم أطراف الحكايات بينهم بنعومة وسلاسة، أما الأمر الثانى هو اعتماده على تشخيص بعض الحكايا (أحداثها وشخوصها) التى تبدت فيها مهارات وخفة ظل كل من “علاء النقيب، محمود عبدالرازق، أحمد عبدالجواد، ومحمد هانى» وطاقاتهم التمثيلية المتفجرة فلم يشعر المتلقى بتسرب الملل ولو لحظة واحدة، وكان معهم غناء الصوت المتميز “ماهر محمود” على الألحان الراقية للراحل “أحمد الحجار” بفواصله اللحنية الرشيقة المغناة بين الحكايات، والعزف الحى للمهرة “نوار مجدى عبيد، توماس القمص لوكاس، مايكل رفعت فكرى، وعمرو بكار»
استطاع العرض أن يحتضن الجمهور بشاشتين من على اليمين واليسار تعرض فى البداية معالم شبرا وأهم شوارعها، وكذلك المقهى البلدى المواجه للمتفرج والتى تم استغلالها بشكل جيد... ديكور بسيط لمصممته “مى كمال” ولكنه معبر ودال دون أن يسعى إلى ازدحام مخل، وملابس عصرية بسيطة للراوى والحكائين، ويسموا العرض بمتفرجه مع الأغنية الأخيرة بصوت الراحل “أحمد الحجار”... والعرض إجمالا يحسب لكاتبه “يسرى حسان” الذى أدخل متفرجه للعيش فى أجواء شبرا التى كانت، واكتفى بالإشارة إلى ما طرأ عليها من متغيرات، وهو أيضا (العرض) يضاف إلى مسيرة المخرج «محمد سليم» الذى وإن كان يسير بتؤدة إلا أنه يترك نتوءات بارزة ـ مع كل عمل ـ فى مسيرته الإخراجية.


أحمد هاشم