الارتجال (2-2)

الارتجال (2-2)

العدد 691 صدر بتاريخ 23نوفمبر2020

ديناميات الارتجال :
يشكل الحصول علي حالة الاستعداد في الارتجال هذه والحفاظ عليها تحديا لنظرية الأنساق الدينامية dynamic systems theory . ففي الحياة اليومية، تحتفظ النماذج المكررة التي تخرج من الأنساق الدينامية باستقرار نسبي من خلال توفير الاستخدام الفعال للطاقة وتنمية السلوك الملائم للبيئة . ولا تستند الحالات الإبداعية، ولاسيما التي تتعلق بالأداء، إلى الحفاظ علي المصادر، بل كما يشير يوجينو باربا، تقوم علي بذل الطاقة . “ تتبع تقنيات الجسم العادية عموما مبدأ الحد الأدنى من الجهد، أي الحصول علي أقصى نتيجة بأقل إهدار للطاقة . وعلي العكس من ذلك، تعتمد التقنيات اليومية الاضافية Extra-daily techniques علي إهدار الطاقة .... مبدأ أقصى التزام بالطاقة من أجل أقل نتيجة . والارتجال المسرحي، وهو تقنية يومية إضافية، لا يحدد أنماط الجاذبين والظروف الحدية التي تعجل بالقرار . بل علي العكس، تميل إلى تعليق العودة الي حالة الثبات من أجل تأكيد إحساسا عاليا بالإدراك حتى ينتهي العمل، سواء كان ناجحا أم لا .
 ويمكن رسم خط مواز لهدف أسمى . في الواقع، يحدد الممثل هدفا تسعى اليه الشخصية طوال المسرحية . انه بمثابة معيار للحكم علي شدة سعود وهبوط الخط العاطفي ولتحديد النبضات والإجراءات الوسيطة التي تتخذ لتحقيق الغاية المنشودة . والهدف الأسمى هو أداة مفيدة لبناء أداء محدد ولخلق إيهام بأن نهاية القصة لم تحدد بعد . ولا يركز الممثل عليها علي خشبة المسرح، ولكنها تحوم خارج دائرة الانتباه كتذكير ضمني بالمنطق الكامن وراء اختيارات معينة . وفي الارتجال، تستخدم محددات التمرين كهدف أسمى . إذ يحل « استكشاف الهدف» محل « شخصيتى تريد السيطرة على الآخرين « . وبدلا من تحديد هدف يحفز الفعل، يخلق الارتجال سياقا يمكن من خلاله الاضطلاع بخط الانطلاق . ويظل السياق علي حواف الوعي، مع التركيز علي نمط الظهور دون توجيهه . يقوم الممثل بتمرير أصابعه علي شكل قناع الغاز وملمسه، استكشاف طرق إمساكه عندما يصبح امتدادا لذراعها، ويستكشف الخصائص المختلفة عندما يصبح الشيء مجسما . ولا يجب أن يتذكر أن الهدف هو استكشاف الشيء، ومع ذلك لا يزال هذا الهدف يقود أفعاله . فعملية الاكتشاف هي ما يحدث داخل حدود المكان الذي يحدده التمرين . وتنهار الرابطة بين الهدف الأسمى ومحددات الارتجال عندما يصل الي الفعالية التي تستنبطها هذه الحدود . والعنصر الأول هو مقوم محدد في كل ما يفعله الممثل/الشخصية في حكي القصة، بينما العنصر الأخير يسمح لما يحدث أن يحدث بدوت تحديد اتجاه بعينه . علي الرغم من أنه قد يظهر في الارتجال هدف يؤثر علي تسلسل الأحداث، فان الهدف مستمد من عملية الارتجال وليس حدا بنيويا .
 في إطار الارتجال، فان المهمة التي تحدد الاستكشاف في الحركة تزعج النسق، مما يؤدي الي مزيج من دوافع الفعل ( الأفكار والعواطف والمشاعر) وذكريات من مواقف الماضي . ويقاوم تركيز الارتجال المفتوح إبداع النماذج التي تستعيد الاستقرار في النسق لأنه لا توجد إجابة واحدة يمكن أن تقدم حلا، ويتم تقويم المواد المجمعة بعد اكتمال العمل . وبدلا من ذلك، سيتم اختيار جاذب واحد واستنتاج سلسلة من السلوكيات التي تسمح للممثل بالتفاعل مع البيئة بطرق جديدة . فهو يلمس القناع وعينيه مغلقتين، ويشعر بخشونة القماش، وبرودة الألواح الزجاجية، وبقعة معدن العلبة في نهاية الكمامة . تعيد خاصية لمس الأسطح ذكريات الأحاسيس المشابهة، والتي قد تأخذ شكل حدث يتم تذكره، أو مجرد مواد مماثلة . وإذا كان أحد هذه التداعيات قوية بالقدر الكافي، فإنها تستدعي أفكارا ومشاعر تسبب تموجات في النسق، تبدأ في مجموعات أخرى من الجاذبات واحتمال الأفعال الجديدة . وربما يتغير توجه الممثل نحو القناع وهو يسقط مشاعره علي ما كان ذات يوم مجرد شيء، والذي يتمتع الآن بهذه الخصائص ويغير بطريقة دقيقة أو غير دقيقة اتجاه الاكتشاف . وقد يجد الممثل القناع محببا أو مخيفا، وقد يشعر بالاندفاع لضمه أو إبعاده . وبغض النظر عن كيفية استجابته، فسوف يعاد توجيه مسار الارتجال، ليأخذ في اعتباره هذه التجارب الجديدة .
 يتم إنشاء حلقة . يميز الفعل المبدئي نوعا معينا من الإدراك ( الملمس مثلا) المستمد من البيئة، مما يؤثر علي سلوك المؤدي . ويجلب الإحساس مجموعة جديدة من الذكريات والدوافع، التي تعدل سلوكه في المقابل . واعتمادا عي كثافة استجابة الممثل، تتغير أنواع المعلومات الإدراكية التي يسعى إليها الممثل بشكل طفيف أو بشكل جوهري :
 غالبا ما يكون الممثلين الآخرين هم المحفزين . فالطريقة التي  يستمعون بها، أو الطريقة التي تتفاعل بها شخصياتهــم معـي  تعزز أو تؤكد نوعا ما خروجي من الجانب التي كنت أخــرج  منه .فالاستجابة الانتباه أشياء كبيرة .
ولأن التحدي الذي يبدأ به البحث مفتوح وقبول المعلومات الإدراكية هو حافز للاستمرار في اكتشاف السلوكيات المعدلة، فلا يظهر النمط الذي يحسم البحث أو علي الأقل يتم التعرف عليه كحل . وبذلك يستمر الارتجال حتى يستنفذ خط الانطلاق نقسه، ويُكتشف تركيز جديد، أو ينتهي العمل .
 والبديل الذي تعتبر مايو أنه مركز عملها هو الطبقة الثالثة من العملية الارتجالية . فنادرا ما ينغمس الممثل في العمل لدرجة أنه لا يدرك الأحداث . في الواقع، من الأمور الأساسية لنجاح الارتجال اهتمام المؤدي بما يحدث . ان عدم إدراك الأحداث الجارية يمكن أن يؤدي إلى إنهاء العمل في وقت مبكر . ولا يجب أن يوافق المرتجل علي كل ما يقدمه الممثل الآخر، بل يجب أن يمنح أيضا الفعل الذي يستخدمه الممثل الآخر . وفي نفس الوقت الذي يظل فيه المؤدي مدركا لبؤرة تركيز العمل ويتبع الدوافع استجابة للتغيرات في السياق، فانه يتفهم الخيارات التي يتخذها والأنشطة التي يقوم بها .
 ويلعب الانتباه دورا آخرا أيضا . وسيتم تذكر السلوك التي تخلق انطباعا مهما ضمن البنية ثلاثية المستوى . فالممثل لا يقول « يجب أن أتذكر ذلك « . فذلك يمكن أن يبعده جدا عن الموقف ويقطع تركيزه . ولأنه واع بما يحدث بالانتباه الي التغيرات في البيئة واستجاباته لها، فان العناصر التي تكون النماذج سوف يتم تخزينها في الذاكرة طويلة المدى . فالتفكير في التجربة بعد الانتهاء من العمل، وتعزيز المسارات المهمة بشكل أكبر، وجعلها متاحة بعد الحدث لفترة طويلة . تلك الأجزاء من التجربة التي لا تنسى سوف تتحلل أثناء الخمول . فالقدرة علي استدعاء الحدث هي مؤشر لكل من انتباه المؤدي ومغزى الفعل .
 للإيجاز، اعتمادا علي هدف الارتجال، فان الوصول إلى تداعيات إبداعية يمكن أن يأخذ وقتا . فعندما يكون النظام الديناميكي مضطربا بسبب الإدراك، فان المعلومات الحسية سوف تنشط عددا من الجاذبات والشروط الحدودية . سوف يتم جذب جزء واحد إلى دائرة الانتباه، وعندما تُستكشف إمكاناته حتى استنفادها ولم يعد يمكن تنشيطها، سوف يحل جزء آخر محل الأول، وهكذا طوال فترة الارتجال. وفي ظروف أخرى، يمكن للمعلومات الإدراكية الجديدة التي تصل الي النسق أن تقدم إحساسا لم يكن مرتبطا في السابق بالجانب الحالي، مما يؤدي الي توسيع الجزء، مثل الإضافة إلى البيت التي تزيد الأثر . ومع استمرار العملية، يتم تجربة أصداء جديدة – تصورات جديدة أو بقايا بيانات الاستكشافات الأكثر فعالية – ويتم جرها إلى النموذج الناشئ، مما يؤدي إلى إنشاء ارتباطات جديدة وغير متوقعة . ويزداد تعقيد قناع الغاز، عندما يتم وضع جزء من مادة حمراء يُسمح لها أن تلتحق به من الخلف . وفي أوقات مختلفة من العمل، يمكن تفسيره علي أنه قطعة من القماش، أو الجسم، أو دم ينبعث من جرح في الرأس . ويتم إحضار العناصر من أحد الاستكشافات الأولية أو من جميعها في علاقة مع مادة أخرى، مما يؤدي إلى إنشاء مجموعة جديدة من الذكريات لتي يمكن أن يستنتجها المؤدي لاحقا .
 هناك بالطبع ارتجال أقصر يستخدم تركيزا أكثر تحديد نسبيا . لا يفهم ممثلان كثافة العلاقة بينهما في لحظة معينة . ويمكنهما استكشاف الموقف في سياق مختلف، وتبدل الأدوار لفهم كيفية رؤية الشخصية الأخرى للظروف أو أي عدد من السيناريوهات المماثلة الأخرى . ويجب أن يستمر البحث مادام الأمر يتطلب منهم الوصول الي اكتشاف اللحظة التي توضح العلاقة . وفي العروض العامة، كما في نوادي الكوميديا، يستمر العمل بالقدر الكافي لإنشاء الظروف و والمشاركة في سلسلة التبادلات، وينتهي قبل أن يتوقعه المتفرج . وأسوء شيء يمكن أن يحدث هو ما يحدث للمشاهدين عندما يفقدوا الاهتمام بما يحدث علي خشبة المسرح . فسواء كانت طويلا أو قصيرا، فان العملية الدينامية للوصول الي فهم جديد من خلال الارتجال تظل كما هي . ويتزعزع استقرار النسق ويبقي في مرحلة انتقالية حتى يُكتشف ما هو مطلوب أو يتم العرف علي عدم قدرة العمل علي إتمام المهمة .
المزج المفاهيمي :
في غرفة كبيرة طُلب مني تحديد مسقط رأسي والانتقال الي تلك البقعة علي خريطة متخيلة علي الأرض . تتعلق هذه المهمة السهلة نسبيا بمجموعة من العمليات المركبة . فالخريطة، سواء كانت عالمية أو محلية أو إقليمية، هي تمثيل لطوبرغرافيا محددة . وبعكس جورج لويس بورخيس الذي تخيل خريطة كانت محيرة لأنها غطت كل الأرض، نقطة بنقطة، مطلوب مني أن أتخيل تجاهل تعدد التفاصيل لكي أحدد مكان بعينه داخل المحيط الأكبر للخريطة . وبذلك تصبح الحدود الجغرافية والتقسيمات السياسية، ومكان المدن الكبرى هي بؤرة التركيز . وبالمثل، يتم اختزال مسقط رأسي إلى مدينة بعينها، لغض النظر عن تفاصيل مكان الميلاد الفعلي . ولا أهمية لأن يكون قد حدث في مستشفى، وان كان الأمر كذلك، فما هي المستشفى، ناهيك عن أي جناح، أو غرفة . إذ يتم اختزال الحدث ككل مجازيا إلى مدينة وولاية – وفي حالتي، هي مدينة فلينت بولاية ميتشجان – ثم اختزالها أكثر إلى نقطة سوداء علي الخريطة : « لا يتم استعراض كلا المكانين (الفضاءين) في مكان( فضاء ) واحد . صارت الغرفة مضغوطة، وفقدت وظيفتها المعتادة كغرفة اجتماعات في فندق، وأصبحت، لأغراض عملية، مساحة خالية لم يعد بها كراسي وجدران مطلية وثريات . وبدلا من ذلك، لم تكن في رأي أكثر مجرد مساحة خالية . وقد استخدم هذا الضغط كأساس لمساحة ذهنية أخرى، المساحة التي أتخيل فيها خريطة العالم التي تيمكن أن أسير عبرها . أحد الحقائق البارزة مستمدة من الفضاء الذهني الذي يشمل كل الذكريات الأخرى المتداولة في أسرتي حول ولادتي ويتم إسقاطها علي مساحة ذهنية أخرى هي الخريطة التخيلية .
 تمتزج المعلومات من مساحة ذهنية واحدة – الصورة المضغوطة لمسقط رأسي كمدينة وولاية – مع معلومات أخرى – الخريطة الافتراضية في غرفة التدريبات . ويتم إسقاطهم معا علي مساحة ذهنية أخرى، وهي المزج المفاهيمي Conceptual Blend، حيث يتم دمج المعلومات عندما أتحرك إلى المكان الملائم المساوي لوجودي في مدينة فلينت . وقد استخدمت آمي كوك الاستاذ بجامعة انديانا المزج المفاهيمي لكي تعيد قراءة أعمال شكسبير من منظور إدراكي، إذ تقول : «يتم اسقاط معلومات من مساحتين أو أكثر من مساحات المدخلات إلى مساحة ممتزجة، بحيث تحتوي المساحة الممتزجة علي معلومات وبنية من أكثر من واحد. والأهم من ذلك، أن المساحة الممتزجة تحتوي علي بنية طارئة من المدخلات غير المتوفرة ؛ انه التصادم التضامني . يسمح دمج البيانات من مساحتي المدخلات في مساحة ممزوجة بظهور صورة توفر المعلومات اللازمة لإكمال المهمة . وهي ليست عملية ذهنية خالصة، بل تجربة مجسدة تستدعي وعيا بمكاني في الغرفة، وشكل الأرضية التي تعرض عليها الخريطة، والأطر التي يوفرها قادة الارتجال .
 بينما أتحرك إلى المكان الذي أعتقد أن مدينة فلينت موجودة فيه، تختفي الغرفة نفسها ويحدث المجال المعاكس : يمكنني أن أغطي مساحة واسعة من الحدود بخطوة واحدة، بدلا من استغراق ساعات أو أيام للعودة الى مسقط رأسي . يضغط المزيج الناتج مجالين : أولا، المسافة بين موقع الارتجال ومدينة فلينت، ثانيا، الزمن الذي مر منذ يوم ولدت حتى الآن . وأن الثابت في المعادلة : في كلى المكانين، وفي كلى الزمنين . الضغط، وفقا إلى سينا كولسون و تود أوكلي، «التمثيل في المساحة الممزوجة قابل للتفسير بسبب العلاقات المجازية بين العناصر في المساحة الممزوجة والعناصر في المدخلات « . بسبب شبكة المساحات الخالية والضغط والإسقاطات والمزج الضروري لفهم هذه المهمة التدريبية التي تبدو بسيطة – أين ومتى حدثت ولادتي فيما يتعلق بالحاضر – يحدث مزيج معرفي يسمح لي بالانتقال الى المكان المناسب في الغرفة .
 المهمة الثانية - ما هو شعورك تجاه الموقع ؟ - تستحضر عملية مشابهة ولكن أكثر تعقيدا . ذكريات السنوات القليلة التي عشتها هناك قبل الانتقال، وذكريات العودة لزيارة أجدادي، وما حدث لمدينة فلينت منذ أن أغلقت شركة جنرال موتورز مصانعها التي دعمت اقتصاد المدينة، وكل التداعيات الأخرى التي طفت علي السطح أثناء القيام بالمهمة، سمحت لمقدر كبير من المادة أن تكون فعالة في وعيي . ويمكن أن يخلق مقدار المعلومات المؤثرة في العملية مزيجا أقل استقرارا من مقدار المعلومات المتعلقة بالسؤال الأبسط « أين ولدت ؟ « عندما يتشكل المزيج، فقد تظهر شبكة من الارتباطات الممتدة مشاعر أخرى في الخلفية، تتداخل مع شكل المزيج أو تؤثر عليه . ومع حدوث عملية التفصيل، وتشغيل المزيج، قد تتعير أهمية الحدث، ويتحول التركيز الي نطاق مختلف من المشاعر،أو الي تكثيف طريقة معينة في التفكير، أو قد يعاد ترتيب الحدود العاطفية لجسدي . وعلي الرغم من أنه قد يتغير التركيز علي المشاعر والأفكار أو العواطف، فيظل الثلاثة مترابطون .
 وخلال الارتجال، لا يكون المزج المفاهيمي جامدا بل دينامي، يمر باستمرار بانتقالات وتحولات . ولا تكون المدخلات محددة بما يتم تذكره وتخيله، ولكنه يمكن أن يتصل ببنية الفراغ الذي يحدث فيه التمرين، وما يفعله المشاركون الآخرين، وتعديل الاتجاهات من جانب قادة العمل، وما إلى ذلك . وتقدم المعلومات الجديدة للمزيج باستمرار كخطوات مختلفة في المهمة التي يشاركون فيها . وعندما يصبح المزيج أكثر تفصيلا، يزيد عدد التداعيات، مما يعطي مصدر لرؤى جديدة محتملة من خلال تقديم مدخلات متنوعة – العواطف والذكريات والتحركات والتصورات والرغبات، وما إليها . عندما أستجيب لمهمة تحديد ما أشعر حيال مسقط رأسي، أحس بمجموعة مختلطة من المشاعر، وأشعر بالحاجة الي التحرك أو التحدث، أو أشعر بطريقة بالتعبير عن نفسي استجابة لتدفق الصور التي تحدث . ووفقا لما ذكرته كوك، فان وضع المزيج « ليس مزيجا أو طمسا لفكرتين، بل هو شبكة معقدة متكاملة تم استحضارها لإبداع فكرة جديدة . وما يظهر من العملية ليس إجابة، بل تدفق للاحتمالات، التي يمكنني أن أختار منها تلك الأفعال ذات المعنى بالنسبة لي في تنفيذ مهمة الارتجال . إنها لحظة خلاقة يمكن أن تنشئ المزيد من الإبداع .
 وليست كل محاولات المزج – سواء في اللغة أو الارتجال - ناجحة . ففي الحياة العادية، يمكن أن تحدد المجازات المختلطة ومظاهر الفهم المساحات الذهنية التي لا تتوافق معا . وبالمثل، ربما تثبت الارتجالات في المسرح تفاهتها ؛ فربما لا يؤثر الهدف علي التخيل أو يحافظ علي تدفق الصور اللازمة لاستمرار العملية الإبداعية . وفي أحيان أخرى، عند التأمل، ربما يقرر الممثلون أن العمل لا يلبي احتياجات المهمة المطلوبة للتمرين . وربما يكون للاتجاه المختلف القدرة علي مصدرا أكثر ثراء للصور . ولا توجد ضمانات أن ما يظهر سيكون له قيمة . فالعمل ينتهي ؛ وربما تُلغى المهمة، ويتم البحث عن نقطة انطلاق جديدة، لاستنتاج مجموعات من المدخلات لها قوة كامنة لاستدعاء المزيد من المزج المثمر .
تقنيات الارتجال :
من الصعب أن نتخيل أن هناك تقنية للعملية التي لها حرية إبداعية كهدف . فبالنسبة لأرتو، كان ذلك يتم بالتخلص من كل التقنيات – المهنية والاجتماعية – حتى يجد الدافع الإبداعي تعبيره . وقد أدرك جروتوفسكي، بوعي أو بدون وعي، أن تحرير الجسم من العوائق الثقافية لن يخلصه من التقنية . فالتخلص من عادات الجسم، بالأحرى، يتطلب غرس طرق بديلة للعمل مثمرة إبداعيا أكثر . وكما يفهم دولوز وجواتاري، لا توجد حرية بدون حدود . فإذا لم تكن هناك حدود فلن تكون نقطة الانطلاق ممكنة ؛ كما يتضمن الأمر أيضا مفهوما مفاده أنه إذا لم يكن هناك مخاطرة فلا يوجد انطلاق . والسؤال هو، كيف يتم تعريف تقنية المخاطرة الارتجالية ؟
 في النظام الدينامي، تعتبر التقنية نمطا متعدد الصيغ من المسارات العصبية التي تتكون من الحالات الجاذبة والشروط الحدودية . هذه المكونات تجعل الجسم متحيزا للتصرف بطريقة معينة، مع إعطاء الأفضلية لأنواع معينة من المعلومات والسلوكيات الإدراكية . وفي رأي الخبراء، تأخذ هذه المكونات شكل القوالب التي تشكل بنية مرنة، أي قادرة علي دمج المدخلات والاستجابة لها من أنساق استشعار داخلية وخارجية . هذه المادة الجديدة تزعج النسق، مما يسمح له بالبحث عن أنماط عمل تعيده الى حالة شبه مستقرة . وهذه أرضية مألوفة الآن . فما يجعل الارتجال مختلفا هو أنه موجه إلى التغيير فضلا عن العودة إلى السلوكيات التي كانت ناجحة في الماضي .
 تقوم تقنية قيادة الدراجة علي النماذج التي تسمح للراكب أن يتحكم في اتجاه الدراجة والسرعة بينما يحافظ علي توازنها ويتوقع التغيرات ويتواءم معها في البيئة ( مثل أسطح الطريق غير المستوية) . وينصب التركيز علي التحكم في عدد المتغيرات ضمن حدود ما يشكل الركوب الآمن للدراجة، بحيث تركز الاستجابات فقط علي ما يختلف عن القاعدة . وتعمل التقنيات الارتجالية بشكل مختلف . ففي الارتجال، يفتح الممثل نفسه علي تنويعة المدخلات، ويركز علي احتمالات المعلومات الإدراكية لتقديم تعدد للاحتمالات، فضلا عن أعزاء معنى واحد لأي ادراكات معطاة أو تنمية سلوكيات معتادة استجابة للمعلومات . وبتأجيل التفسير، يكون الممثل قادرا، بدون حكم، للاستثمار في المشاعر والأفكار التي تخرج من التجربة .
 مشاهدة المبتدئين وهم ينخرطون في الارتجال أمر مفيد، حتى لو كان شيئا أساسيا مثل تمرين المرآة . وتتضح قلة خبرتهم عندما يحاولون توقع ما سيفعله زميلهم أو عندما لا يساعد هذا الزميل الواقف أمام المرآة تلك المرآة علي متابعة حركاته . يهتم المبتدئ بالمعلومات الإدراكية الخاطئة . فهو يهتم بما يمكن أن يحدث أو يهتم تنفيذ الفعل الذي أهمله لكي يساعد زميله أن ينجح . ومن خلال التدريب، يتعلم الممثلون بالتدريج أو بسرعة قواعد التمرين . وعندما يعودون إلى التمرين، يستطيعون أن يصلوا إلى تناغم مع بعضهم البعض بشكل أسرع . ويبدأون في تعلم التقنية من خلال الالتزام بقواعد التمرين والتركيز عليه . والخبراء الذين يمارسون إبداع المسرح، قادرون علي الدخول في حالة ارتجالية بسرعة وإخلاص . وسهولة التقاليد لا تعني أنهم سوف يبدعون فورا . فهم أيضا عرضة لتكرار سلوكيات سبق أن تعلموها، أي طرق الاستجابة لنوع معين من المدخلات يقوم علي تجربة سابقة. وكما هو الحال مع المبتدئ، يستغرق الأمر وقتا من العمل من خلال المعتاد لإيجاد مساحة إبداعية . ويمنحهم تمرينهم، رغم ذلك، القدرة علي التعرف علي السلوكيات السابقة، أتخلي عن الحلول المريحة، وانتظار غير المتوقع لدفع الحدود إلى ما هو ممكن .
 وعندما تصبح الأمور أسهل، فهذا لا يعني أنها سهلة دائما . فالعملية تتطلب من المؤدي أن يكون مفتوحا علي الاحتمالات المزعجة اجتماعيا أو شخصيا . إذ لا يستطيع الممثل الابتعاد عن هذه اللحظات بل يجب أن يرغب أن يكون هشا ويثق في العلاقة المتطورة مع الآخرين . فالممثل يجب أن يقبل المخاطرة . ويقول تيم ايتشيل :
 تظهر المخاطرة في أغرب الأماكن، مواقف الانزلاق والاختباء  فالمخاطرة هي الشيء الذي نسعى اليه في الأداء ولكنهـا ليســت  الشيء الذي يمكن أن نبحث عنه . فنحن نبحث عن شيء آخر ..  ونتمنى أن تظهر المخاطرة . فنعرفها عندما نراها . أثق من ذلك  المخاطرة تفاجئنا، تعبر الينا دائما – ونحن دون اتزان ... ولا  يهمني أين أراها، ولكنها نادرا جدا وهي الشيء الوحيد الذي نهتم به .
المخاطرة مفتوحة علي التجارب التي لا تستطيع أن تسيطر عليها التقنيات الأخرى. مثل الإلهام، ربما لا تظهر عند استدعائها، ولكن بدونها، من المرجح ألا نجد حلا إبداعيا جديدا في البداية . وهذا لا يعني أن كل ارتجال يتعلق ببحث منفرد عن حلول. فبعض الحلول يمكن أن تكون مرحة ومضحكة . وبغض النظر، يجب أن تكون الكثافة والتفاني هما شيء واحد .
 الفشل اختيار . هدف الارتجال ليس إيجاد إجابة لاكتشاف مجموعة من المزيج المفاهيمي لتحديد أي اختيارات تمنح أغنى دينامية وتقديم أكثر الحلول إبداعية للمهمة . يمكن أن يفشل الارتجال، رغم ذلك، لعدة أسباب . ويمكن أن يصبح الذهن مزدحما، ولا يترك مجالا للصور الجديدة، ويمكن أن يفقد الخيال تلقائيته ويعود إلى ما لانهاية الي نفس مجموعة التداعيات، أو ربما يفقد الفضاء المادي مرونته ويصبح خانقا . وأحيانا لا يقدم مواد مثيرة . يمكن أن يقف أي عدد من العقبات في طريق العملية الإبداعية . والتحدي، عندما تكون الأشياء خاطئة، هو كيف تعود إلى العمل في حالة مثمرة للذهن : أحيانا عندما نعمل، نتعثر في كثير من الأحيان عندما نفعل ذلك، ينتهي بنا الأمر إلى التجول في المدينة والتحدث ومحاولة العمل علي ما يمكن القيام به بعد ذلك . هناك حاجة إلى محفزات جديدة لتحل محل الصور غير المثمرة التي ترفض الانفتاح علي آفاق جديدة ومثيرة . وتصفية الذهن يمكنها أن تعيد الممثل إلى الإطار المفتوح الذي يسمح للعمل أن يستمر، بمعنى آخر يسمح بالعودة الى التقنية .
 يتطلب الارتجال سذاجة متعمدة – إيهامية رغم ذلك – إذا كان لابد لها أن تعمل. فدخول العملية بسخرية واستهزاء، أو بشك، ان لم يكونوا متكاملين مع التمرين، يخلق جوا من الانعزال المعادي للعملية . ربما تكون هذه التوجهات مفيدة في الحفاظ علي الثبات الإدراكي في عالم مضطرب، ولكنهم ملتزمون بالمشاركة في العمل المسرحي . يتطلب الارتجال الناجح تسكين العمليات الإدراكية الموجودة والانحرافات التي تتدخل في المهمة التي بين أيدينا وأن نكون منفتحين علي ترك المزج المفاهيمي أن يعمل . وعندما يتحقق هذا الإطار الذهني تتدهور سلسلة من الارتباطات بينما تولد الصورة صورة أخرى . ورغم ذلك، هذا ليس تدفق حر للمادة، لأن الممثل يقوم بالخيارات التي تحرك الارتجال في اتجاهات مختلفة، تقوم أساسا علي الجاذبية البارزة في ما يحدث في لحظة معينة . وقد تنهار الأنماط التي لا تشارك في لحظة معينة أو تصبح نشطة ارج مركز الاهتمام، وتعود عندما تكون أكثر جاذبية للمرتجل . وترتكز هذا القرارات جزئيا علي بنية التمرين، ولكنها تعكس فضول الممثل في العلاقات والتفاعلات المبنية في البيئة . هذه هي تقنية الارتجال .
 الارتجال، إن لم يكن غاية في ذاته، يقدم المادة التي تتشكل فيما بعد في العرض . وسوف تتعزز بعض النماذج من خلال التكرار وترتبط بأفعال أخرى في إبداع سجل الممثل .
....................................................................................
جون لوتربي يعمل استاذا للمسرح بجامعة Stony Brook University
هذه المقالة هي الفصل الخامس من كتابه «نحو نظرية عامة في التمثيل Toward A General Theory of Acting ; Cognitive Science and Performance « – Palgrave – MacMilan 2011


ترجمة أحمد عبد الفتاح