العدد 731 صدر بتاريخ 30أغسطس2021
هناك نوع من البشر ـ وهو نادر بالتأكيد ـ يمتلكون درجة من الشفافية يجعلهم يعطون بلا حدود ودون انتظار لمقابل حتى ولو ضحوا بحياتهم من أجل الآخرين. ولعل هذه العبارة أصدق ما تكون متجسدة في شخصية الراحل “بهائي الميرغني، والذي كان من الممكن أن ينجو من الحادث الأليم في مسرح بني سويف ـ لو أنه فكر في نفسه! حيث خرج دون إصابة لحظة انفجار واشتعال صالة العرض ولحظة خروجه من الباب تذكر أن من يشتعلون بالداخل، تحصد النيران أجسادهم وأرواحهم البريئة هم أبناء جيله ورفاق المعاناة والكفاح فما كان منه إلى أن دخل مرة أخرى لينقذ من يستطيع منهم، لكن النيران الغادرة أبت إلا أن تحصد زهور الإبداع المصري ومنهم “بهائي الميرغني” الذي وجد حاضنا أحد زملائه من الذين كان يحاول إنقاذهم في مشهد درامي مأساوي عميق الدلالة وأظن أنه من النادر أن يتكرر.
ولد بهائي الميرغني بمحافظة المنيا عام (1955) وتخرج في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة عين شمس عام (1979) ثم التحق بالعمل في قصر ثقافة شبرا الخيمة ولأن هاجس المسرح كان يسكن مخيلته المليئة بأحلام التجديد راح يزيد من نشاطه ويثقف نفسه مسرحيا من خلال القراءة في أعمال “بيتر بروك” و”آرثر ميللر” و”إبسن” و”ستانسلافسكي” وغيرهم من دعاة المسرح الجديد في العالم دون أن يغفل قراءة التراث المسرحي العربي بداية من فنون الارتجال وبابات ابن دنيال و”الأراجوز” و”خيال الظل” مرورا بالتجارب الكلاسيكية التي ظهرت في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية وصولا إلى فترة ازدهار المسرح المصري في الستينيات.
وقد خرج من قراءته المتعددة والمتنوعة بضرورة إيجاد مسرح بديل ينزل إلى الجمهور العادي في الأماكن المختلفة في القرى والنجوع على امتداد المحافظات، بالفعل جاءته الفرصة الأولى حين شارك في تجربة “الإبداع الجماعي” والتي أشرف عليها المخرج المناضل “أحمد إسماعيل” في (1984) بعرض “الفأس والشمروخ” والذي قدمته فرقة “قرية شما” بالمنوفية من إخراجه.
وقد اعتمد هذا المشروع الرائد ـ والذي جاء على هوى الميرغني ـ على ثلاثة محاور: الأول الجانب النظري وجاء في صورة بيان تأسيسي للفكرة ينظر إلى المسرح باعتباره عملية اجتماعية نوعية في الأساس وأن كل عمليات الإلحاق التقني والمادي والتي واكبته على مدار التاريخ لا تستطيع أن تنال من هذه الحقيقية ولا أن تصمد كبديل عن جوهره الاجتماعي الحي.
أما الجانب الثاني فيتجلى في فكرة المواجهة الحتمية للمسرح التجاري الذي ابتعد كثيرا عن القيم المسرحية العريقة التي بني على أساسها هذا الفن الرفيع الذي واكب التطور البشري وارتبط بكل ما هو إنساني وقيمي، وكان دائما ـ أداة للكشف والرصد والتحليل والبحث عن مكونات النفس في بساطتها وتشابكاتها الداخلية والخارجية.
أما الجانب الثالث فأكد على ضرورة وجود بدائل إيجابية لتطوير فكرة مسرح القرية أو بمعنى أدق “المسرح الشعبي”.
كان هذا المشروع نواة حقيقية لاكتشاف العديد من المواهب الإبداعية أمثال حسن عبده وعبير علي، ورؤوف جمعة، ونهاد أبو العينين، وسهام إسماعيل، ومحمد عزت، ويوسف إسماعيل وغيرهم.
وقد أعطى له قدرا كبيرا من الثقافة مشاركة مجموعة من النقاد المتميزين في لجنة التحكيم أمثال فاروق عبدالقادر وفؤاد دوارة ومحمود نسيم.
وقد لاقى عرض “الفأس والشمروخ” إقبالا جماهيريا من فلاحي القرية الذي من فرط إعجابهم به حملوا “الميرغني” على الأعناق وطافوا به في شوارع القرية ابتهاجا بما شاهدوه.
وربما يأتي هذا الإعجاب من أن العرض ليس ابن نص مكتوب إنما جاء كحصاد لورشة عمل جماعية قامت على جمع الموروث الشعبي الحكائي للقرية، وهي الفكرة التي حاول “الميرغني” بعد ذلك التعمق فيها فبدأ في مراجعة “بابات ابن دنيال” والتي بدأ يمزج بها نصوص “يوجين يونسكو” ويقدمها على خشبة المسرح المصري مستفيدا من تيمات شديدة المحلية لتقديم بنية مسرحية مختلفة تمزج بين الشكلين.
ومن أجل ذلك أسس فرقة “الطيف والخيال” والتي قدمت مجموعة من العروض كان أشهرها “السرايا الصفرا” التي أشاد به عدد كبير من النقاد على رأسهم د. “علي الراعي” الذي قال في مقدمة كتاب مسرح الشعب والذي صدر عن دار “شرقيات” للنشر والتوزيع عام (1993)، أما “خيال الظل” فقد نال حظا وافرا من التقدير وقد تبنته إحدى فرق الشباب وسيلة للتعبير فقدمت فرقة “الطيف والخيال” عرضا بعنوان “السرايا الصفرا” وصفته الناقدة “منحة اليطراوي” بأنه جعل خيال الظل يتحدث عن قضايا حياتية معاصرة بل نفذ إلى أعمال قدرات شخصيات الخيال وجعلتها تتغلغل في سراديب العبثية، ذلك أن العرض قد أفاد من إحدى مسرحيات “أونيسكو” العبثية المسماة “جاك أو الخضوع” واتخذ من العبث وسيلة لفحص أحوال نزلاء السرايا الصفراء، وأقام علاقة تكاملية أحيانا وأخرى تضادية الظل بين شخوص الظل والممثل، فمن شاشة خيال الظل ينبثق ممثل يحول الخيال إلى واقع ملموس”.
ولعل ما حدا “بالميرغني” أن يتجه إلى الموروث الشعبي وتقنياته عبر تضفيره بظلال واقعية هو حال المسرح المصري الذي سيطر عليه الطابع الاستهلاكي منذ بداية السبعينيات وحتى الآن وزاد من حدة الإشكالية غياب الوعي ـ حتى ولو في إطار نسبي ـ من منتجي وفناني المسرح الذين باتوا ينظرون أولا إلى شباك التذاكر أكثر من نظيرتهم إلى ما يقدم على الخشبة.
لذا رأينا حتى تولى إدارة مشروع “مسرح الأماكن المفتوحة “ في الهيئة العامة لقصور الثقافة في الفترة ما بين أعوام (1996) و(1998) أثناء توليه إدارة هذا المشروع بدأ يكثف نشاطه في إنتاج مجموعة من العروض في قري مصر الصغيرة حين كانت المسرحية ـ أحيانا ـ تقدم على شط ترعة.
ولأنه كان من المؤمنين بفكرة العمل الجماعي فقد استعان بعدد من أصدقائه الذين تفاعلوا مع التجربة نظرا لأنهم أبناء جيل واحد من ناحية ومن ناحية أخرى لانحيازهم إلى فكرة التجريب وكان منهم حازم شحاتة ومهدي الحسيني وعبدالستار الخضري ومحمود نسيم والذي قد تولى هذه الإدارة قبل “الميرغني” مباشرة إلا أن ذلك لم يمنعه من المشاركة في التجربة، والتي كان من تجلياته وصول الرسالة المسرحية إلى مستحقيها من الريفيين البسطاء.
لكن للأسف ككل الأشياء الجميلة تم وأد هذه التجربة وهي في أوّج نجاحها وأظن أنها لو استمرت إلى الآن لكان من الممكن أن يتغير حال المسرح المصري، وهكذا عاش بهاء الميرغني.
وهو وبحق صانع مشاريع ثقافية ـ على حد تعبير الشاعر الصديق د. محمود نسيم ـ رحل وترك لنا لوحة إنسانية يصعب على أي فنان تشكيلي في العالم أن يرسم ملامحها: لأنها جدارية خالدة من لحم ودم عاشت واحترقت في حب الوطن.
أحلام مشروعة
أما عرض “أحلام مشروعة” تأليف أمير سلامة والذي أخرجه “بهائي الميرغني” للفرقة المركزية للهيئة العامة لقصور الثقافة عام (1991) على المسرح العائم فيناقش قضية إنسانية، تراهن على الفعل الإنساني والقوة الروحية في مواجهة القهر بمستوييه الداخلي والخارجي، عبر مجاهدة الأحلام الموؤدة والطموحات السلبية والمتسلبة، كمحاولة للخروج من عذابات لا تنتهي.
هي ـ إذن ـ مسرحية تعبر عن مأزق وجودي في الأساس فتبدو الأحلام في منأى عن إرادة الفعل رغم أنها ـ في الأساس ـ “أحلام مشروعة”.
لذا يمكننا القول بأن “العرض ينتمي إلى ما يمكن أن يسمى بالمسرح النفسي المتأثر بالرؤى الفرويدية، فبطلة المسرحية “كوثر” تنتمي إلى إحدى العائلات الأرستقراطية وتمارس القهر على مخدوماتها “زينب”، ثم تتوهم أنها قتلت حبيبها القديم، ونراها تحلم طيلة العرض بأن يكون حبيبها الجديد “مصطفى” يحبها على قدر حبها له، وتظل مثل هذه الحالة من الصراع حتى في حلمها أن تصبح أما وجدة، ويرجع هذا الصراع حسبما يشير النص المسرحي إلى الموروث الأسري القاهر ترسمها لها مخيلتها المريضة، لذلك نراها تفتقد إلى عناصر الحياة وأهمها المواجهة، وهذا ما يؤكده مشهد النهاية حيث تقف وحيدة في منتصف خشبة المسرح ثم تسقط من فرط الإعياء بعد أن تتهمها خادمتها “زينب” بالجنون وتتركها وحيدة تواجه مصيرها.
وقد مزج “الميرغني” بعض شخوص العمل ذات الطابع البشري بعالم العرائس، خاصة حينما يعلو خطاب الفصام النفسي في لحظة الذروة للأوهام، والمخاوف التي تسيطر على رأس البطلة “كوثر” والتي قامت بدورها الفنانة عزة الحسيني، فتظهر الشخوص على خشبة المسرح بأقنعتها كأشباح متحركة، أو على حد تعبير الناقد أحمد عبد الرازق أبو العلا فإن “الميرغني جعل الصورة المسرحية تستوعب العناصر المختارة لملء الفراغ المسرحي ليس بمعزل عن الممثل، بل اتصالا به، واعتمادا عليه كعنصر آخر تضافر والعناصر الأخرى في مزج متناغم.
وقد لعب فنانو تحريك العرائس والظلال “ناصر عبدالتواب” و”حمدي العربي” و”إسماعيل عبد الحميد” و”عادل ماضي” دورا كبيرا في إبراز الفعل الحركي للدمى، والتي جاءت في إطار تصميمي رائع .