تيارات الحياة وشغف الحنين في «طقوس العودة»

تيارات الحياة وشغف الحنين في «طقوس العودة»

العدد 720 صدر بتاريخ 14يونيو2021

كانت شمس طقوس العودة عريقة ساطعة، وقمرها وردي خجول، ففي حضرة الحب أصبح الفن وعيا، والعشق وطنا، والفكر روحا ووهجا، فقد أهدانا سعيد سليمان – الفنان المثقف والمخرج الكبير -، قطعة فنية مسكونة بالجمال الذي يبوح ويروي، يموج بالصدق والحرارة، ويذوب عشقا في أعماق المعنى والإنسان والحرية، فهذه التجربة هي امتلاك مثير للحظة يقين مسرحي، تجاوزت صمت الكائن وتحديات السائد، لتتحول إلى بعث جديد، يفجر في الأعماق تيارات الحياة وشغف الحنين إلى الدفء والشمس والغناء والاكتمال، لذلك جاء الميلاد صاخبا ومثيرا، يبعث الجدل والتساؤلات ليضعنا في مواجهة شرسة مع وقائع وجود مهزوم، كاد ينهار في موجات السقوط - -، إنها حالة من الجمال غابت عنها الحدود الفاصلة بين الفن واندفاعات الحياة، وتحول تيار البوح والغناء إلى موجات ثائرة، تؤكد أن المسرح سيظل يمتلك سحرا وغموضا وأسرار . 
هذه التجربة من إنتاج مسرح الغد، تعرض على مسرح الطليعة، للمخرج وصاحب الإعداد سعيد سليمان، الرؤية الموسيقية الخلابة للفنان أحمد الحجار، والأشعار اللامعة لمسعود شومان، وفي هذا الإطار تأتي طقوس العودة كعرض غنائي استعراضي يتجه إلى قالب الأوبريت، يرتكز على حكاية حسن ونعيمة، أشرس حواديت الحب في التراث الشعبي، فهي تراجيديا الحب والثورة والدم، تروي عن جموح التسلط وانكسارات الإنسان، عن انهيارات اليقين وبرودة الأحزان، عن الرضوخ والقهر والاستبداد، عن التراث والسياسة، وأساطير العشق والدم والجنون، والتساؤلات الجريئة والإجابات الصريحة، التي تموج فكرا ووعيا وجمال، وتظل هذه الحكاية تمتلك إمكانات طرح قراءات جدلية للموروث الشعبي تموج بشراسة الجروتسك وعذابات التراجيديا وأحلام الخلاص . 
تناول نجيب سرور قصة الحب الشهيرة بين حسن ونعيمة في مسرحيته منين أجيب ناس، وطرح ذلك التراث بأسلوب نقدي درامي، كما تناولها أيضا شوقي عبد الحكيم، وتوقف طويلا أمام حادثة مقتل المغنواتي، فوضع شخصياته موضع الاتهام ليحاكمها، ويطرح عليها وعلينا تساؤلا مخيفا شديد العمق والدلالة وهو - - لماذا يموت حسن ؟ 
أما سعيد سليمان فقد استدعى الماضي والحاضر واتجه إلى نعيمة ليضعها في قلب أساطير طقوس العودة، لعلها تستعيد حسن ليواجه قبح الوجود، ويفتح مسارات جديدة للحب والحرية، فنحن أمام بعث أسطوري جديد، نعيمة قررت أن تفعل ما فعلته ايزيس، ستستدعي حسن ليمنحها الخصب والاكتمال، رأسه الجميل أمامنا، تناجيه عبر طقوسها الحارة، تريده بجنون، المستويات الزمنية والجمالية تتضافر، والمغنواتي يخرج من عمق روحها يغني لها فيذكرها بالماضي الجميل، ويدفعها إلى المستقبل القادم، ويطلب منها أن تمنحه بعثا معنويا جديدا يفيض على الوجود نورا وحبا وحرية، الحالة الفنية تبدو متوهجة - -، الموسيقى، الغناء، الدف، والإيقاع، الوتريات والأداء المدهش، والفن ينطلق إلى قلب الناس والآفاق، تلك الحالة التي تبلورت عبر سحر المزج الدقيق بين الماضي والحاضر والحقيقة والخيال، شاشة السينما في العمق تبعث تقاطعات عبقرية بين الزمان والمكان والأحداث، لتتفجر إيقاعات الجدل التي تؤكد أن التاريخ لا يعيد نفسه، لكن جذور الاستبداد والفساد تعيد إنتاج نفسها بشراسة مخيفة، لنعايش ميلادا متجددا لنفس التناقضات، ونصبح أمام مواجهات صادمة للوعي الغائب والأحلام المسروقة، والأجساد المغتصبة، والعقول المستلبة . 
يبعث مخرج المسرحية ثورة جمالية عارمة، فالتجربة تحمل قرارا بامتلاك وثيقة الانتماء للجمهور، تميزت لغته بالبساطة والحيوية، وتضافرت الرؤى الواقعية مع البصمات الإبداعية، وغموض الملامح الأسطورية، الخاص يمتزج بالعام ليفجر تيارات المشاعر المبهرة، التي تشكل أبعاد اللحظة الفارقة في مواجهة الوجود، وتكشف أسرار العشق الإنساني الجارف للحياة، وإذا كان سعيد سليمان هو صاحب إبداعات ثائرة وبصمات فريدة، فإن أعماله تأتي ممتلكة لوعيها الثقافي وقانونها الخاص، حيث يتبنى أقصى درجات الحرية، ليطرح مفهوما مغايرا للوجود والإنسان، فيبوح ويروي ويمزق كل الأقنعة، لذلك استطاع أن يدخل سياقا مغايرا باعتباره صاحب مشروع مسرحي واضح، يرتكز على رؤى فكرية وفلسفية ناضجة، تنطلق من مفاهيم حرية الوعي والجسد والثقافة، يتجه نحو إدانة القهر والاستبداد والتسلط وسقوط المعنى وانهيار الإنسان، لذلك تأتي طقوس العودة كامتداد حيوي مشاغب، يضيف أبعادا جديدة لتجربته الثرية، التي تبلورت عبر العديد من الأعمال المتميزة مثل العشاق، الزفاف الدامي، طقوس الحرية، هكذا تكلم ابن عربي، حي بن يقظان، الإنسان الطيب، الأوبرا الطقسية شامان وغيرهم، وكلها أعمال تربطها علاقات فلسفية وجمالية وطقسية متنامية، تبحث عن جوهر الوجود الإنساني، عبر إيقاعات الجدل بين حرارة الدراما وجموح التراجيديا وعنف المأساة وبرودة العبث، وشراسة الجروتسك، وكذلك الغناء والشعر والفكر والفلسفة والأساطير والتراث، وهكذا نجد أن سعيد سليمان فنان حقيقي يمتلك الرؤية والفكر والبصمات الإبداعية المتميزة . 
تجاوز التشكيل السينوغرافي حدود الجمال المألوف، ليصبح نجما فريدا في سياق الحالة الفنية، التي تفكك معايير الرؤى التقليدية، لتخترق الحواجز ومفاهيم الإيهام، التفاصيل الصغيرة تبعث حضورا مدهشا، المثلثات، الدوائر، العيون، الأصابع، والرسومات التجريدية الغامضة على الخلفيات السوداء، كلها ترسم ملامح طقوس العودة، اللحظات الأولى تأخذنا إلى عالم مختلف يبعث سحرا في الأعماق، الضوء والليل والنجوم والغناء والأحلام يستدعون بداية البدايات ، الشغف النوراني يعانق شفافية الرغبة، والحضور الإنساني يلفه صمت الشوق والانتظار، الخلفيات السوداء تروي عن الأساطير، وتقاطعات الأبيض والأسود تثير جدلا مع سحر الحياة حينا، وشرورها الآثمة حينا آخر، الموتيفات الصغيرة تبعث التساؤلات حول ذلك الرأس الجميل والوجه المعذب بمحاولات البعث الجديد . 
يتضافر العزف المبهر مع الغناء الجميل والأداء اللافت، والحوار يأخذنا إلى قلب القضية المطروحة، الحركة تتضافر مع الضوء والموسيقى والغناء ولغة الجسد، نعيمة تشاغب الأقدار وتستدعي روح حسن، ليبعث من جديد وتتردد أغانيه، تضع نفسها وأمها وأباها موضع الإدانة والمساءلة، ومنظومة الإخراج تشتبك مع قلب واقعنا الحالي، حيث انهيارات القيم والمعنى والجمال، وفي هذا السياق تجاوز الحوار الذي يتقاطع مع الموسيقى والغناء، تجاوزوا الحدود الفاصلة بين الجنة والنار و وظلت التساؤلات الحرجة تؤكد حتمية الاحتياج إلى المعرفة والنور، إلى مخالفة القواعد وتحطيمها - -، وصولا إلى التحقق وامتلاك الذات ، وهكذا ستظل حكاية حسن ونعيمة هي أيقونة القهر والاستبداد و فنحن أمام قصة حب ساخنة بين المغنواتي الشاب وفتاته الجميلة، سرعان ما انتهت بذبح حسن وإلقاء جسده في النيل، لتظل نعيمة في رحلة عذاب عبثي تنتظر فتاها المقتول، فقد كان حسن يغني ويسأل ويحب نعيمة - -، لكن الغناء حرية، والحب حرية والسؤال معرفة - -، والمعرفة محرمة، لذلك تحتم قتله، وهكذا اتجهت تجربة طقوس العودة بكل ما تحمله من دفء وجرأة وحرارة وشعر وموسيقى ودقات وغناء وإيقاع، اتجهت نحو مواجهة ساخنة مع واقع زائف مختل غابت عنه أشواق الحياة، فمزقت الأقنعة، وتبلورت رسائل العرض في ضرورة حضور روح حسن وأغنياته وعشقه ونقائه واستعادة ذلك البريق الذي سيفتح المسارات أمام وهج الشمس وضوء القمر وأحلام الحب والحرية . 
شارك في العرض النجم اللامع ماهر محمود صاحب الموهبة الخصبة والصوت الساحر والأداء الناعم الثائر الجميل، أما الفنانة المتميزة نجلاء يونس فهي تموج بالحضور المشع، و تمتلك طاقات شاعرية وأدائية مدهشة، ويذكر أن الرؤية الموسيقية والألحان للفنان أحمد الحجار قد تجاوزت حدود الجمال المألوف وتحولت إلى عزف كوني على أوتار الروح والمعنى، وتأتي أشعار مسعود شومان لتتضافر بقوة مع نسيج العمل، أضافت أبعادا دالة للحالة الدرامية، أما الديكور البسيط الدال للفنانة نورهان سمير فقد جسد سحر الأجواء الشعبية وغموض طقوس العودة .


وفاء كمالو