تأملات في العاطفة والتعاطف (2-2)

تأملات في العاطفة والتعاطف (2-2)

العدد 693 صدر بتاريخ 7ديسمبر2020

التعاطف :
 لقد تم التعبير عنه لأول مرة في القرن التاسع عشر كطريقة لفهم كيف يمكن لرسم أو نحت معين أن يدفع الشعور – كيف نشعر في لوحة المناظر الطبيعية الرومانتيكية، علي سبيل المثال، أو رواية من العصر الفيكتوري – لقد أصبح التقمص تركيزا استقصائيا في العلوم الإدراكية وعلم النفس والفلسفة والأخلاق وعلم السرد وعلم الجمال . ويعرف البعض التعاطف بأنه الحالة الفعالة لشخص آخر، ويصر آخرون علي أنه يشمل تبني وجهات النظر - فهم الحالة المؤثرة من وجهة نظر آخر – ويضيف البعض أنه يتضمن رغبة في فعل شيء ما مع شخص آخر أو من أجله . يحدد دانييل باتسون ثمانية مفاهيم مختلفة ميزت كلها التعاطف، فميزت علي سبيل المثال « تخيل الكيفية التي يفكر بها الآخر ويشعر « ( المبدأ الخامس) عن تخيل « لكيفية التي نفكر بها ونشعر في مكان شخص آخر « (المبدأ السادس) . عندما تسجل آلات تصوير الرنين المغناطيسي عمليات الحماس في أجزاء معينة من دماغ الأشخاص الذين يرون سكينا يسقط باتجاه قدم شخص ما، فان ذلك يسمى التعاطف . وعندما تصرخ شخصية علي خشبة المسرح بسبب تجربة الشخصية التي تؤديها، أو يصرخ الجمهور وهو يشاهد هذا الأداء، فإننا نسميه تعاطف . وعندما نذهب إلى متحف المحرقة ونشعر بالتأثر بالأعمال الفنية للإبادة الجماعية، فإننا نسميه تعاطف . ولأن القاضية سونيا سوتوماير كان لديها تجربة في اختبار العقبات والحواجز، من خلال المشقة والمصائب، فسوف تقدم التعاطف الي المحكمة العليا . وإذا كان التعاطف شيئا أشعر به تجاه شخصية، فإنني أختبره عصبيا وقبل شعوريا، وأتكيف مع السياقات الاجتماعية والقضائية والتاريخية، فانه يعتبر مصطلحا مزعجا . يجب أن يحضر علماء المسرح مع مجموعة من أصحاب التخصصات المتعددة حول التعاطف لأن العدوى الاجتماعية العاطفية هي مخزوننا وتجارتنا .
 وفي إسهامها في كتاب ديفيد رومان الذي يتضمن مجموعة مقالات لعلماء المسرح والأداء عن « التراجيديا في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2011، أكدت جيل دولان بشدة علي الراكب علي متن الطائرة أو موظفة مكتب مركز التجارة العالمي التي علقت حقيبتها علي صدرها عندما قفزت من البرج المحترق صرحت : “ بعد الأيام الأولى من السخرية والمشاهدة والاستماع والقراءة، طمئنت نفسي وانغمست في حياتي حتى أتمكن من حماية نفسي من أجل مستقبل أتساءل الآن عن وجوده “ . ثم سألت “ هل الأداء دربني علي مثل هذا التعاطف المؤلم؟ “ . وهذا سؤال ممتاز – بالتأكيد – سؤال لو تم الرد عليه بالإيجاب، يبرر مقدارا هائلا من الدعم الفيدرالي للفنون – ويتطلب بعض الإيضاح حول ما نريده ونحتاجه، وهو التعاطف، وهو ما نشير إليه عندما نتحدث عن الأداء الذي يستنتج نوع رد الفعل الذي شاهدته دولان (وآخرين) علي الأجسام المتساقطة .
 غالبا ما ينظر الى التعاطف في إطار أكلاشيهات التسعينيات : « اشعر بألمك «. وبالفعل تمخض البحث عن الألم أوضح مؤشر علي أننا نشعر بألم بعضنا البعض . فعند الاستلقاء في جهاز الرنين المغناطيسي، يتم عرض شريط فيديو لشخص يقضم جزرة ثم يقطع أصبعه بطريق الخطأ . تطهر صور المخ في هذه اللحظة، لحظة قطع السكين للأصبع، خلايا تنطلق في منطقة المخ لتسجل الألم . يتضمن إدراك الألم بعض الخلايا العصبية المسئولة عن تسجيل الألم الذي تشعر به الذات، وهذا يعني أن معرفة أن الشخص الآخر يتألم يعني، إلى حد ما الشعور بالألم الذي يشعر به . (ومرة أخرى، الإدراك والتفسير من شأن الجسد ككل) . وهذه معلومة مذهلة للمهتمين بالأداء والفرجة . ودون التعمق في مفهوم بحث الألم، أو بعض شروطه، إذا كان كل ما أسمح به الآن هو فكرة أن إدراك ( فهم) الألم هو أيضا تجربة الألم، ويجب أن أعترف بأن الجسم والعواطف لا ينفصلان عن الإدراك، وأن الذات والموضوع ربما لا يوجدان حيث أبدأ ولكن بالأحرى حيث أنتهي . فقبل أن أوجد أنا وأنت، وقبل السكين والجزرة، يوجد الألم .
 وعلي الرغم من أن الدراسات أظهرت تداخلا جزئيا في إثارة الخلايا عند رؤية الألم ومعاناة الألم، لا يوجد انعكاس كامل ولا تقييم للسياق (فأصبعي ليس في خطر فعليا) يسكن بسرعة في مزيد من الخلايا المنطلقة . وعلي الرغم من أني أشعر بألمك، فإنني لا أنسي أنني لست أنت، وأنت لست أنا . فالاعتراف بأن فعل الأذى لا يحدث للذات، بل للآخر، هو ما يصنع التعاطف وليس الألم . والتعاطف المؤلم الذي جربته دولان لا يؤدي الى أفعال تعاطفية : اذا كان من المؤلم إدراكه، فإننا نبتعد عن التحفيز المكروه، ونخلط الحافز الذي يؤذيهم بالحافز الذي يؤذينا . إذن، الأمر المحوري في التعاطف ليس دمج الذات والآخر، بل الاعتراف بانفصالهما . كما توضح ديستي ولام :
 الوعي بالذات شرط ضروري لاستنتاج الحالات الذهنية للآخرين . وبالتالي، فان الوساطة هي الصورة الحاسمة لانتقال التمثيلات المشتركة بين الذات والآخر . عـــلاوة عــلي ذلك، تلعــب الوســاطة دورا محوريا في التطور .
 وبالطبع القدرة علي تمييز الذات كواسطة للســلوك هــو الطريقة التي نبني بها كيــان مستقل عن العالم الخارجـي وفي حالة التعاطف يجب تعديلهــا ومراقبتهـا من خــلال من تنتمي مشاعره الي من، وبالتــالي، فـان الوسـاطة صورة حاسمة اذ يتيــح الاحــترام غــير الأناني لرغبــة الآخر بدلا من الرغبة الأنانية في الهروب من الآثار البغيضة .
إذا كنت تتألم حقا، فانك لا تريدني أن اشعر بألمك . فأنت تريدني أن اشعر بقوتي الخاصة لإيقاف ألمك . الألم هو ذات/موضوع محايد : والتعاطف علاقة . وفي حين أن التعاطف يبدأ بتجربة الألم المشترك، فلا ينتهي هناك . فالتعاطف يحتاج تمييز بين الذات والآخر وأيضا القدرة اتخاذ وجهة نظر الآخر لتحديد أسباب وظروف الألم . وكما يجادل فريدريك فينمونت وتانيا سينجر، يجب أن يتضمن تعريف التعاطف عددا من الشروط : تأثير مشترك، وعي بمنظور الشخص الآخر، ومعرفة بأن الشخص الآخر هو سبب حالة التأثر . ولهذا السبب فان العدوى العاطفية بالنسبة لهم ليست هي التعاطف، لأن الرضيع يمكنه أن يصرخ عندما يسمع رضيعا آخر يصرخ ولكن دون أن يعرف أن الرضيع الآخر هو مصدر انزعاجه . امتلاك التعاطف يعني فهم قصة الألم .
 الألم له دائما قصة . وتجربة الألم يمكن أن تدمر اللغة، والسياق والعالم، كما تجادل الين سكاري . ولكن إدراك هذه التجربة يتطلب ملاحظة العالم القادر علي ابتكار الألم . فليست كل الآلام متساوية . ففي إحدى الدراسات، تلعب الذوات سلسلة من الألعاب مع الحلفاء، بعضها لعب بشكل عادل، وبعضها لا . وعند شهد الذكور وجز اللاعبين الظالمين بدبوس، أظهرت أدمغتهم عدم وجود نشاط تعاطفي وأظهرت نشاطا فعليا في المناطق المرتبطة بالمتعة . وفي دراسة لام Lamm وآخرين، والتي تضمنت تقييمات الأشخاص لمستوى الألم لدي الآخرين . واكتشفوا أن الأشخاص الذين كان مطلوبا منهم أن يتخيلوا أنفسهم وهم يمرون بتجربة مؤلمة كانوا يشاهدون الآخرين يخضعون لمعالجة ناجحة لمشكلة صحية تدرك أن الألم أكبر من أولئك الذين سئلوا بأن يتخيلوا أن الآخرين هم الذين يعانون الألم . بالإضافة إلى ذلك، الأشخاص الذين قيل لهم إن الشخص قد خضع لعلاج ناجح لمشكلة صحية أدركوا ألما أقل من أولئك الذين قيل لهم إن العلاج لم ينجح. وقد استنتج العلماء أن « العمليات من أسفل إلى أعلي ( التلقائية) ومن أعلي الى أسفل (المسيطر عليها) تتفاعل لإنتاج تجربة التعاطف . وتوفر المعرفة حول السياق الذي تحدث فيه الألم أدلة مهمة علي دور التقييم الإدراكي من أعلي إلى أسفل في تنظيم تفاعل رد الفعل المؤثر تجاه الألم . والتعاطف يعني أننا نشعر به، ونراه ونضعه في سياقه .
 وعادة ما نهتم به . التعاطف ليس مصطلحا له قيمة محايدة : فنحن نفترض أن التعاطف مع شخص آخر شيء جيد، وأنه إذا أحس شخص بألم الآخر فسوف يريد أيضا أن يخفف ذلك الألم .ولكن إذا شهد شخص شخصا آخر يتألم ولا يريد أن يخفف عنه، فهل يعني هذا أنه ليس متعاطفا ؟ تقترح البحوث عن المرضى النفسيون أنهم يفتقرون إلى نوع الانعكاس الموجود عند الآخرين عندما يشاهدون شخصا آخر يتألم . إنهم في الحقيقة لا يشعرون بأي شيء ولاسيما بعمق، ومع ذلك يمكن أن يكونوا بارعين في تزييف عواطف بيئتهم التي تتوقعها بيئتهم منهم . ورغم ذلك يؤثر افتقارهم للمشاعر علي قدرتهم لفهم العواطف داخل الآخرين . ولديهم مشكلة في اكتشاف الخوف في أصوات الآخرين أو تعبيرات وجوههم و»يفتقدون الفروق العاطفية في اللغة، وليهم مشاكل في فهم الاستعارات – علي سبيل المثال هم عرضة أكثر من الآخرين للحكم علي سلبية عبارة « الحب هو ترياق لأمراض العالم « . ويفهم بقيتنا أن هذه العبارة متفائلة لأننا نشعر بها : المرضي النفسيين لا يستطيعون أن يفهموها لأنهم لا يستطيعوا أن يشعروا . ومن ناحية أخرى، الشعور ليس ترياقا للمعاناة . فالشعور بألم شخص آخر لا يعني بالضرورة أننا نرغب في فعل شيء ما للتخفيف من هذا الألم، أو أننا مهتمون بتخفيف أي شيء غير محنتنا عند إدراك الألم . ويشير باتسون إلى أن “ الآباء الذين هم في خطر كبير لاساءة معاملة الطفل هم الذين يعبرون عن ضيقهم عند رؤية طفل يبكي، بينما الآباء المعرضون لخطر أقل لا يعبرون عن هذا الضيق – والمشاعر الموجهة الأخرى – بل عن التعاطف والرحمة . وبالمثل، يمكن أن يكون التعاطف خاصية خطيرة جدا للأطباء في غرفة الطوارئ : هؤلاء الأطباء يجب أن يكونوا بارعين في إيقاف أو تثبيط الاستجابات الوجدانية تجاه رؤية ألم الآخرين حتى يتمكنوا من اتخاذ الإجراءات اللازمة لتخفيف الألم – حتى عندما يعني ذلك التسبب في مزيد من الألم مؤقتا .
 ولذلك، ماذا عن ياجو ؟ انه لم يستطع توجيه الاضطراب النفسي الذي يدور حول عطيل إن لم يكن ماهرا بشكل خاص في معرفة أن عطيل سوف يرى ويشعر من وجهة نظره . وتبدو القدرة علي قراءة الإشارات العاطفية للآخرين والاستجابة لها بمثابة مهارة قبل اجتماعية ايجابية . فقد فشل أحد العناوين الرئيسية في جريدة نيويورك تايمز في إحداث صدمة للطبقة الواعية بالقول بان « الأغنياء يفتقرون الي التعاطف « وأولئك الذين ذكروا أنهم أثرياء أو من الطبقة العليا لم يجيدوا قراءة تعبيرات المشاعر علي وجوه الغرباء . ويقترح الباحثون أن امتلاك خبرة في قراءة الإشارات الاجتماعية هو أقل قيمة للأثرياء، لأنهم لا يحتاجون أن يعتمدوا كثيرا علي عطف الغرباء . وأولئك الذين يكون بقائهم علي قيد الحياة مستقلا عن مساعدة جيرانهم أو الولاء لهم أفضل في التنقل في العالم الاجتماعي العاطفي من حولهم . وفي متابعة مثيرة للتجربة، عندما يطلب الي الأشخاص أن يتخيلوا أنفسهم بالقياس الي الأغنياء، فان قدرتهم علي الحكم علي التعبيرات العاطفية تحسنت . التعاطف إذن ليس مشفرا وراثيا بحسب الطبقة أو مقدار الحساب في البنك، ولكنه يعتمد علي القصة يرويها الأشخاص لأنفسهم عن مكانتهم الاجتماعية ونفوذهم . وهذا يوحي، رغم ذلك، أن المهارة هي التي يمكن أن تتطور والتي تبدو بعكس النظريات أن التعاطف تلقائي أو عصبي . فنحن نتحدث عن التعاطف وكأنه فضيلة، وعاطفة، وانعكاس، وقوة تخيل، ولكنه لا يمكن أن يكون كل هذه الأشياء في نفس الوقت .
 ان الشعور بشخصية علي خشبة المسرح يختلف عن الشعور بشخصية في المعمل، فالمسرح يحدث مع المجموعة ومن أجلها . فنحن لا نشعر بالعزلة في المسرح، بل نتقاسم التجربة والمنظور والعواطف مع آخرين من الجمهور . علاوة علي ذلك، يشاهد الجمهور الديناميات بين الشخصيات علي خشبة المسرح وهناك دائما ادعاءات متنافسة . وإذا كان التعاطف ببساطة ( أو حتى في الغالب) حالة من التقليد المجسد الذي يؤدي الي حالة عاطفية مشتركة، في نهاية مسرحية « هاملت»، فلن نتمكن من فهم مشاعرنا تجاه جرترود اولاريتوس أو هاملت أو كلاوديوس . فجميعهم ماتوا وجميعهم أدوا الألم، إلا أميرنا الجميل الذي حظي بنصيب الأسد من علاقتنا العاطفية . يستطيع شكسبير إقناع المتفرجين بالتعاطف مع ملك قاتل مثل ريتشارد الثالث، ولكن تجربة التصوير بالرنين المغناطيسي لا يمكنها التعامل مع هذا المستوى من التعقيد .
 ويمزج فريتز بريثوبت أبحاث التعاطف من علوم الأعصاب بنظرية السرد ليفترض أن التعاطف ينطوي علي دينامية ثلاثية الشخصية . ويجادل بأن التعاطف يجب أن يُدرس ليس ضمن مشهد ثنائية الشخصية ولكن في مشهد اجتماعي أكثر تعقيدا : « يجب أن تصور أغلب النظريات التعاطف باعتباره ملاحظة وثيقة في مشهد ثنائية الشخصية التي تأخذ في اعتبارها قصد وعواطف الشخص الآخر . يبدو أن هذا التركيز علي الملاحظة من داخل نموذج ثنائية الشخصية ربما يكون ضيقا جدا لأغلب الحيوانات الاجتماعية . ويفترض نموذج التعاطف ثلاثي الشخصية أنه لأن التعاطف عموما يكون أقوى عندما نفهم السببية – هذا الألم سببه ذلك الشخص أو ذلك الحدث – ينتج عن الانحياز للمشهد ثلاثي الشخصية . وبالنسبة لبريثوبت، من المهم أن نشعر بالتعاطف ليس من أجل تسهيل الانحياز، بل نتيجة للانحياز الي جانب : بعد اتخاذ موقف سريع، قد يأتي التعاطف والحفاظ علي القرار السريع . اذن، يمكن أن يكون التعاطف فعلا ثانويا، نتيجة للتحيز . فأنا أشعر بالآخر لأنني اتخذت قرارا من أجله . يفترض التعاطف انحيازا . ولن يكون كافيا أن نشعر فورا (أو أعكس داخليا مشاعر) بالأشخاص الأربعة الذين يموتون علي خشبة المسرح ثم أقرر علي من أركز تعاطفي . إذ يتم اتخاذ القرار ثم يتبعه رد الفعل العاطفي .
 تصف هذه الصيغة سلسلة السبب والنتيجة التي تقترح الخطية، ورغم ذلك، أنا مقتنعة بالحجج بأن الإدراك هو نظام دينامي وأن اكتشاف الأول ثم التالي أقل فائدة من تقويم آنيته المركبة . وفهم لماذا تأثر هاملت بالممثل ولماذا تأثرنا بهاملت هو حدث عاطفي أكثر تعقيدا من مشاهدة سكين يسقط علي الأصبع أو وجه شخص يلتوي من الألم . يحتاج العلماء في المسرح الباحثون في العاطفة لدراسة ديناميات العاطفة في المسرح، وليس فقط في المختبر . ومع ذلك، يحاول العلماء، مثل هاملت، أن يفهموا “ مالهيكوبا وله / وماله ولهيكوبا / حتى يبكي من أجلها ؟ « ما الذي يتعلموه – عن فورية ادراك الألم وتوسيطه من خلال المعلومات السياقية – يمكن أن يخبرنا كيف يتخيل العلماء الامكانيات الوجدانية للمسرح . ففهم تفاصيل قصة هيكوب وبريام مهم – فالممثل لا يمكنه أن يلقي كلامه دون أن يعرفها – ولكن ليست هذه هي القصة التي تؤثر في هاملت . انها بالأحرى الطريقة التي يجسد بها الممثل القصة . وبالمثل، لا يمكن للممثل أن يقدم مسحة عاطفية من خلال سماع القصة ببساطة ؛ فلا بد أن يجسد القصة . وبروايته، وليس رواية هاملت لها لكي تحثه أن يقول (لقد كان فيها كلاما أعجبت به / وهو حكاية اينياس لديدو / ولاسيما عندما تحدث عن مجزرة بريام ) وهذا يوضح رد الفعل العاطفي الذي يسبب رد فعل هاملت العاطفي . وهنا يستخدم شكسبير المسرح الشارح metatheater (أو المسرح داخل المسرح) لكي لا يوضح فقط لا معقولية الرعاية ولكن حتمية الرعاية أيضا . ففي مسرحية هاملت، يعرض شكسبير مشاهدة المسرح علي خشبة المسرح، والعلاقة بينهما حيث توجد الكوميديا والتعاطف . فشكسبير لا يقدم كلام الممثل لكي يؤثر علي مشاهدي مسرحية هاملت ؛ انه يقدم فرجة هاملت علي الكلام لكي يؤثر في مشاهدي هاملت نفسه . وفي هذا النسق المعقد، نتأثر بصياغة المتفرجين لقوة المشاهدة .
الخاتمة :
 يشاهد المتفرجين هاملت وهو يشاهد الممثل يتحدث عن هيكوبا . فمن يشعر بماذا تجاه من ؟ وما هي طبيعة هذا الشعور ؟ يعّرف داماسيو العواطف بأنه تغيرات في حالة الجسم ويلاحظ أن المتفرجين يمكنهم أن يفهموا هذه العواطف، ولكن ليس العواطف ( التي يتم توسيطها من خلال السياق والذاكرة والقصة) والتي هي واعية للشخص الذي يجربها فقط . وبالنسبة لباريت، فان العواطف ليست موضوعات بل حدث تقويم يخلق قصة ( فاعل وفعل ومفعول به) ؛ وبالنسبة لجريفز وسكارانتينو، فان العواطف هي نتاج البيئة أو عنصرها - فهي مجسات إستراتيجية ذات مكانة اجتماعية . وتقترح بحوث العدوى العاطفية بأننا دائما، بدرجة ما، يسهل اختراقنا عاطفيا وأننا نتلاقى عاطفيا . ومهما كانت الحالة، تشير التطورات المثيرة التي لا تصدق في علم العاطفة أن تجربتنا لعواطف الأداء لا تنفصل عن تفسير الحدث. ومن الأمور المثيرة التي تهم هاملت وتهمنا، هي التغيرات البيولوجية الواضحة أثناء أداء الممثل . علاوة علي ذلك، إذا كانت العاطفة فعلا معدية، فان التمثيل المسرحي يمكن يستحوذ علي وعينا – فنحن دائما واعين بالبيئة العاطفية . وإذا كانت نظرية العواطف الموضعية صحيحة، فنحن دائما نساهم في هذه البيئة، مما يعني أن الأداء العاطفي لكل جمهور مستقل وثيق الصلة بتحليل وتفسير الأداء في ليلة عرض . وربما لهذا السبب يكون الممثلون علي صواب أن يتحدثوا عن الشعور في دار العرض . وتستدعي تجربة هاملت العلوم لكي تسأل أسئلة أكثر محورية في تجربتنا المعاشة أكثر من تجربة السكين والجزرة : فماذا يحدث عندما لا تكون التجربة ثنائية في المختبر؟ .
 بالنسبة لجيل دولان، أدى التعاطف المؤلم إلى أمل متجدد للمسرح :
 إذا استطاعت تخيلاتنا أن تقودنا إلى تعاطف عميق وعملي فأنا أؤمن بقوة أكثر من أي وقت مضى أنـه يجـب تسخيــر مســاحة الأداء لتخــيل الحــب بدلا من الكراهيــة، ولخلـق قصص مفعمة بالأمل لحياة ذات معنى بدلا من الموت بلا معنى . وأحتاج أن أصدق بأن تنظــير وتوثيــق ومشاهـدة وابتكــار الأداء ســوف يستـمر لكي ينعــم حياتنـا بالمعنى والسماحة والفهم والذاكرة، برغم المؤقت والعابر .
 وأعرف أن الأداء لم يستطع أن يمنع المرأة ذات الحقيبــة من القفز، ولكني آمـل أن يخلد ذكرى أفعالهــا ويجعلهــا ويجعلها منطقية .
وبناء علي البحث في العلوم الإدراكية، تجد روندا بلير مكانا مثاليا مماثلا للمسرح والأداء في حياتنا :
 أجد أنه من القوة أن التخيل، الذي يتعلق أساسا بامتلاك الكائن الحي صورا لنفسه في سيـاقات ومــواقف مختلفة من أجل معرفة كيفية التفاوض علي بيئته قــدر الإمكان، لا يحدث فقط بوعي ، ولكنه يحدث أيضا علي نطاق واسـع وبثراء أقل من مستوى الوعي، حتى يمكن رؤية ما نقوم به عندما نجعل المسرح يساعد أجسام المشاهدين لتخيل أنفسهم داخل القصص التي نرويها .
ومثل دولان وبلير وهاملت، أعتقد أن ما يحدث لنا ونحن جالسون في المسرح، نشاهد مسرحية هو شيء عميق وله القدرة علي زلزلة الأرض من تحت أقدامنا . ولازلت غير متأكدة كيف أريد أن أعرف التعاطف في المسرح . فأنا أريد أن أضم فيه رد الفعل الداخلي الذي يمكن أن يشعر به المتفرجون أحيانا استجابة للأداء – الانعكاس عبر الحائط الرابع – ولكن ليس لدي إجابة علي سؤال لماذا يكون هذا الانعكاس تلقائي وانتقائي علي حد سواء . فأنا أعرف أن مشاهدة الناس وهم يؤدون مسرحية تعمل كمتلاعب المنظور الإدراكي – فهي تلتزم بتناول وجهات نظر بديلة – وأريد أن أصدق بأن هذا يشجع السلوك الاجتماعي الايجابي . ولكن ما يقودني علم العاطفة والتعاطف إلى السؤال هو أنه اذا كان يشبه ما أعتقد أنه يشبه، بمعنى آخر، إذا كان ما يجعلني أشعر ليس صعبا جدا ( اذا كان باستطاعتك تصويره في فيديو بينما أرقد داخل آلة التصوير بالرنين المغناطيسي، فلابد أنه يمكنك أن تفعل ذلك مع الناس الفعليين والقصص والموسيقى والإضاءة)، عندئذ ربما ما يكون قويا في المسرح هو الشعور بالوساطة والذات . ويوضح بريثوبت أن التقمص يعتمد فقط علي غيابه كما يفعل في حضوره : التعاطف، وفهم الآخرين، يحدث فقط لأن انتباهنا العاطفي تجاه الآخرين يكون في الغالب محشورا ومحجوبا ومصفى . وبدون هذا الحجب (الجزئي) يمكن أن نعيش في عالم من فقدان المنظور المستمر، والتي من خلالها نتولى بشكل لا إرادي ليس فقط وجها نظر كل الناس الذين نتصل بهم، بل أيضا وجهات نظر الحيوانات والمخلوقات الأسطورية وربما الأشياء . ولذلك ربما يساعدنا المسرح في الخروج من هذا الحصار . ولم يعرض شكسبير كلام هيكوبا علي خشبة المسرح لكي يوضح لهاملت شيئا عن هيكوبا : فرد فعل هاملت عن هاملت . بينما يكشف شعر هاملت نوعا من مفهوم الألم المنعكس من آلة التصوير بالرنين المغناطيسي، فشكسبير يوضح لنا الشخصية التي تعمل أثناء الألم لكي تفهم موقفها وفي النهاية تفهم درجة ما من الوساطة : يضعها في المسرحية . يشعر هاملت بالارتباك لعدم وجود نسيج ضام بينه وبين الممثل وهيكوبا، مما يسمح بحدوث هذا التسرب العاطفي، اذ يهدف الكثير من نظرية التمثيل والمسرح عندنا الي فهم ما يجب علي الممثل عمله في الداخل للتطابق مع هيكوبا من أجل التأثير في هاملت . ولكن يمكن أن تؤدي بنا العلوم الإدراكية إلى سؤال آخر : لا يجب أن يهدف المسرح الي الربط بين الثلاثة – وهم موجودون بالفعل – بل بالأحرى الفصل بين الثلاثة .
 وعودة إلى شاطئ المجالات المتعددة، ما ألاحظه هو أن المياه العلمية التي تغير هذا الشاطئ مختلفة عن المياه العلمية التي ضربت شاطئ مسرح موسكو للفنون أو مسرح برلينر انسامبل . فأفكار العاطفة – سواء كانت في المختبر أو في المسرح – تؤثر في المسرح الذي نهتم بتقديمه، ولذلك ربما نستطيع أن نرى توجها مختلفا تجاه العواطف علي خشبة المسرح في مسرحنا المعاصر . فقلاع الرمال التي نبنيها هنا قلاعا مثيرة – فهناك ثغرات مكونة من بحوث الإدراك البصري، وخنادق مملؤة بنظرية الأنساق الدينامية Dynamic Systems Theory ، وفي اتجاه المزج المفاهيمي . وأريد مساحة، حيث يمكن حيث يمكن لطرح الأسئلة نفسها أن يحل تصنيف الموضوع قيد البحث، حيث يمكن أن يكون أي شيء . ولذلك أريد أن أعيد طرح السؤال نفسه،
.............................................
آمي كوك تعمل أستاذ بقسم المسرح والدراما في جامعة انديانا وهي متخصصة في التقاطع بين العلوم الإدراكية ونظريات الأداء والدراما الحديثة. ومن أبرز كتبها «المسرحية العصبية الشكسبيرية: تفعيل دراسات النصوص الدرامية والأداء من خلال العلوم الإدراكية Shakesperean Neuroplay: reinvigorating the study of dramatic texts and performance through cognitive science” 2010.
وقد سبق أن قدمت لها جريدة مسرحنا دراسة في أعدادها السابقة بعنوان «التفاعل: أسلوب وإمكانات التناول الإدراكي العلمي للمسرح«.
نشرت هذه المقالة في Journal of Dramatic Theory and Criticism – spring 2011


ترجمة أحمد عبد الفتاح