بدايات جمعية أنصار التمثيل والسينما (7) فيلم الوردة البيضاء

بدايات جمعية أنصار التمثيل والسينما (7) فيلم الوردة البيضاء

العدد 724 صدر بتاريخ 12يوليو2021

تألق أنشطة جمعية أنصار التمثيل والسينما، الذي تحدثنا عنه في المقالات السابقة، جعل إدارتها تنقل مقرها من عيادة رئيسها الدكتور «فؤاد رشيد» إلى مقر جديد بعمارة رقم 8 في شارع البورصة الجديدة – وهو مقرها الحالي - وفيه استقبلت أعضاء لجنة تشجيع التمثيل والسينما بوزارة المعارف، وعلى رأسهم «محمد حسن العشماوي بك» سكرتير عام الوزارة، الذي قال: «إنه من اللحظة التي وجد فيها بوزارة المعارف وهو يعمل على كل ما من شأنه أن يرقى التمثيل ويرفع مستواه، لا أداء لواجب بل عن اعتقاد ثابت في أن الممثل بحكم عمله يعتبر أستاذاً للتربية والأخلاق في أمته. وبهذه العقيدة كنت أنظر إلى الممثل وأعاونه على أداء مهمته على الوجه الذي يفيد به بلاده. ولكنني كنت أنظر بأسف إلى الوسط التمثيلي وما ينتابه من علل تقلل في نظر الجميع من مكانة هذا الأستاذ الذي نصبناه لتعليم الشعب وتهذيب أبنائه، ولقد عملت بكل جهدي على رفع مستوى ذلك الوسط، ولم تدخر وزارة المعارف جهداً في بذل أقصى ما تستطيعه في هذا السبيل. أما وقد تكونت جمعية أنصار التمثيل والسينما، فإنني منذ ذلك الحين أرقب أعمالها وأشاهد عن كثب آثارها التي بعثت فيّ كبير الأمل، وجعلتني أعتقد أن هذه الجمعية التي تألفت من أفراد لا يهمهم إلا خدمة الفن على وجهه الصحيح، دون نظر إلى منفعة شخصية أو فائدة مادية، ستؤدي مهمتها خير أداء، وستكون نواة صالحة لبعث الروح الفنية التي أخمدتها الرأسمالية المسرحية في بلادنا. نعم إنني كنت أغتبط كلما رأيت الخطوات الموفقة التي كانت الجمعية تخطوها من غير أن يكون لديها من رأس المال إلا همة أعضائها وقوة يقينهم وهو تراث أدبي دون المال والمتاع»، هكذا نشرت جريدة «أبو الهول»، ومجلة «الكواكب» في أواخر عام 1933.
 في هذه الفترة، عرضت الجمعية عدة مسرحيات، منها «ألا مود» لعباس علام وعرضتها على مسرح رمسيس، وأخرجها عمر وصفي، ومثلها كل من: أمينة شكيب، زينب شكيب، عمر وصفي، زكي رستم، عبد العزيز أحمد، محمد فاضل. وكتب عنها مقالة نقدية الناقد الفني لجريدة «الشعب» يوم 15 نوفمبر، وأشار إلى أن المسرحية مثلتها من قبل فرقة أولاد عكاشة، وفرقة فكتوريا موسى، واختتم الناقد مقالته بكلمة قال فيها: «أجد لزاماً عليّ بعد أن كتبت نقدي على الرواية أن أختم هذا النقد بتوجيه كلمات الشكر والثناء إلى جماعة أنصار التمثيل والسينما التي عملت ولا زالت تعمل على الأخذ بيد الفن المسرحي بعد أن كادت تدفنه تحت أنقاض التهريج تلك الفرق التي لم تعرف بعد الفرق بين فن التمثيل من حيث هو فن وبين الاتجار بالتهريج المسرحي»!
وفي فبراير 1934 بدأت الجمعية عمل بروفات خمس مسرحيات: «السكرتير الفني» المقتبسة من رواية «توباز» بقلم بديع خيري ونجيب الريحاني، وستعرض في دار الأوبرا الملكية لحفلة النادي الأهلي، ومسرحية «البخيل» لموليير ترجمة محمد مسعود وستعرض في دار الأوبرا الملكية أيضاً لحفلة جمعية المواساة الإسلامية، ومسرحية «زوجتي الثانية» بقلم سليمان نجيب وعبد الوارث عسر وستعرض في الأوبرا لحفلة جمعية الشبان المسلمين، ومسرحية «حادث الطربوش» المقتبسة عن الإنجليزية بقلم سليمان نجيب ووصفي عمر مع رواية «قهوة سادة» تأليف الدكتور فؤاد رشيد وستعرض في الأوبرا لحفلة خاصة بالجمعية. وهذا المجهود الكبير جعل لجنة تشجيع الجهود المصرية للتمثيل والسينما بوزارة المعارف تنتدب أحد أعضائها – وهو توفيق الحكيم - لكتابة تقرير عن جمعية أنصار التمثيل والسينما وأعمالها وحفلاتها والمسرحيات التي مثلتها، حتى يتم صرف إعانة لها ضمن إعانات الوزارة للفرق المسرحية، مما يعني أن الدولة اعترفت رسمياً بأن الجمعية تُعدّ فرقة مسرحية مثلها مثل جميع الفرق الكبرى العاملة في مصر في تلك الفترة!
وأكبر دليل على أن الجمعية أصبحت الفرقة الرصينة والممثلة للدولة – قبل ظهور الفرقة القومية – أن الدكتور علي باشا إبراهيم عميد كلية الطب ورئيس الجمعية الطبية المصرية، اختارها لتحيي حفلة أسبوع الرعاية الصحية. وقد كتب الدكتور فؤاد رشيد – رئيس جمعية أنصار التمثيل والسينما – مسرحية لهذه المناسبة اسمها «الواجب» وجعل بطلها طبيباً واستعرض في خلال حوادثها عدة مواقف صحية، ومن ذلك أنه أظهر فيها مريضاً بالزهري يعرض نفسه على الطبيب فيسدي له الطبيب النصيحة اللازمة؛ ولكنه يتوانى عن علاجه ويهمله، ثم يظهر في الفصل الثاني من المسرحية فإذا بهذا المريض يعود للطبيب وقد أصيب بالشلل، وهكذا يتلقى الجمهور نصائح صحية في شكل مسرحي جميل. وقام بتمثيل المسرحية: سليمان نجيب، وأمينة شكيب، وعبد الوارث عسر، وتوفيق المردنلي، وحنا وهبي، ومحمد عبد القدوس، وعبد الحميد زكي. وبعد العرض ألقى فكري أباظة كلمة تحية للجنة نشر الدعوة الصحية، وألقى إبراهيم ناجي قصيدة، ثم مثلت الجمعية أيضاً رواية «التقرير السري» التي اقتبسها سليمان نجيب عن أصلها الإنجليزي «أسرار الحكومة».
فيلم الوردة البيضاء
وفي مجال السينما تم إنتاج وعرض فيلم «الوردة البيضاء»، الذي شارك فيه أغلب أعضاء جمعية أنصار التمثيل والسينما، مثل «محمد كريم» الذي أخرجه وأعدّ قصته، وسليمان نجيب الذي مثّل فيه وكتب حواره مع «توفيق المردنلي» الذي مثّل فيه أيضاً مع «محمد عبد القدوس». وقالت جريدة «المقطم» في هذا الشأن: «إن أعضاء الجمعية الذين اشتركوا في الفيلم ينقسمون إلى فريقين: الأول أدى أدواره في مصر من دون الرحيل إلى الخارج، وأفراده هم: حضرات الأفندية «محمد توفيق، أحمد البدوي، عبد القادر المسيري، داود عصمت، عبد الوارث عسر، حنا وهبه، عباس رحمي»، وهؤلاء لم يتناول واحد منهم مليماً واحداً حتى ولا مصاريفه الشخصية أو أجور انتقاله. أما الفريق الثاني، وهو الذي رافق الراحلين إلى أوروبا فعدده أربعة أشخاص هم: حضرات الأفندية «سليمان نجيب، توفيق المردنلي، محمد عبد القدوس، محمد عبد العزيز»، وسافر الأخير على نفقته الخاصة، ولم يتناول شيئاً على الإطلاق حتى ولا المصاريف الشخصية ولا أجور الفندق والمأكل ونحو ذلك. وقام اثنان من الثلاثة الباقين بتأليف حوار الرواية علاوة على الاشتراك مع الثالث في التمثيل. وهؤلاء الثلاثة سافروا حقاً على حساب الإدارة ودفعت لهم أجور النوم والأكل وأهدى إليهم صاحب الفيلم ما يساوي نفقاتهم الشخصية في الخارج»، هكذا نشرت جريدة «المقطم».
وفي لقاء «محمد حسن العشماوي بك» سكرتير عام الوزارة مع أعضاء الجمعية في مقرهم الجديد، قال عن فيلم «الوردة البيضاء»: «إنه خير دعاية لمصر وريفها، وأنه يرى أن الفيلم خير ما أخرج للناس في مصر، وأنه عقب مشاهدته كتب خطاب تهنئة إلى الأستاذ محمد عبد الوهاب، لأنه اغتبط اغتباطاً كبيراً وسر لذلك النجاح الكبير لا لما حواه الفيلم من أغاني عبد الوهاب البديعة، ولبراعة الممثلين ودقة الإخراج وهما الأثر الواضح من آثار جمعية أنصار التمثيل والسينما في الوردة البيضاء».
أما «محمد عبد الوهاب» فقد أرسل خطاباً إلى «فؤاد رشيد» رئيس جمعية أنصار التمثيل والسينما – نشرته مجلة «الكواكب» - قال فيه: «.. كان للمعاونة الصادقة التي قدمتها الجمعية لي في إخراج فيلم الوردة البيضاء أكبر أثر، في نفسي بل وفي نفوس الجماهير التي عرفت لجمعيتكم مكانتها، وقابلت بالترحاب مجهودات أعضائها الذين اضطلعوا بأدوار الفيلم فبلغوا فيها ذروة النجاح وأحسن القبول. وإن كان لي أن أقدم الشكر فإني أصوغه لأفراد الجمعية واحداً واحداً دون أن أنسى ما بذله العضو النابغ محمد كريم من جهد فاق كل حد. لذلك يسرني أن أسجل إعجابي وشكري للجمعية آملاً أن يجد الفن في رعايتها ما يصل به إلى المكانة التي عرفها له العالم في جميع أقطاره».
إشكالية الهواية والاحتراف
شاء القدر أن تتألق جمعية أنصار التمثيل والسينما في وقت اشتداد الأزمة المالية العالمية، التي أدت إلى تفكك أغلب الفرق المسرحية المحترفة في مصر، وتشريد أغلب ممثليها المحترفين، مع تحويل بعض دور المسارح إلى سينمات! لذلك كانت الجمعية هي أهم فرقة مسرحية في مصر وقتذاك، لذلك لجأت إليها أغلب الجمعيات الخيرية لتحيي حفلاتها الفنية، التي كانت تحييها بعض الفرق المحترفة. ونتج عن هذا الوضع قضية فنية وإدارية، شغلت الجميع طوال عدة أشهر حول «الاحتراف والهواية في التمثيل» أو بين «الممثلين المحترفين وهواة التمثيل»! وهذه القضية أشعلتها الممثلة «دولت أبيض» وأسهم الجميع في اشتعالها! لذلك سأتتبع هذه القضية في ملخص يسير، تبعاً لتسلسل أحداثها:
في ديسمبر 1933، نشرت مجلة «الملاهي المصورة» كلمة، قالت فيها: « قدمت السيدة دولت أبيض الممثلة المعروفة شكوى إلى حضرة صاحب المعالي وزير المعارف تتناول ما يعانيه الممثلون المحترفون من ضيق مادي. وقالت إن كثيرين منهم باتوا يرقبون الليالي التي يمثلون فيها للجمعيات الخيرية. ولكن هذه الجمعيات قد احتكرت العمل لهن جماعة أنصار التمثيل. وقالت في هذه الجماعة بأنها مؤلفة من موظفين في الحكومة يتناول كثيرون منهم مرتبات كبيرة ويمثلون للجمعيات الخيرية بنصف الأجر الذي كانت تتناوله عادة جوقات التمثيل. أما السبب الذي قدمت من أجله هذه الشكوى فذلك أن الجمعية قد اتفقت مع السيدة دولت أبيض لتمثل الدور الأول في ليلة أحيتها هذه الجمعية لإحدى الجمعيات الخيرية. ولما انتهت الليلة وقامت دولت بدورها خير قيام رفضت الجمعية إعطاءها أجرها بحجة أن الليلة لغرض خيري محض لا يتناول ممثلوها عنها أجراً. ولكن السيدة دولت أبيض تقول إن الجمعية الخيرية دفعت إلى جماعة أنصار التمثيل نظير تمثيل هذه الليلة خمسين جنيهاً! وعلى كل فلا شك إنه كان يصح إعطاء السيدة دولت جزءاً مما أُعطي للجمعية لأنها محترفة وليست غاوية، ثم إنها ما كانت لتُدعى للمعاونة في التمثيل لولا إنه كانت هناك حاجة إلى فنها ومقدرتها. ومطلب السيدة دولت أبيض هو مطلب عادل يصح أن يقدره أولو الأمر في هذه الجمعية حرصاً على قيام التعاون عند اللزوم بينها وبين من تطلب من المحترفين لمساعدتها في إخراج رواياتها «.
وبعد أيام قالت جريدة «البلاغ»: «أرسلت السيدة دولت أبيض خطاباً مفتوحاً إلى صاحب المعالي وزير المعارف تتناول فيه ما يعانيه الممثلون المحترفون من ضيق مادي، فأصبح موردهم الوحيد بعد احتضار المسرح أن تدعوهم إحدى الجمعيات الخيرية في حفلاتها لتخفيف أزمة هذا الضيق؛ ولكن هذه الجمعيات الخيرية ضاعت من أيديهم بفضل جماعة من موظفي الحكومة ألفوا جمعية أنصار التمثيل والسينما فضيقوا السبيل على الممثلين المحترفين، بما يسمونه تطوعاً لخدمة الجمعيات الخيرية، وكذلك لخدمة التمثيل ولرفع شأنه فاحتكروا حفلات هذه الجمعيات، وقنعوا بقبض نصف الأجر الذي يتقاضاه عامة الممثلين المحترفين؛ لأنهم موظفون تدفع لهم الحكومة مرتبات تكفي معاشهم فلا يضيرهم بعد ذلك شيء، بل يجدون من القليل مورد كسب عظيم والواقع أن هذا الأجر إنما هو حق الممثلين المحترفين. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أن جماعة أنصار التمثيل اتفقوا مع السيدة دولت أبيض على تمثيل الدور الأول في رواية «الدكتور» في حفلة الجمعية الخيرية الإسلامية الأخيرة على مسرح دار الأوبرا، ومع أنهم يعلمون أنها ممثلة محترفة تتقاضى الأجر دائماً عن الاشتغال بالمسرح سواء كان هذا للجمعيات الخيرية أم لغيرها؛ فإن هذه الجماعة لم تدفع لها شيئاً رغم مطالبة السيدة دولت بهذا الأجر مراراً عديدة. وقد علمت هذه السيدة أن جماعة أنصار التمثيل قبضت خمسين جنيهاً أجراً عن هذه الليلة «.
وأكملت الجريدة موضوعها، قائلة: «وقد جاءنا بعد ذلك الخطاب الآتي من الأستاذ زكي رستم: حضرة المحترم رئيس تحرير جريدة البلاغ، تحية وسلاماً وبعد، فأرجو أن تسمحوا بنشر هذه الكلمة ككتاب مفتوح موجه إلى جمعية أنصار التمثيل ولكم مني الشكر: حضرة المحترم رئيس جمعية أنصار التمثيل. سبق أن انضممت إلى جمعيتكم منذ بضعة شهور بناء على دعوة من أعضاء الجمعية. وبالرغم من أنني لم أظهر مع الجمعية على المسرح في دور واحد، وإنني مبتعد عنها كل البعد حتى في زيارة أعضائها في ناديهم، أعلن اليوم انسحابي من الجمعية احتجاجاً على ما بدر منها في حق زميلتي السيدة دولت أبيض. فإن الجمعية لم تكتف بمزاحمتها للممثلين المحترفين في رزقهم بل عمدت أخيراً إلى ما هو أشد من ذلك، إذ كلفت السيدة دولت بتمثيل الدور الأول في رواية «الدكتور» على مسرح الأوبرا في حفلة الجمعية الخيرية ولم تعطها أجراً على هذا التمثيل مع أن أعضاء الجمعية يعلمون أنها ممثلة محترفة ليس لها مورد رزق غير مهنتها فهل بعد هذا من نصرة التمثيل الذي أنشئت له الجمعية؟ إنني ممثل لي شرف الاحتراف العلني الذي هو ميزان قدرة الممثل وعنوان كفاءته فلا أقبل أن أستتر وراء ستار الهواية كما يفعل غيري ولذلك أعلنكم باستقالتي من جمعيتكم على صفحات البلاغ والسلام».


سيد علي إسماعيل