«جنة هنا».. مرار الغياب وعذابات البوح

«جنة هنا».. مرار الغياب وعذابات البوح

العدد 700 صدر بتاريخ 25يناير2021

يقدم مسرح الغد عرض» جنة هنا» تأليف صفاء البيلي، أشعار مسعود شومان، إخراج محمد صابر، منذ اللحظة الأولي لدخولك قاعة الغد يمكنك كمتلقي ادراك كونك مُراقِب لتلك الاسرة، وجالس معهم داخل حجرة النوم في منزلهم، تلك الحجرة في احد جوانبها يوجد سرير قديم ذو عواميد هشة، لن يمر الوقت الا وتصلك دلالة وجود السرير فهو يجسد كل ما هو مخبوء بداخل شخصيات المسرحية من ذكريات سعيدة وأليمة، المسرحية تبدو وكأنها رحلة في عالم لا يخلو من الحب والقهر والقسوة والغياب، رحلة تبدو فيها المرأة مُدَجنة قابلة بما يفرضه  عليها المجتمع الذكوري، يظل تدجينها منذ الطفولة  جاسم علي أنفاسها، بداية ببعض الممارسات التي تنتهك حرمة أنوثتها مثل الختان، والذي يلقي الدعم من النساء أنفسهن وتبنيهن وجهة نظر مجتمع متعصب ضد المرأة وصولا الي الطلاق، والختان مفهومه يعد موروث اجتماعي و ثقافي أقرب في تفسيراته الي الأساطير القديمة، في مسرحية» جنة هنا» تعبر تلك الفتاة جنة عن الأثر الذي تركه ذلك الفعل في نفسها الصغيرة، وكيف أنها شعرت بالخذلان تجاه الأم، والتي استدعتها بابتسامة واعدة إياها باللعب ومن ثم غدرت بها وأسلمتها للختان،  ذلك السرير ليس مجرد أثاث منزلي بل يحوي عدة دلالات جميعها أشبه بحجر ثقيل يجثُم علي أنفاس الفتاة، للسرير ذكريات عدة وجميعها قاسية بالنسبة للفتاة ولذلك ترغب في بيعه لعلها تتخلص من ذلك العبء الثقيل من الذكريات، أما الأم وهي النقيض الآخر للابنة فذكرياتها الجميلة دائما تبدا من هذا السرير، تبدو الاحداث في تصاعد هادئ يحكمه الحوار الجدلي ومحاولات الابنة الدؤوبة في بيع السرير وصولا بالانتهاء المفجع بموت الام علي هذا السرير، ومع الموت يمكنك تصور شقاء جديد يضاف الي حياة تلك الفتاة البائسة.
ثمة بعض الالتباس المتعمد من قِبل صانعي العرض فيما يشير اليه عنوان المسرحية، وما ان تبدأ الاحداث ستكتشف ان «هنا «هو اسم الام وليس تعبيرا عن المكان، فالمنزل ليس جنة كما يمكن ان يتصور، بل انه مٌغلق علي ما يحمله من ألم وعادات وتقاليد بالية، استنزفت عمر الفتاة -  فقد تزوجت إرضاء للمجتمع وانفصلت كأثر مترتب علي الختان بعد سنين طوال، وما يحمل علي الدهشة ان تلك الفتاة درست الفلسفة في مواجهة الام التي تبدو علي فطرتها دون التعلم مما يجعل الابنة مٌحملة بكم ضخم من الأسئلة الوجودية التي لا إجابة لها، فالأم دائما لا تفهم ما تقوله الابنة فيبدو الحوار كوميدي ينقطع فيه التواصل.                      
  من اللافت للنظر في هذا العرض أن الديكور ل» مي زهدي» عبر عن ما في داخل شخصية  جنة، وشخصية هنا، حيث توجد لوحات لفتيات علي الجوانب وفي العمق وجميعها بلا ملامح للوجه مما يجعلها مجرد رموز أحادية المنظور، خاوية الملامح تعبر عن اللاجدوي من الحياة، وتفتقد الحب والسند، كما تتصوره جنة ويتجسد في الاب الذي لا يأتي، فقط تقبع صورته في الخلفية علي ارتفاع اعلي من الجميع وكأنه ينظر في صمت على زوجته وابنته، صورة الاب تعلو صورة فتاة منشطرة الي اثنين، وفوقها نصف القمر وهو ما يرمز الي انشطار جنة بينما في نهاية المسرحية، تكتمل صورة الفتاة بانشطارها الاخر حينما تموت الام وترفع صورتها في مواجهة الاب أعلي الجميع، لندرك أنها ستظل هكذا في حالة من التشرذم تسترجع علي الدوام احداث الماضي وسنين عمرها التي مضت، ولأنها قبل وفاة الام علمت ان الاب كان قد مات فإنها أصبحت الآن وحيدة تماما دون حتي الأمل في عودة الاب، فلم تعد تنتظر القادم.
تستطيع مؤلفة المسرحية» صفاء البيلي» ان تقدم جملاً تعبر عن ما يعتمل داخل الفتاة من مشاعر مختلطة، بين الحب واليأس والغضب والم الفراق، تلك المشاعر تقدم أيضا من خلال الام لكن اختلاف المرحلة العمرية يجعل من المؤلفة تقدم جملً مسرحية اقرب الي الطبيعة النفسية والعمرية لكل شخصية.
عبير الطوخي قدمت دور الام وهي ممثلة تمتلك ادواتها التمثيلية تستطيع التعبير عن طبيعة الشخصية الموكلة اليها، هاله سرور قدمت شخصية الفتاة المُركبة المشاعر بشكل جيد، قدم احمد الشريف نموذج لبائع الروبابيكيا اقرب الي النموذج الكاريكاتيري المثير الي الضحك، وهو يعد إضافة كوميدية الي العرض المسرحي.
 عرض «جنة هنا» إخراج «محمد صابر» يناقش قضية الاغتراب وغياب الاب كإطار خارجي، وهو ما يعتبر دافع لحالة البوح التي تقدمها الفتاة جنة، الي جوار ان في محتوي العرض يتم التركيز علي قضايا المرأة بشكل واضح، في خضم سرد الاحداث الدرامية وتقديم مبررات لرغبة جنة في بيع السرير، اذا فذلك الطرح لما مرت به الفتاة ونال من انوثتها يعد مُبَررا علي المستوي الدرامي غير مقحم علي احداث العرض.


داليا همام