«ألمظ وسي عبدو» الأنموذج الحي لتكامل المنظومة الفكرية والبصرية في العرض المسرحي

«ألمظ وسي عبدو» الأنموذج الحي لتكامل المنظومة الفكرية والبصرية في العرض المسرحي

العدد 711 صدر بتاريخ 12أبريل2021

ان تنهل من التاريخ ليس فقط ما كان يدور في كواليس الحكم والسياسة  او صراعات النسوة في مخادع الاميرات والامراء والجواري والخدم والحشم وعلية القوم ، لكن ان تنهل من تاريخ الفن حكاية تحمل في طياتها دور الفن في المجتمعات ومدى تأثيره في دماغ الفرد واهتمام الساسة برعايته ، وافراد مخصصات معيشية له كي يستطيع  ان يقدم ابداعه بكل اريحية وكان هذا معمولا به  في عصر بداية الفن اليوناني وتراوح هذا الاهتمام بين مد وجزر حسب المراحل التاريخية بل وهناك العديد من الفنانين اصبحوا مطاردين من اجهزة الدولة مثل ابي خليل القباني الذي هرب الى مصر من جور السلطان وايضا الاخوين لاما الذين هربوا من يافا ايضا الى مصر ، اذن مصر هي الحاضنة لكل مبدع ملهوف لما لها من سماحة عبر التاريخ في ترسيخ الفن كانموذج حياة ودوره في دوزان دماغ الفرد من قصيدة شعر واغنية ورواية ومسرحية وتكثر هنا النماذج التي يمكن الاستشهاد بها ، لكن نموذجنا الذي تم احياء تاريخه في عرض مسرحي  عبر حكاية فنية اشتهرت في زمانها ومكانها واصبحت تلك الحكاية حديث الناس والقصور معا انها حكاية المغنية المظ او الماظة وسي عبده الحمولي الذي بلغت شهرته الافاق .
 ان تكتب نصا مسرحيا غنائيا استعراضيا بخط درامي متشعب ليس بالامر السهل او الهين وان تتعاطى كمخرج مع هكذا  نص ليس بالامر البسيط ايضا بل هو معقد الى مدى وضوح الخلط بين القدرة على النجاح وبين التسطيح المفتعل من اجل الخروج باقل الخسائر ، وهنا اتحدث عن عرض المسرحية الغنائية الاستعراضية “ المظ وسي عبده “ التي قدمت على مسرح البالون برعاية ودعم البيت الفني للفنون الاستعراضية بادارة عادل عبده والتي صاغ نصها بشكل عبقري الكاتب والشاعر مصطفى سليم وتصدى لاخراجه المخرج الشاب مازن الغرباوي.
 واذا اردنا قراءة العرض من جانب فكري فاننا نرى الحالة المتأصلة عبر التاريخ في مسألة الجندرية بسطوة الذكورية على واقع المجتمع بدءا من سطوة ابناء العمومة على الفتاة المظ لتعمل في تسلية عمال البناء بغنائها الساحر رغم انه تم تناوله اخراجيا باسلوب كوميدي محبب ولكننا نذهب باتجاه المعاني في التحليل وانتقالها بعد ذلك للمدينة عبر سطوة الشيخ ودوره وعلاقاته في جعلها تعمل كمغنية في تخت غنائي ونجاحها فيه مما جعل ساكنة باشا التي كانت صاحبة المجد في ذلك الوقت تحيك لها المؤامرات،  كي تأسرها تحت جناحيها بدلا من منافستها بضمتها الى تختها الغنائي ، وتجسدت السطوة الذكورية في زواج المظ من عبده الحمولي ومنعه لها من الغناء في القصور وفي المناسبات، لاسباب عديدة كغيرته الكبيرة عليها، ثم خوفه عليها من  الخديوي نفسه، الذي لم يعجب بصوتها فحسب ، بل ارادها ضمن جواريه، إلى حد أن منحها قبل زواجها من عبدو التواجد والدخول وقت تشاء الى نسائه، بل  ومنحها شرف أن تكون جليسة نسائه الدائمة، وخاصة الوالدة باشا ، الأمر الذي هيج لدى عبدو سلطته  الذكورية حتى منعها من هذا التواجد هناك .
 حمل العرض في طياته منظومة فكرية جمالية ورؤيا بصرية تستند الى الاقناع لا الابهار،  وبغناء يعبيء طاقة الإنسان الوجدانية حد الاشباع سواء من المغنية المظ “ مروة ناجي “ والتي جسدتها بطاقة تمثيلية هائلة، بصوتها الغنائي الساحر، أو من سي عبده “ وائل الفشني “ بماله من حضور  أخاذ، ولاننسى روعة الفرقة الاستعراضية التي رقصت بكل تجلٍ  استعراضي مدهش.
لقد حقق العرض باحترافية عالية  قدرة على جذب المتابع، وبشغف غير مسبوق، انتظارا لأحداث الحكاية من جانب، وانتظارا للاغنية القادمة من جانب اخر، مما يجعلنا نتحدث عن الربط الدرامي المتقن ما بين الغناء والاداء التمثيلي الممتع والساحر لشخوص العرض، فكان الاشتغال على الكركتر سمة بارزة في العرض،  مثل شخصية الاب “ حسن العدل “ الذي قدمه باسلوبه محبب، فيما برز الثنائي عوض “ محمد عمر “ وعباس “ محمد حسني “ اللذان استطاعا بتناغم اضفاء روح المتعة على كامل العرض، ساعد على ذلك البعد الدرامي الكوميدي العميق، الذي جسده باقتدار الشاب المخضرم “ محمد طلبة “، فبرزت قدراته التمثيلية الكوميدية الهائلة ، رغم أنه من شخصيات الظل التابعة كما هو معروف في فن المسرح، فهو صبي العالمة ساكنة بيك (معلمته)  التي يفترض أن تديره، الا انه استطاع ادارتها عبر الشخصية  المركبة،  وطاقتها الجسدية التي وظفها واتسقت مع معطيات النموذج الذي يلعبه ، بوصفها شخصية الصعب الممتنع.
لقد شعرنا كمشاهدين بأن  كل ممثل في العرض كان بطلا لمشهده فكان الباشا” اميل شوقي “ حاضرا بكل ثقل، بباشاويته الانيقة، والشيخ القانونجي “ محمد الخيام “ والدمشقي “ صابر عبدالله “والخديوي “ طارق مرسي” بالاضافة الى المظ الطفلة “ ملك مازن “ وباقي الشخصيات الاخرى التي تواجدت في مكانها السليم وادائها المنسجم ضمن السياق ، بالاضافة الى الحوار الموسيقي الغنائي الذي ابدع فيه احمد مصطفى “ بالحانه وتوزيعه الموسيقي لأغاني العرض.
 الصورة البصرية التي هي العنصر الجمالي المصاحب والمكمل للمنظومة الفكرية للعرض والتي اعطت بعدا مشهديا عميقا، تمثل في توظيف الراوي من خلال المشهد السينمائي وجسدته بصوتها الرخيم الفنانة القديرة “ سميحة ايوب “ فكانت الرابط الثلاثي الابعاد ما بين سرد الرواية في الفواصل للانتقال من مرحلة الى اخرى والمادة السينمائية الارشيفية بالابيض والاسود، اما البعد الثالث فتجسد في في منظومة الديكور المرتبطة بالسياق السينوغرافي المركب ما بين قطع الديكور المتنقلة بكل رشاقة وما بين الرسم الالكتروني الجرافيكي لابراز القصور الملكية بالاضافة الى لباس الخديوي الى حد الخديعة المحببة والايهام بان هذا ديكورا وليس رسما الكترونيا  وهنا لا بد من الاشارة الى المصمم محمد هاشم  والمصمم محمد المأموني والمصمم عز حلمي  وسماح نبيل الذين استطاعوا ان يرسموا لوحة سينوغرافية مشبعة عميقة طوال مدة العرض الذي استغرق ساعة واربعين دقيقة .
 هذه المنظومة الفنية المتكاملة التي نادرا ما تتجسد في عرض مسرحي تجسدت باقتدار  في  عرض “ المظ وسي عبده” والتي تحسب الى مخرج العرض المخضرم “ مازن الغرباوي “ الذي صنع لوحات فكرية جمالية تزاحمت عناصر ايقاع العرض فيها تأثيرا واقناعا وامتاعا، وبقدرة هائلة في هندسة الفضاء المسرحي بمساحته الشاسعة واستغلاله حتى مفردات كسر الايهام وصولا الى المقاعد الاولى  ليبقى ذاهبا بنا الى عمق الحالة الدرامية، والى عمق الرواية لنصبح كجمهور جزءا من اللعبة المسرحية دون فجاجة ودون اسفاف ودون استعراض للعضلات، فشكلت حالة اخراجية متفردة جمعت كل هذه المنظومات في منظومة واحدة الهبت حماس الجمهور،  والذي صفق بحرارة شديدة لكل فرد في هذا العرض،  وهذا ليس بغريب على المسرح المصري الذي عودنا على الانتاجات المسرحية الضخمة والتي تتعاطى مع قضاياه المحلية الكبرى بكل شفافية وعمق .


علي عليان