الأبرياء.. مذنبون في حق الإنسانية إلى أن يثبت العكس

الأبرياء.. مذنبون في حق الإنسانية إلى أن يثبت العكس

العدد 685 صدر بتاريخ 12أكتوبر2020

محاولة تحويل نص مسرحي تعبيري مليء بالدلالات المتعددة بين مفاهيم النفس البشرية المتضاربة لعرض مسرحي حي أمر ليس بهين على الإطلاق، فقارئ النص سيذهب للعرض آملًا في تحقيق عنصر التفاعل والجدل، والمشاهد غير القارئ للنص سيذهب على سجيته طامحًا في رؤية فنية وتقنية تساعده في مواكبة الأحداث ومعايشتها، وكل منهما لا يريد أن يتلقن موعظة حسنة أو خطاب موجه يكسر آفق توقعه ويحطمها أرضًا
قدم المعهد العالي للفنون المسرحية العرض المسرحي «الأبرياء» عن النص المسرحي «وقت الأبرياء» للكاتب الألماني زيجفرد لنتس، ضمن مسابقة العروض الحية للمهرجان الدولي للمسرح التجريبي في دورته السابعة والعشرين، إخراج حسام قشوة.
تدور أحداث العرض حول شاب ثائر قام باقتحام موكب الحاكم لكن محاولته بائت بالفشل، ثم القبض عليه واحتجازه مع 9 من الأبرياء وإجبارهم على إرغامه بالاعتراف بكافة الطرق على معاونيه حتى يتم السماح لهم بالخروج من السجن.
وفي محاولتهم  لانتزاع الاعتراف يقوم أحد منهم بقتله حتى يتخلص منه كعقبه تعترض طريقهم كأبرياء، ولا يعرف كل منهم من الذي قام بذلك الفعل، ثم يتحول ذلك المقتول إلى بطل قومي وتتحول قضيتة للرأي العام، فيطلب رجل المباحث منهم العثور على القاتل حتى يتمكنوا من الخروج.
في مسرح مكشوف قامت مي عثمان مصممة ديكور العرض بمحاولة غير رابحة بإقامة زنزانة للسجناء مغلقة من جميع الجوانب، لكن دون أي إبراز لمعالم هذه الزنزانة المنغلقة على 10 أشخاص، فاحتوت على مجموعة من الكراسي للجلوس، وكان في الاستطاعة بناء ديكور محكم يتفادى إقامة العرض في مسرح مكشوف، حيث أن طبيعة العرض لا تتناسب مع المسرح المكشوف، ليكن تفادي ذلك في يد مصمم الديكور إن كان يعي طبيعة الحدث المسرحي وما يناسبه، فما كان الديكور سوى مجموعة من الأسياخ تنم عن السجن، ومنها للهواء الطلق، بين الحين والآخر تجعل المتلقي في حالة من التشتت مع ما يدور بالخارج، لأن الشكل الخارجي والأولي للسجن لم يتحقق من الأساس.
وبين فلسفة النص التي تقوم على فكرة الإدانة الإنسانية، وأن ليس كل من هم أبرياء أمام القانون هم أبرياء في نظر الإنسانية والعكس، وما يقدمه من سمات تعبيرية حول مفهوم البراءة وحادثة القتل التي لم تقع بالفعل بل قامت في خيال الشخصيات كنوع من الأنواع الإدانة المجازية لأنفسهم عما بدا منهم في حق مفهوم البراءة لمجرد مداعبة الشر لأنفسهم الهشة، في نهاية للنص ذات طابع كلاسيكي تدمج الحلم بالواقع، لم يستطع العرض أن يخلع ثوب الخطابة وتعامل مع النص كونه نص واعظ وإرشادي، فبقلة عدد الممثلين وثبات الفضاء لم يكن يحتمل العرض أن يكون خطابيًا إلى هذا الحد، محاولًا أن يستخدم التحايل شفيعًا له كي يوضح وجهة نظر أخلاقية بعيدة عن النص التعبيري، وبعد عما يحتاجه العرض من حركة واستعراض وإماءات تطعم العرض بروح نشطة لكسر الحالة الخطابية التي غلبت عليه.
وذلك بسبب التعامل مع النص على إنه يساير وضع واقعي لا تعبير فيه ولا خيال،
لكن ذلك لا ينفي شرف المحاولة لكسر تلك الحالة في بعض الأحيان، فتم اختصار بعض المونولوجات الطويلة من النص، والديولوجات التي تتحملها النصوص المسرحية ولا يتحملها طبيعة عرض مسرحي، كما قام العرض بمحاولة آخرى وهي إزالة الحائط الرابع من الزنزانة المُفرغة التي تواجه الجمهور، ولكن سوء التوظيف هدم شرف المحاولة هذه، فإن كانت الإزالة بهدف دمج الجمهور مع الأبرياء وإشراكهم في حالة الإدانة وتأكيد ثمة أن الجميع مدان، ما كان للممثلين أن يأتوا بمقاعدهم أمام الجمهور ويعطوه ظهورهم، فأي دمج يحدث وفي المواجهة ظهر ممثل لا يظهر منه تعبير واحد!، وفي الاستطاعة كسر الحائط الرابع بطرق آخرى لا حصر لها..
ليكن الاندماج حائط جديد قائم بمعزل لا جدوى منه سوى إفساد الذائقة مزامنة مع كل ما سبق ذكره.
ولكن بخلاف ذلك التوجيه الإخراجي غير الواعي بمفردات النص، لا يمكن ألا يُذكر مجهود الممثلين في الالتزام بلزمات شخصياتهم، فكل منهم واعيًا كل الوعي بمكانة الشخصية التي يؤديها ومنها أبتكر لازمة تميزة، وطبقة صوت تتناسب مع عمره ومهنته، فالقنصل حافظ على وقاره وهدوءه حتى في لحظات غضبه، والسائق تمسك بحركات يده ومشيته، وألتزم المزارع بنظرة عينه البريئة حتى في لحظة أعترافه على ذاته بإنه القاتل ليجعل الجميع ينفي تلك الأكذوبة، والطالب ووقوفه مفرود الضهر شامخة رأسه على عكس عامل الطباعة الملتزم بالإنحناء وإنخفاض الصوت نسبة لتمسك الطالب بالعدل وتشتت عامل الطباعة بين العدل والمصلحة الشخصية،..
وعلى ذكر الجانب التمثيلي فما من داعي لكثرة الحراس الذين يحاوطون الزنزانة، ليكن الحارس المؤثر في الحدث هو نفسه من ذُكر في النص الأصلي، ولكن كثرة العدد لم تفد بشئ ولا تؤثر على الدراما بل تشغل الحيز المكاني من أجل الانشغال فقط .
أما عن النهاية التي قصدها النص في ربط الخيال الخاص بجريمة القتل بعالم الأبرياء الواقعي، قام العرض أثناء تنفيذها بإعادة الجثة للفضاء ومن ثم الالتفاف حولها في نهاية متعجلة لا توضح أي مقصد سوى إنتهاء وقت العرض، ليسقط المقصد التعبيري الذي حاول النص أن يقدمه من البداية إلى النهاية.


منار خالد