العدد 531 صدر بتاريخ 30أكتوبر2017
على خشبة مسرح الهناجر قدم فريق المسرح بكلية التجارة جامعة بنها عرضه المسرحي “ليلي” دراماتورج ياسر أبو العينين ومن إخراج محمد طارق، وذلك في رؤية دراماتورجية لثلاثة نصوص للشاعر الأشهر صلاح عبد الصبور، وهي نصوص (ليلي والمجنون، مسافر ليل، مأساة الحلاج) التي حاول فيه صناع العمل التماس مع الطرح الفكري والآيديولوجي للمسرحي الراحل صلاح عبد الصبور، وإلباسه ثوب اللحظة الراهنة بكل مرادفاتها وارتباكها وأحلامها التي تعتمل في عقول وقلوب المثقفين بشكل خاص والإنسان بشكل عام، ذاك أن الثلاثة نصوص سالفة الذكر جسدت مأساة المثقف وعلاقته بالآخر المستبد، ومأساة الإنسان وعلاقته بقوى القهر العبثية فاستحال واقعها إما انتظارا لمخلص أو موتا على يد طغاة اعتادوا قهر العوام والخواص على حد سواء.
اعتمد المخرج محمد طارق على خبرات ياسر أبو العينين - الحاصل على أفضل دراماتورج في المهرجان القومي للمسرح عن عرض “روح” - في صياغة رؤية جديدة لنصوص صلاح عبد الصبور، فصاغ أبو العينين قراءة دراماتورجية لنصوص ثلاثة مجتمعة منتجا مصنفا أدبيا جديدا باسم (ليلي)، وهو عن مسرحيات (ليلي والمجنون، مسافر ليل، مأساة الحلاج)، ملتزما التزاما حرفيا بجلال الكلمة ورونقها وبهاء الصورة الشعرية وجدتها، فضحى ببعض الدلالات الرمزية في النصوص الثلاثة بغية التكثيف، وجنح إلى تأويل مغاير لدراما صلاح عبد الصبور حيث سيطر علي الرؤية السينوغرافية تشكيلا صادما فدارت أحداث المسرحيات الثلاث في (بار) لتصدر بذلك فعل التغييب سواء كان تغييبا إراديا أو تغييبا لا إراديا وجعل من الشخصيات الرئيسية نزلاء وزبائن اشتركوا في الغبن الواقع عليهم ولم يتشاركوه فبدت كل شخصية في عالمها وبدا كل حدث منفصلا عن الآخر، وإن بدا الحديث في التحليل الأخير متفقا إلى حد التطابق في تجسيد القهر والظلم وقلة الحيلة، فهي شخصيات تم اقتطاعها من سياقها مع محاولة الحفاظ على ما تبقى من إطارها الذي كُسر عمدا لدمجه شكلا بمثيله، وإن لم يختلط به فبدت دراما (ليلي) ثلاثة خطوط متوازية من أعمال عبد الصبور الثلاثة، ولم تتقاطع، اللهم إلا في نهاية الأحداث باتحاد الرؤي للتعبير عن المسكوت عنه.
التزم المخرج التزاما كاملا بالرؤية الدراماتورجية للنص، فقسم مسرحه إلى مناطق عدة نجملها في: عمق يمين المسرح تلك المنطقة التي شغلها أبطال مسرحية مأساة الحلاج (الحلاج والقاضي أبو عمر حيث جلسا في البار وحاول القاضي أبو عمر أن يسامر وينادم الحلاج متناقشا معه بالكلمات، فاختار من الألفاظ والصور الشعرية أرقاها، وعرض أبو عمر على الحجاج الكأس والشراب والحلاج بالتبعية كان يعافاه ويرفضه والتزم المخرج بنقطة بدء الميزانسن ونهايته للحلاج في الأغلب أن تكون من أقصى عمق يمين المسرح مع استغلال وسط المسرح في إثراء الرؤية بميزانسن متدفق للحلاج وبقية أشخاص مسرحية ليلي التي تقاطعت شكلا لا مضمونا. أما المنطقة الثانية، فكانت عمق يسار المسرح تلك المنطقة التي كان يشغلها سجن الحلاج تارة وتعذيب المسافر في “مسافر ليل” تارة أخرى، مع التعضيد بمنطقة وسط المسرح وهي ثالث مناطق التشكيل والميزانسن التي احتفظ بها المخرج كحل تشكيلي لخلق تدفق حثيث للعرض المسرحي كذا استخدمت منطقة الوسط لبدء التشكيل الحركي لمشاهد ليلى والمجنون، فاحتل سعيد منطقة وسط المسرح في أغلب مونولوجاته فاتحا تذكارته السوداء التي أهملت لفظا وتشخيصا وعضدت فكرا وتشكيلا وتأويلا فعدت تلك التذكارت في المصنف الجديد تعذيب المجدد في الخطاب الديني المتجدد والمساف/ البريء الذي يعذب بلا ذنب أو جريرة، وعضد المخرج منطقة وسط المسرح بمنطقة لا يطأها الا سعيد وليلى في الأغلب، وهي منطقة أسفل الوسط، مخترقا فتحة البرونسينيوم والستارة البريمو ضمنيا وفكريا ومحافظا على الإيهام تشكيليا ومنهجيا، فعد إيذانا بثورة مكلومة ونداء سري بصوت منفجر للمخلص، فضلا عن التزامه برسم خطوط حركة (ميزانسن) هادئة وناعمة لتتناسب مع الأداء الصوتي المتناغم مع المسرح الشعري لإظهار جماليات اللغة والتركيز على مفرداتها.
الخطوط المتوازية للمسرحيات الثلاث (مأساة الحلاج، ومسافر ليل، وليلى والمجنون) حاولت نقل حالة من الغليان المكتوم في عقل المثقف وقلبه علها تتقاطع في عقل المتفرج (المثقف بالتبعية) لإكمال الدلالات واستلزم إلماما كاملا من المتفرج بالنصوص الثلاثة لاستخلاص الحبكة الجديدة وتأويلها، ذاك أن الحبكة المسرحية لعرض “ليلى” اختلف عن النصوص الثلاثة شكلا، وتحول العرض إلى تبارز بالكلمات الرنانة من الممثلين، فحاول كل ممثل شحذ همم موهبته وثقلها ومحاولة التعبير عن المسكوت عنه في الدراما المسرحية الشعرية لصلاح عبد الصبور وقراءة ما بين أسطر الحروف المنمقة ونقد الواقع الآني معبرا عن ضرورة ألا ننصاع للأفكار البالية المتحجرة، والانطلاق إلى أفق أكثر حرية علنا نوجد المثقف المثالي والإنسان الراقي، فاجتهد الممثلون - في حدود خبراتهم وموهبتهم - في نقل الأفكار الآيديولوجية والخطاب الثقافي الدسم وحاولوا قدر جهدهم الخروج من رتابة الأداء المنغم ونقل حالة من الصدق والمعايشة ما وسعهم ذلك.
اهتمت الإضاءة (عز حلمي) بإنارة مناطق التمثيل، فأدت وظيفتها الإشارية من ناحية، واجتهدت في نقل الحالة الشعورية للشخصيات والأماكن والأحداث والزمن الذي اتجه إلى التحييد من قبل الدراماتورج حتى وإن جعل المخرج ملابس الحلاج ذا دلالة زمنية وتاريخية ودينية، إلا أنها أيضا اتسمت بالحيادية في التحليل الأخير وجاءت موسيقى العرض ناعمة نعومة الميزانسن والتشكيل الحركي وابتعدت عن تجسيد العنف والصلف والقهر خاصة في مشاهد مسرحية “مسافر ليل” من منطلق أن التعذيب الناعم أشد وطأة من العنف.
“ليلى” عرض مسرحي اجتهد في تقديم ليلة مسرحية دسمة للشاعر الكبير صلاح عبد الصبور مخاطبا المثقفين مسرحيا والمتذوقين لبهاء الكلمة وجلالها.
دراماتورج ياسر أبو العينين وإخراج محمد طارق.