بنية الأداء المسرحي

بنية الأداء المسرحي

العدد 676 صدر بتاريخ 10أغسطس2020

المناهج التقليدية للتحليل البنيوي هي مناهج استقرائية بالأساس. تخلق قواعد أو مبادئ عامة من خلال أمثلة معينة – التراجيديات اليونانية، وشكسبير والأعمال والمسرحيات الكبرى. ويتم تجاهل الأشكال المسرحية الأخرى. فالتركيز على السرد (النص بدلا من العرض المسرحي) يجعل البنية المسرحية مثل البنية الأدبية. وتُقترح الرسوم البيانية، مثل تلك الموجودة في رسوم الكاريكاتير، التي توضح الثروة في وول ستريت أو صحة المرضى الموجودين في مستشفى، باعتبارها توضيحا تجريديا للبنية المسرحية. وحتى عندما يتلاءم مثل هذا التفكير مع نوع الدراما المستمدة منها، فلن تكون مفيدة عندما نطبقها على أشكال أخرى من المسرح – مثل الرقص، وعروض المنوعات، والسيرك، وما إلى ذلك. وبالتالي فإن كل التحليل الاستقرائي للبنية الدرامية هو، في أفضل الأحوال، تحليل ناقص. يمكن تطبيقه على بعض المسرحيات، ولكنه لا يأخذ في اعتباره جوانب البنية التي تشرك فيها تلك المسرحيات مع أشكال المسرح الأخرى.
يتمثل أحد أساليب إنشاء نسق استنتاجي لتحليل البنية المسرحية في جعل المجال قيد النظر على أوسع نطاق ممكن، والعمل على الأقل جزئيا انطلاقا من المبادئ العامة من خارج المجال نفسه. نحن إذن نهتم بالبنية المسرحية للأداء، وليس بنية الدراما، والكوميديا والبالية وما إلى ذلك. وربما نبحث عن المبادئ في علوم مثل علم النفس والفنون الأخرى مثل النحت الحركي. إننا نهتم بكل المبادئ لتحليل بنية الظاهرة المسرحية في الزمان والمكان.
تستخدم البنية للإشارة إلى الطريقة التي ترتبط بها أجزاء العمل ببعضها البعض، وكيف تتناسب معا لتشكيل تكوين معين. ويحدث هذا التناسب في العمل الموضوعي الذي يحدث في ذهن المتفرج. فليس لدينا (أو ربما لا نحتاج) معدات مثل المجهر أو إجراءات مثل التحليل الكيميائي لمساعدتنا في فهم بنية المسرح. ولسنا معنيين بمجرد وصف أو حصر عناصر الأداء، بل معنيين بدراسة ما يفعله العقل بهذه العناصر. وهذه مسألة ذاتية. بالطبع يختلف الأمر من شخص إلى آخر، وربما ستختلف، فربما يفهم كل شخص بنية مختلفة إلى حد ما في نفس الأداء. ولكن لم تمنع نفس المشكلة علم النفس من محاولة أن يكون علما موضوعيا. ومثل عالم النفس، ربما نضع بعض المبادئ البنيوية الموضوعية العامة التي تتعلق بالوظائف الذاتية.
• التحليل البنيوي:
إذا اعتبرنا أن الرسم فن يُعنى بالترتيب ثنائي الأبعاد للخط والشكل واللون، فإن كل ما نعرفه عن مبادئ البنية في الرسم يمكن تطبيقها أيضا على دراسة بنية الأداء. وإذا تأملنا النحت كفن يُعنى بالترتيب ثلاثي الأبعاد للأشكال في الفراغ، فكل شيء نعرفه عن مبادئ البنية في النحت يمكن تطبيقه أيضا على دراسة بنية الأداء. فأي ممثلين وأي أدوات وأي مشهد على أي خشبة مسرح يشكل تكوينات ثلاثية الأبعاد. وإذا استطاع محللو الأداء أن يتعاملوا مع البنية التصورية والنحتية للأعمال المسرحية بأقصى ما يمكن من معرفة وتفاصيل ممكنة باعتبارهم محللين للفن، يمكن أن تستفيد من دراسة الأداء.
ومع ذلك لا توجد أغلب بنيات المسرح في البعدين الثاني أو الثالث بل إنها توجد في البعد الرابع. توجد بنية الأداء بالأساس في الزمن. فالزمن، وهو البعد الرئيسي في الأداء، يمكن أن يُرى كتتابع للحظات الحاضر، تتحرك كل منها لكي تكون جزءا من الماضي. وهذه الحركة أحادية الاتجاه. فأجزاء التسلسل متصلة بترتيب ثابت، ولا يمكن تبديله. ومن المهم أن نؤكد هذه السمة المميزة للبنية الذهنية في مقابل البنية الموضوعية. فنحن لا نستطيع أن نعيد قراءة لحظة في الأداء. ولا نستطيع أن نقطع التدخل ونضع لحظة الماضي إلى جانب لحظة الحاضر من أجل المقارنة المباشرة. وإذا حضرنا عرضا مرارا وتكرارا، فإننا لن نتصور علاقات لم نكن نفهمها مسبقا، ولكن ذلك لن يغير تجربتنا السابقة أو بنيتها. فالبنية التي تُفهم فقط من خلال إعادة القراءة أو إعادة المشاهدة لن توجد، إذا كان اهتمامنا بتجربة المرة الأولى فقط. فمع تجربة المرة الأولى، ينبغي الاهتمام بالتحليل البنيوي للمسرح في المقام الأول. بالطبع ربما تكون الكيفية التي يتغير بها الأداء مع المشاهدات المتكررة جزءا من هذا التحليل، ولكن يجب أن يتضح دائما المستوى الذي يتم إجراء التحليل على أساسه. فتجربة المسرح للمرة الأولى هي الأكثر تميزا وشيوعا، إذا كنا مهتمين بالتطبيق المحتمل للتحليل كنظرية عملية في خلق عملية التركيز على العروض في المرة الأولى، كما أن تدفق الخبرة أحادي الاتجاه هو أمر مهم بشكل خاص.
• بنية الاستمرارية: المستوى الإدراكي
بما أن البنية هي الطريقة التي ترتبط بها الأجزاء معا، فإن السؤال الأهم في تحليل بنية الأداء هو: ما الذي يجمع لحظتين أو يوحدهما، أو يجمع أجزاء من الأداء المقدم، التي يفصلها الزمن؟ للإجابة على هذا السؤال، دعونا ننظر أولا إلى أوضح الأماكن، وعندما نفعل سنلاحظ مبدأ بنيويا أساسيا: أي شيء يوجد باستمرار خلال الزمن يخلق بنية.
توجد بنية الاستمرارية، جزئيا، على المستوى الإدراكي. ودائما ما يكون الممثل/ الشخصية هو الوحدة الإدراكية الأساسية في المسرحية. وإذا كان الممثل على خشبة المسرح لفترة ممتدة، فإن هذه المدة الزمنية تتلاحم معا بحضور الممثل. ولأن كل لحظة حاضرة تتلاشى في الماضي، فهناك مبدأ أو عنصر مشترك – هو الممثل – يشارك في تجارب الزمن المتباين. وعندما يترك الممثل خشبة المسرح، تنتهي الاستمرارية المادية؛ يكتمل ذلك المبدأ البنيوي.
وبالتالي، فإن مسرحية، مثل مسرحية اسخيلوس “برميثيوس مقيدا” أو “بيكيه الباريسي” التي تظهر فيها الشخصية على خشبة المسرح طوال الوقت، قد يُنظر إليها بشكل مختلف تماما من الناحية البنيوية عن مسرحية هوبتمان “النساجون” التي تظهر فيها العديد من الشخصيات وتختفي. وقام كلايس أولدنبرج ببناء مسرحيتيه “أشغال الحديد Ironworks” و”صورة الموت Fotodeath” بتحديد مناطق مختلفة على المسرح لأنشطة مختلفة. وقد تطورت الأعمال آنذاك بإضافة أو حذف بعض الصور، لم تتفاعل أي منها ماديا مع الأخريات. فقد تداخلت الفعاليات في الزمن مع بعضها البعض وكأنها أحيانا فعاليتان أو ثلاث فعاليات، وأحيانا أكثر. وكانت تقدم في نفس الوقت. وباستخدام نفس هذه البنية، بنى روبرت ويلسون بعض مشاهد معينة في مسرحية “حياة وعصر جوزيف ستالينThe Life and Times of Joseph Stalin” بإضافة وإزالة شخصيات تداخلت ولكنها لم تتفاعل أو تؤدي المشهد مع بعضها البعض. فقد بُني الفعل بإضافة المزيد من الشخصيات التي توظف بشكل مستقل. شكليا، يمكن مقارنة الممثل/ الشخصيات بالخطوط في الرسم أو فن التصوير الزيتي. وبعيدا تماما عما يمثلونه، فإن حضورهم يجمع العمل ويبنيه بطريقة معينة.
ويمكن أن توجد نفس الاستمرارية في الصور المادية للعرض المسرحي. فمن الواضح مثلا أن المسرحيتين التاليتين لهما بنيتان مختلفتان:
المسرحية الأولى “الذي يتم صفعه” تأليف أندريف
الفصل الأول: غرفة واسعة جدا، قذرة نسبيا بحوائط مطلية باللون الأبيض....
الفصل الثاني: نفس الغرفة....
الفصل الثالث: نفس الغرفة....
الفصل الرابع: نفس الغرفة.
والمسرحية الثانية “بيلا وميلساند” تأليف ميترلنيك
الفصل الأول
المشهد الأول: بوابة القلعة.
المشهد الثاني: غابة.
المشهد الثالث: قاعة في القلعة.
المشهد الخامس: أمام القلعة.
يؤكد كل مشهد أو مكان الفعل لفترة معينة أو يبنيه لفترة من الزمن. ورغم ذلك، هذا لا يعني أن هناك انفصالا ماديا تاما بين مشاهد مسرحية “بيلا وميلساند”. وسوف يتعين علينا أن نحلل عروضا بعينها لنرى كيف تتداخل العناصر المستمرة – الأدوات والأزياء والألوان والأشكال والزخارف والأضواء، وما إلى ذلك (بالإضافة إلى الممثل/ الشخصيات) – بين الفجوات ودمج الزمن على مستوى مختلف.
ويمكن رسم بنية الاستمرارية الإدراكية للأداء بيانيا من خلال سلسلة من الخطوط المتوازية ذات الأطوال المتباينة. ويمكن أن يمثل كل خط استمرار الوعي لعنصر مادي معين؛ آنيتها أو تداخلها علاوة على أن استمراريتها الداخلية يمكن أن تشير إلى كيفية ترابط الأداء.
• استمرارية البنية الذهنية:
الاستمرارية السيكولوجية – الحضور المستمر للعنصر الذهني فضلا عن العنصر المادي أو الإدراكي – يبني أجزاء الزمن الممتد. فقد تُقدم الشخصية/ الممثل إلى العقل مثلا بطرق متنوعة رغم أنه غير متاح للحواس على خشبة المسرح. شخصية على المسرح مخفية عن الأنظار (خلف شاشة، أو تحت سرير)، وشخصية متوقع وصولها، وشخص ربما يظهر، والشخص الذي يتم التحدث عنه يقدم أيضا درجات متفاوتة من الحضور النفسي، وبالتالي إمكانية استمرارية البنية الذهنية.
ما يحدث عندما ترتفع الستارة لعرض فعالية على خشبة المسرح، ثم تنزل فيما بعد، يفهم على أنه الأداء. وحتى عندما لا تكون عناصر التقديم، كما هو الحال في استعراض المنوعات، مترابطة منطقيا أو سرديا مع بعضها البعض، يحدث اتحاد فيما بينها. فالبنية موجودة. إذ يجمع الإطار الفعاليات في الزمن. وعندما نتأمل بنية رفع الستارة وإنزالها للوهلة الأولى فربما نعتقد أن الستارة تقفز عبر الزمن، وتربط نقطتين منفصلتين تماما وبالتالي تتضمن كل شيء بداخلها. مثل هذه القفزات عبر الزمن هي احتمالية بنيوية، وسوف أعالجها لاحقا، ولكننا بالفحص الدقيق نجد أن ذلك ليس هو ما يحدث بالضبط في هذه الحالة. إذ عندما ترتفع الستارة، يبدأ شيء. وكل لحظة حاضرة حتى تنزل الستارة يتضمن شعورا بأن هناك شيئا ما يجري. وهذا الشعور يختفي عندما تنزل الستارة فقط.
وربما يحضر الممثلون باستمرار، وبالتالي ينظمون الوقت. بالطبع، هناك أفعال من مختلف الأحجام والمدد. بعضها، مثل طرفة العين، مختصرة جدا لدرجة أنها توجد بالكامل في اللحظة الحاضرة، لكن الأفعال الأخرى، مثل البحث عن القاتل، تمتد في الزمن. أغلب الفعل الإنساني سيكولوجي؛ وبالتالي فإن كثيرا من أحداث المسرحية لها صورة نفسية وأخرى بدنية. وقد تكون طرفة العين رد فعل مفاجئ ليس له بعد ذهني، ولكن الأفعال البشرية الأكبر التي تشكل مادة معظم المسرحيات تنطوي على كل من الدافع والسلوك. بقدر ما يبدو أحدهما مسيطرا أو الآخر، فيمكننا أن نتحدث عن الفعل النفسي والفعل البدني. ولنقول إن الرغبة المكثفة للقبض على القاتل تتجلى بواسطة الشخصية، وربما من خلال الكلمات والإيماءات، ولكن الممثل يفعل القليل جدا بدنيا، ولا يؤدي سوى سلسلة من الأفعال البسيطة غير المهمة. وربما تطارد شخصية أخرى مشتبها به، وتقاتله، وتنتزع منه اعترافا، وما إلى ذلك. في الحالة الأولى من المفيد أن نتحدث عن الفعل النفسي، وفي الحالة الثانية نتحدث عن الفعل البدني، على الرغم من أن كلا الفعلين نفسيان. فاستمرارية بنية الفعل الأول يمكن أن تكون ذهنية، واستمرارية الفعل الثاني إدراكية.
يمكن أداء الفعل بواسطة شخص واحد أو أكثر. وبالتالي ربما تشارك كل الشخصيات في المسرحية في فعل واحد. ولكن يتكون هذا الفعل الضخم من عدة أفعال أصغر. تتناسب الأفعال داخل بعضها البعض مثل الصناديق داخل صناديق. وربما يرمش كثير من العيون أثناء البحث عن القاتل. وهذا يعني أنه من وجهة نظر واحدة، من المحتمل أن يكون أي أداء مبنيا من خلال الاستمرارية عبر زمن تداخل العديد من الأفعال من مختلف السعات أو المدد.
إذا تم تضمين أفعال أصغر وأقصر – كل منها عبارة عن وجود كامل له بداية ووسط ونهاية – فإنها تساعد على خلق أفعال أكبر. إن أكبر فعل في الأداء هو ذلك الذي له أهمية بنيوية. ومن الناحية الفلسفية يمكن الادعاء بأن كل فعل/ صندوق داخل صناديق أخرى حتى تصبح الحياة نفسها الصندوق الأكبر، أو الفعل الأكبر. ولكن يستحيل على أي أداء أن يقدم هذا الفعل. نستطيع بنيويا أن نهتم فقط بالأفعال المقدمة مباشرة بواسطة الأداء، وليس تلك التي، رغم منطقيتها، ربما من المفترض أن توجد بسبب ما هو معطى. فبسبب هاملت مثلا حدثت تغيرات سياسية كبيرة في الدنمارك؛ ويشار إلى هذا الفعل الأكبر، ومع ذلك تبقى طبيعته الحقيقية مسألة تخمين وتخيل.
هذا لا يعني أنه لكي يكون الممثل وظيفيا على نحو بنيوي فلا بد أن يكون داخل المسرحية تماما. في الواقع، إن الاستمرارية الدائمة للفعل هي تلك التي تبدأ قبل رفع الستارة، وتستمر طوال الأداء، وتنتهي بطريقة غير معروفة للمتفرج، قبل نزول الستارة للمرة الأخيرة، يمكنها أن تضم كل التقديم. وبالتالي، على الرغم من أن تأكيد أرسطو على وحدة الحدث الذي يملأ المسرحية ككل يبدو مبدأ بنيويا مهما، فمطلبه بأن يتم تضمين بداية ونهاية للفعل في الأداء هو مسألة تذوق، مما يشير إلى محاولته المستمرة لإنشاء نسق قيم ظاهري يدلنا على المسرحيات الجيدة والرديئة.
 • القوة الدافعة؛ الشكل
يحول التحليل الأدبي الفعل الي عبارة، يفسرها ويسميها، والفعل هو وصفه، ويبدو أنه يوظف بشكل استرجاعي، ان جاز التعبير، خلال قراءة وإعادة قراءة نص المسرحية. وفي تجربة الأداء الفعلية، نعي الفعل عندما نفهم أن شيئا ما يحدث. ولسنا مضطرين للانتظار. ولسنا مضطرين أن نعرف ماذا يحدث. ولسنا مضطرين أن ننتظر إلى نهاية المسرحية، حتى يكتمل الحدث، لكي نفهم أن هناك فعل أو أن نشعر باتجاهية ذلك الفعل. فمن نافذة القطار المسرع، نطل ونرى الفلاح يحرث حقله. وفي تلك اللحظة نعرف الفعل. ونعرف مقدار ما حرثه، والنمط العام لتقدمه، ومقدار ما لم يحرثه – رغم أنه ربما لا ينهي العمل. وقد لا يكون الفعل الدرامي سهل القراءة ولكن تنطبق عليه نفس المبادئ. حتى الوعي اللحظي لأي فعل من أي نوع يتضمن ماضيا أو مستقبلا في بناء الزمن.
يحتوي الفعل علي طاقة تتدفق عبر الزمن لفترة معينة، وهو بطبيعته الإدراكية أو الذهنية دينامي. ويخلق توقعا أو تنبؤا بذلك الذي لم يحدث بعد. مثل القوس الممتد في تجارب علم النفس الجشطالتي التي يُنظر إليها باعتبارها دائرة عندما يصبح الجزء المفقود صغيرا بالقدر الكافي، اذ يطلب الفعل من العقل استكمال الدائرة. فتتحرك الطاقة أو القوة المتدفقة خلال اللحظة الحالية نحو المستقبل. وربما تسمى هذه الطاقة الدينامية “ القوة الدافعة للفعل the momentum of action “. ومثل تيار النهر المتدفق، وربما يتم معاينة هذه القوة الدافعة في نقاط منفردة. ويمكن قياس مدي الإلحاح الذي تضغط به اللحظة الحالية في اتجاه المستقبل.
وبالتالي لم يعد الأمر مجرد سؤال عما إذا كان الفعل يستمر في الزمن من عدمه ولكن في كيفية استمراره. ما مقدار القوة الدافعة التي يملكها الفعل؟ وهل تتغير القوة الدافعة أو تتقلب؟ ما الذي تدل عليه كل لحظة حاضرة فيما يتعلق بالماضي والمستقبل ؟.
تدور الرقصة – لورا دين، أو الراقص أندرو دو جرو، علي سبيل المثال،في أحد عروض روبرت ويلسون – في دوامة بثبات، ويستمر الدوران، وتمر من اللحظة الحاضرة إلى الماضي بدون تغيير. ويمكننا أن نسمي هذا “ الوضع الثابت” لإدراك الحركة : الصورة لا تتغير جوهريا خلال الوقت الممتد. بل تلح، ولكنها لا تعطي أي إشارة للتطور.
يؤدي ستيف باكستون في عرضه “ انجليزي English “، وهو أحد أعماله في الرقص بعد الحداثي، سلسلة من الأوضاع المأخوذة من صورة فوتوغرافية لشخص يمارس الرياضة. تتغير الصورة ولكن الفعل لا يتطور. وكل لحظة متساوية بنيويا وديناميا. ويمكن أن نسمي هذا “ الوضع الانتقالي للإدراك “ الذي تتدفق من خلاله سلسلة اللحظات الحالية، الواحدة تلو الأخرى، دون ابتكار ذكريات أو تجارب عملية.
ولكن الأكثر شيوعا هو أن الفعل يغير الشكل أو التكوين وهو يمتد عبر الزمن. (ولم تُذكر الطرق التي تتغير بها الاستمرارية المادية للشخصية وإعداد المشهد والأزياء، وما إلى ذلك ). وإذا كان الفعل موجودا بالكامل في اللحظة الحالية، فيتم تلقي هذا الشكل كله بالكامل. وإذا استغرق الفعل مدى زمني أطول، فناك احتمال أن لا يُسجل الفعل ككل، في أفعال ممتدة، فالذاكرة ضرورية لفهم التشكيل ككل. ويمكن أيضا ابتكار التوقع والتنبؤ بخصائص المستقبل المتغيرة من مقدار الفعل المدرك.
ولم يعد الرسم البياني الذي يوضح سلسلة من الخطوط المستقيمة أو المربعات ملائما كتمثيل لبنية الفعل. فلا بد أن نفسر شكل الفعل و قوته الدافعة. ويمكن تصور هذه الخصائص علي أنها سلسلة من الأشكال المرنة بأحجام مختلفة موجهة علي نفس المحور، وأحيانا تتداخل جزئيا أو كليا مع بعضها البعض. يتكون شكل كل فعل من عدة أجزاء – أفعال أصغر تتلاءم معا لتكوين الكل. بعض الأشكال (الوصع الثابت) مستطيلة ولا تتغير هي تمتد في الزمن. والأشكال الأخرى (الوضع الانتقالي) تكرر نفس التشكيل مرارا وتكرارا. والأشكال الأخرى (وضع الذاكرة / التوقع) يتمدد ويضيق وينحني ويلتف ؛ لديهم نقاط متفاوتة الحدة، مما يشير إلى قوتهم الدافعة. كل شكل للفعل له مدى محدد ( طول ) وأهمية أو حجم نسبي (عرض). ويمكن رؤية كل فعل، فلا شيء يحجب أو يخفي الأفعال الأخرى.
ورغم ذلك، فان أحد خصائص الفعل لا تزال غير ممثلة في هذا التصور. تتضمن أشكال الفعل علاقة سلبية بين وحداته التي يكون اتصالها الوحيد هو التماس. في الواقع، يؤدي أحد الأفعال إلى آخر في بعض الأحيان، ويمكن أن توجد سلسلة ربط سببية أو تسلسل للأفعال. وهذا ما كان يشير اليه أرسطو في كتاب “ فن الشعر “ ( الفصل العاشر) عندما قال “ يختلف الأمر تماما سواء كان أي حدث في الحبكة، وهو يحاكي الفعل، هو حالة خاصة ( بسببها ) أو حالة أخرى خاصة تأتي بعدها “. لقد كان يلفت الانتباه إلى الفرق بين الأفعال التي تؤدي إلى بضها البعض، والأفعال التي تتتابع أو تتجاور وراء بعضها البعض.
يمكن النظر الي الفعل علي أنه يتكون من أفعال أخرى مرتبة في سلسلة سببية. انه مثل الموجة. فالموجة في لحظة واحدة من نفس الماء مثل الموجة الأخرى بعد بضع ثوان. أنه قوة أو طاقة تتحرك خلال الماء الذي نميزه كموجة. وبنفس الطريقة، ربما تُرى الطاقة أو القوة من خلال الترابط سببيا، لتصنع حدثا أكبر. وتبدو هذه الطاقة أو القوة الاتجاهية الأساس لمفهوم أرسطو للحدث الذي تتم محاكاته بواسطة الحبكة. والحبكة هي تتابع سببي، وخلالها يتدفق الفعل. وعلي الرغم من أن استمرارية الفعل والقوة الدافعة للفعل ليسا مفهومين متطابقين، فهناك علاقة ما فيما بينهما. وق يستمر الفعل لبعض الوقت مع قليل من القوة الدافعة أو بدونها. الطاقة ليست مطلوبة لتشكيل بنية الاستمرارية ؛ فكل من أفعال القوة الدافعة العالية وأفعال القوة الدافعة المنخفضة يحملان معا مدى زمني ممتد. ومع ذلك، فان لحظة طاقة الفعل العالية، التي تدفع نفسها الي المستقبل، قد تسمح للفعل بالاستمرار والإصرار في ذهن المتفرج علي الرغم من عدم تمثيله علي المسرح. وربما تقفز عبر المشاهد التي تتعلق بأشخاص آخرين وأفعال أخرى. وبالتالي، يمكن تقسيم البنيات الممتدة الي صنفين كبيرين : بنيات مستمرة وبنيات متقطعة. ومثل الشرائط الملقاة في الماء – تتضاءل ألوانها وأشكالها عندما تكون تحت سطح الماء، وتتضح عندما تطفو فوق السطح – سواء اعتبرت العناصر الثابتة مستمرة أو متقطعة فهذه مسألة اختيار. وعلي أية حال، كان تماسكها سمة أساسية في بنية الأداء.
• البنية المتقطعة
مع فكرة فعل القفز عبر المواد المتداخلة غير ذات الصلة، بدأنا في تأمل بنية الفعل المتقطع. فعادة ما يتم تقديم المعلومات وتجميعها بواسطة المتفرج بطريقة متقطعة.انه يأتي مثل ومضات مفاجئة أو أجزاء متناثرة بانتظام خلال الأداء مثل سماء الليل المرصعة بالنجوم. ربما تحتوي كل لحظة حاضرة علي العديد من المعلومات أو لا تحتوي علي شيء مطلقا. تضاف المواد التي تم التقاطها في لحظة واحدة، والمواد المحتفظ بها في الذاكرة، إلى المواد التي تم أخذها في وقت لاحق. تُبنى الحقائق حول الشخصيات والمواقف والأفعال وتُجمّع. فأغلب المسرحيات شبكة من المعلومات تعزز وتوضح وتفسر نفسها. وهذه الشبكة التي تجنع العديد من اللحظات الحاضرة المتباينة هي بنية المعلومات.
وفي بعض الأحيان تميل بنية المعلومات نحو الاستمرارية. فإذا كانت هناك حاجة إلى حقائق معينة، فقد يصبح البحث عنها – مثل المخبر الذي يبحث عن الأدلة – عملية مستمرة نشطة تخلق استمرارية من لحظة إلى لحظة. ولكن في أغلب الأحيان يتم تقديم المعلومات بشكل متقطع مثل الشخص الذي يحل لغزا مصورا، إذ يتم تضمين الحقيقة في بنية المعلومات بواسطة المتفرج عندما يكون التكوين صحيحا، ولن لم يكن الأمر كذلك، فسوف يتم التخلص منها، أو وضعها علي جانب واحد، حتى تتلاءم مرة أخرى. ولا تتم هذه الصلات بمعدلات منتظمة. فهي لا تتدفق مثل الفعل، علي الرغم من أن كثير منها ربما يشير الي الفعل ويوضحه. وكما هو الحال في الأجزاء المستقلة في شبكة العنكبوت، يتم إجراء الصلات من نقطة إلى أخرى، إن جاز التعبير، عبر الزمن.
ان التركيب، جزئيا، هو الذي يوجه البحث عن الصلات المعلوماتية. فالتركيب هو القواعد التي تحكم تجميع المعلومات في الاتصال الشفهي. ويمكننا الحديث عن تركيب الأداء بالمعنى الواسع : القواعد التي تحكم تجميع المعلومات من كل العناصر المسرحية – الأضواء والصوت واللون والحركة، بالإضافة إلى الكلمات. ويمكن استخدام كل من هذه العناصر لابتكار علامات لها معنى، وهذه المعاني تتجمع أو تمتزج لكي تشكل معاني أكبر – جمل مسرحية إن جاز التعبير. تنطوي عملية التركيب علي التوقع. فإذا تم إعطاءنا اسما ونوعا معينا من الفعل، مثلا، فسوف يتم توجيهنا إلى توقع مفعولا. واعتمادا علي اسم وفعل محددين، فقد نكون قادرين علي التنبؤ بالمفعول بالضبط. هذا الاستفزاز التركيبي، وتحدي التوقع، علاوة علي صنع الصلة التركيبية عبر الزمن، هو مسألة بنيوية .
الذاكرة والتوقع هما أساس البنية المتقطعة. ولتمثيل البنية المتقطعة لا بد لنا أن نستخدم الأسهم. إذ يمكن أن يشير السهم المتجه إلى اليمين نحو المستقبل في خريطتنا المتخيلة الي أنه قد تم ابتكار التوقع بالمستقبل. وربما نقدم المعلومات التي نشعر أنها مفيدة فيما بعد. وتوجد هذه الخاصية غالبا حتى عندما تنتزع وحدة الأداء من السياق.
ديسار: (مصافحة بالأيدي) السيدة سترانج.
دورا: للأسف السيد سترانج مازال في الجريدة. ينبغي أن يكون في المنزل خلال دقيقة .
ديسار: هل يعمل في أيام الأحد أيضا ؟
دورا: أجل..لا يدخر الكثير من الجهد في أيام الأحد.
 (مسرحية ايكوس تأليف بيتر شافر )
شعرنا أن هذه المعلومات سوف تكون مفيدة، فقد تم انشاء توقع، يمكن تمثيله بسهم. وربما فيما بعد في الأداء، سيصل السهم إلى هدفه : سوف يتم عمل الصلة التركيبية. وحتى لو لم يتحقق التوقع، فبمجرد إنشائه يتحد مع الزمن بطريقة معينة.
وقد يتم تمثيل الذكريات التي تتولد في لحظة معينة في الأداء بالأسهم – وفي هذه الحالة تشير الأسهم إلى الخلف ( باتجاه اليسار ) علي طول خط الزمن. هذه الصلات بالماضي ليست تركيببة بالضرورة. وربما لا تزيد المعلومات المنقولة بأي حال.
ربما يكون تكرار العناصر المتطابقة أو المتشابهة هو النوع الأساسي للبنية المتقطعة غير الدلالية. فعندما يتكرر ظهور عبارة أو إيماءة أو شيء أكثر من مرة، فيكون لديه ميل لاستدعاء توقع ما بأنه سوف يكون هناك تكرار آخر عند نقطة ما. وبالتالي يقفز التكرار علي استمرارية الزمن في كلا الاتجاهين، ويربط النقاط المتفاوتة بطريقة غير منطقية.
بالطبع، ربما يرتبط التكرار أيضا بالمعني والدلالة. فغالبا ما تتكرر كلمة أو عبارة لتأكيد وتوضيح معناها. ومن الناحية الأخرى، يميل التكرار المبالغ فيه والسريع الي تدمير المعنى، فعادة ما تتكرر الكلمة بالقدر الكافي، وتصبح الكلمة هراء غير منطقي أو صوت بلا منطق. وإذا حللنا تجربة الإصغاء إلى ترتيل تريستان تزارا لقصيدة “ زئير Roar” – إذ تتكرر كلمة “ زئير “ 176 مرة علاوة علي السطر الأخير، الذي يقول “ فمن ذا الذي لا يزال يرى نفسه فاتنا “ – فيمكن رسم سلسلة من المعنى/ الهراء / الصوت. وحتى الآن، علي الرغم من أنه يمكن تأمل الخاصيات الدلالية وغير الدلالية بشكل منفصل، فلا يوجد معه التكرار الدلالي. فأي تكرار دلالي له بعد شكلي. ومن الناحية الأخرى ربما يكون التكرار غير دلالي تماما، كما هو الحال في الموسيقى.
أغلب البنيات التي ناقشتها هي بنيات شكلية بشكل محض وغير دلالية. ولا ينقل أي منها في ذاته المعنى. وهذا لا يعني أن البنية ربما لا يكون لها معنى. فالبنية أيضا يمكن أن تصبح علامة مرتبطة بمعنى ما لكي تصبح علامة – وظيفة. فمسرحية “ الحلقة La Ronde” تأليف “ آرثر شنايتزلر”، مثلا، تتكون من عشرة مشاهد، كل مشهد به شخصيتين. يظهر أحد الشخصيات في كل مشهد مع شريك جديد، وفي المشهد التالي ؛ تظهر الشخصية الجديدة بدورها. لا توجد حبكة، ولا حدث ولا سرد. ولا يتضمن المشهد الأخير شخصية جديدة بل الشخصية التي قابلناها في المشهد الأول – الشخصية الوحيدة التي لم يتكرر ظهورها. يكون تطور الشخصيات في دائرة كاملة. هذه الزخرفة غير العادية في المسرحية ربما ارتبطت بالمعنى رغم ذلك. فالحلقة أو دائرة الرقص في العنوان – وفي البنية – يمكن أن تُرى كاستعارة للحياة.
يميل التحليل البنيوي في النحت والرسم الي أن يكون شكليا. ويميل التحليل المسرحي الي أن يكون في إطار المعنى والمضمون. ومثل رسم الطبيعة الصامتة، مثلا، ربما تدور المسرحية حول شيء، ولكن الصور الشكلية لبنيتها نادرا ما يتم تحليلها بدون الإشارة إلى مضمونها. والهدف هنا هو التمييز بين البنيات المعلوماتية ( السيميوطيقية أو الدلالية) والبنيات الشكلية ( غير الدلالية) في الأداء واقتراح منهج ومصطلحات لمعالجة هذا الأخير التي تم تجاوزه وإهماله.
..........................................................................................
• مايكل كيربي (1931-1997) عمل استاذا للدراما في جامعة نيويورك سيتي وله العديد من الكتب أهمها : “ مسرح الوقائع” و “ الأداء المستقبلي”
وعمل محررا مشاركا مع مجلة دراما ريفيو.
• هذه المقالة هي الفصل الثاني من كتاب “ المسرح الشكلي “ الصادر عن مطبوعات جامعة بنسلفانيا عام 1987.


ترجمة أحمد عبد الفتاح