«الطائر الأزرق» يبحث عن إجابات لأسئلة صلاح عبد الصبور الملغزة

«الطائر الأزرق» يبحث عن إجابات لأسئلة صلاح عبد الصبور الملغزة

العدد 851 صدر بتاريخ 18ديسمبر2023

أسعدني حظي بمشاهدة عرض (الطائر الأزرق) على خشبة مسرح نهاد صليحة، من إخراج الواعدة  نادين خالد، عن نص الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور (الأميرة تنتظر).
للوهلة الأولى تساءلت: لماذا (الطائر الأزرق) عنواناً لعرض مسرحي مأخوذ عن نص له عنوانه المعروف؟ وسريعا ما  أهداني لفظ (عن) الذي يسبق الاسم الأصلي للنص إلى الإجابة الطبيعية، أنه اجتزاء للنص، أو بمعنى آخر اختيار خاص لخيط وحيد من خيوط النص المتعددة أو كما يسميه البعض بـ (الإعداد). فتأهبت لمشاهدة خمنت أنها ستكون مختلفة لنص كثيراً ما شاهدته برؤى مختلفة وعلى مدار سنوات عديدة.
منذ اللحظة الأولى ستعاهدك نادين خالد على تفسير يخصها لنص عريق. فهو (أي التفسير) سيختار لغة الجسد بديلا لكثير من حوارات الشاعر وكلماته. 
ليتجاور الجسد الحاكي مع ألفاظ الشاعر في توليفة ما كان لها أن تنجح لولا وعي ممثلي العرض (ليديا فاروق وباخوم عماد وسهيلة الأنور) الذين يشي إتقانهم بمدى النقاشات والتدريبات التي بذلوها فيما بينهم وبين المخرجة معدة النص.
هنا أنت في معية أجساد ثلاثة ينشدون الشعر، حركة وإيماءة، دون الإخلال بمعنى نص عرف في تاريخ المسرح المصري بأنه بداية مغايرة لما اُصطلح على تسميته بالمسرح الشعري. هنا الشعر مختلف، لا عبر تغيير بنائه ولكن بتطعيمه بشعر الحركة التي تقول الكثير من الألفاظ وتغلف العرض بنسيج شاعري يليق بشاعرية النص.
أنت هناك في كوخ الأميرة التي تنتظر. لكنك ستجدها وحيدة مع وصيفة وحيدة - لا وصيفات - تستعيد معها كما اعتادت كل ليلة وعلى مدار خمسة عشر عاما من الانتظار تشخيص أحداث مضت، في محاولة لإضفاء معنى على انتظار عبثي. 
انتظار لرجل منحها حباً زائفاً وأبعدها عن قصر أبيها بعد قتله واعداً إياها بالعودة إليها ليعودا معا يمارسان ما اعتاداه من فنون الحب.
تخلصت نادين من وصيفات الأميرة وأبقت على واحدة فقط تحمل كل سماتهن، مضيفة إليها سمة أخرى تقربها من مضحكي الملوك كما خطهم شكسبير. 
فهي تواجه الأميرة بما قد يراه البعض لا يليق قوله في حضرة الأميرات. وتمنعها – قهراً أحياناً واستعطافاً أحياناً أخرى – من الانزلاق إلى هوة اليأس. بل وتقوم بدور القرندل، قاتل السمندل عشيق الأميرة والملك الحالي بعد أن كاد أن يقنعها مجددا بالعودة معه رغبة منه في إضفاء شرعية على حكم باتت تتسرب مقاليده من بين يديه. الوصيفة هنا إذن تقوم بأدوار متعددة (وصيفة، وصيفات، مضحكة، قرندل) وكلها شخصيات أساسية في نص الشاعر. لكن نادين رأت أن بجمعهم ستمنح العرض شاعرية مضافة خاصة أن النص يقوم على استعادة التشخيص، أو التمثيل داخل التمثيل. 
فمبررها للجمع حاضر إذن دون تجن. وإمعاناً في شاعرية مبتغاه ستفرغ نادين خشبتها تماماً من الكتل والإكسسوارات لتمنح ممثليها حرية التعبير بالجسد عن جوهر شخصياتهم وعن معنى ألفاظهم المنطوقة أو الراقصة.
هي فقط ستقسم الخشبة إلى مستويين، أحدهما أكبر من الآخر وهو الأقرب من الجمهور والأكثر استحواذاً على فعل التمثيل. والثاني في العمق لن تستخدمه إلا قليلاً باعتباره تأكيداً على المكان (جزء من كوخ الأميرة، مرصع بنجوم صناعية تتدلى من سقفه) وباعتباره أيضاً منصة تشخيص ستستخدمها الوصيفة في تجسيد ذكرى الحدث الجلل الذي لا تصح بعده الثقة في عاشق مزيف خادع سبق أن قتل أباها ليغتصب عرشه بعد أن اغتصب ابنته.فتعيد الأميرة إلى وعيها المفقود وتمنعها من عودة إلى قاتل كل مبتغاه شرعية جديدة لحكم يتهاوى بعد أن لفظه الشعب وتآمرت عليه الحاشية.
وهو المستوى الذي ستتوجه إليه الأميرة في نهاية العرض إيذانا ببداية جديدة لن نستطيع حسم إن كانت عودة أخيرة إلى قصر وشعب كانت قد ضحت بهما مقابل وهم الحب. أم بقاء في مكان كان لها الحاضن بعد أن تخلصت من الوهم. 
 العرض إذن هو تلخيص لنص عبد الصبور الأصلي دون إخلال لمعناه أو تجن عليه. وهنا سيبرق أكثر معنى اختيار الاسم (الطائر الأزرق) ذلك الذي تناجيه الأميرة في العرض مستوحية كلمات، أو للدقة، أبيات الشاعر الأمريكي تشارلز بوكوفسكي التي تصر نادين أن تبدأ بها عرضها (ثمة طائر أزرق في قلبي، يهم بالخروج. لكنني أقسو عليه، أقول له: ابقَ في الداخل هناك فلست أسمح لأي أحد أن يراك....)
اختيار نادين لهذه الأبيات كبرلوج لعرضها يشي برؤية خاصة لانتظار الأميرة ومحاولة للإجابة عن السؤال الملغز (لماذا؟) لماذا بقت الأميرة أسيرة هذا الانتظار اللا مجدي؟ ربما هي الرغبة في رفض حقيقة أن لا شيء يحدث أو أن ما حدث لم يكن إلا وهما، الاعتراف به لا يفضي إلا لانتحار.
رؤية نادين خالد لم يقف تفسيرها عند أبيات بوكوفسكي، بل هي تتجرأ وتضيف من عندياتها كلمات تفسر بها كيف لأميرة أن تضحي بأبيها وتسلم مفاتيح قصره لعاشق يقتله؟ هنا ستنبهنا نادين عن السبب الكامن في لا وعي أميرة صلاح عبد الصبور؟ فهاهي في حوار بين الوصيفة والأميرة تقولها صراحة بكلمات من خارج النص الأصلي ومن تأليفها:
((- لو كان أبيك علي قيد الحياة لافترس أي ألم يخترق قلبك. 
الأميرة: أبي!
لا أتذكر كم سنحت لي الفرصة بلقائه.
- ولكنه كان يحبك كثيراً كثيراً.
الأميرة: لم أتذوق هذا الحب يوماً.
- ولكنه حاول من أجلك كثيراً صدقيني.
الأميرة: محاولاته لم تكن كافية لإنقاذي من هذه الحياة الموحشة.))  
بهذه الكلمات الكاشفة التي أضافتها نادين خالد على نص صلاح عبد الصبور ونجحت إلى حد كبير أن تكون ابنة لغته، تفتح لنا بوابة الإجابة عن السؤال لماذا؟ وتخفف من عبثية فعل بدأ بالموافقة أو على الأقل التواطؤ وانتهى بانتظار ما لا يجيء.
إضافات نادين لن تقف عند أبيات بوكوفوسكي أوأبياتها هي، لكنها ستمتد لتصل إلى حركة تعريفية بشخص العشيق القاتل، إذ أنها ستفاجئنا به في أول ظهور له يرقص رقصة الطير المذبوح يعوي بآهات جارحة، وحين يخلع قميصه تصفعنا علامات جلد ظهره لتصبح مع الرقصة والآهات علامات مضافة لتفسير – لا تبرير – فعل العاشق القاتل. فهو المقهور الذي تحول إلى قاهر. هو المنتقم بفعل مشين صبر على تخطيطه سنوات طعمها بحب زائف سكبه في قلب فتاة خذلها الأب فارتمت في أحضان الوهم.
هذه الإضافات (التي قد يجرمها البعض) هي قلب تفسير نادين لنص عبد الصبور. لذلك وعت نادين أن تمنح العرض اسما جديدا ليكون الطائر الأزرق لا أميرة تنتظر. إنه عن ذلك الطائر المسجون في الصدر يتوق للخروج وتمنعه سياج العند والفهم القاصر. 
وهو أيضا عن جريمة قتل الحب وعياً أو غفلة.
تفسيرات نادين لم تكن لتكتمل إلا بأداء خاص لممثلين ثلاثة وعى كل منهم دوره وغاصوا في البحث عن تاريخ يخص كل شخصية مدعومين بملابس صممت لتكشف عن مكنوناتهم. فللأميرة رداء أبيض استحال إلى رمادي باهت، والوصيفة أخضر بهلواني، وللسمندل (العاشق القاتل) مزيج مزخرف من اخضرار وسواد يكشف عن تعقد نفسه وتيهها. الحركة أيضا صممت لتكون حسب كل شخصية من جانب، ومن جانب آخر ترسخ لعبة الوهم أو ذلك الخيط الدقيق الفاصل بين حقيقة وتخيل، فالحبل وهم، والطعام وهم، والتنور وهم و كل هذه الأشياء تجسدها حركة ورقصة تتمازج مع الكلمات لتصنع جديلة عن الوهم الأكبر، وهم الانتظار.
عرض نادين خالد إذن يشي بأمرين أظنهما الأهم، الأول يخص حرية التفسير بما لا يناقض الأصل النصي، والثاني هو البشارة بأن لدينا مخرجة قادمة لا تخشى المغامرة لكنها في الآن نفسه تحسبها بدقة. و هو ما نحتاجه بشدة في مسرحنا الآن.. فشكرا لنادين وصحبتها وفي انتظار المقبل من المغامرات.


محمد الروبي