اللغة العربية الفصحى .. لماذا غادرت المسرح.. وما الحل؟

اللغة العربية الفصحى ..  لماذا غادرت المسرح.. وما الحل؟

العدد 655 صدر بتاريخ 16مارس2020

ارتبط المسرح المصري منذ نشأته باللغة العربية الفصحى من خلال تقديم عروض مسرحية معتمدة على نصوص مترجمة عن الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، ثم ظهر بعد ذلك المسرح الشعري بدخول الشعراء والأدباء المصريين مجال التأليف المسرحي مثل أحمد بك شوقي والذي قدم مسرحيات مثل” مجنون ليلى” و”مصرع كليوباترا” و” علي بك الكبير”  وغيرها من المسرحيات التي حققت نجاحًا كبيرًا. وظل هذا الارتباط الوثيق بين المسرح واللغة العربية قائمًا حتى خمسينيات القرن الماضي. ومع بداية السيتينيات وظهور التليفزيون و فرق المسرح الكوميدي، بدأت عروض اللغة العربية في التراجع مقابل زحف العامية على العروض المقدمة، فلنتعرف معًا على أسباب هذا الانسحاب هل هم كتّاب النصوص المسرحية أنفسهم، أم المخرجين، أم تكمن الأسباب عند الجمهور المتلقي، أم هي الثلاثة مجتمعة معًا؟
بدأنا بسؤال المخرج المسرحي خالد عطا الله عن الآليات أو المعايير التي على أساسها يتم اختيار النصوص المسرحية؟  فكشف عن صعوبة اختيار النصوص المناسبة حيث يقول: “طوال الوقت نجد صعوبات في اختيار نصوص مسرحية باللغة العربية تناسب حالة الهواة، وعدم معرفتهم الأكيدة باللغة العربية ودهاليزها من حيث النطق والفهم مما يجعلنا نبتعد كل البعد عن النصوص الناطقة باللغة العربية، وقد قدمنا بعض الحلول ولكنها حلول تُفقد النص المكتوب مصداقيته، وتخلق خلل في الدراما المكتوبة أو الحبكة المسرحية للنص .. وكان من ضمن هذه الحلول “تمصير النصوص” لكي تكون منطوقة باللهجة العامية فتصبح أسهل على الممثل وأحيانًا لكي تصبح أسهل أيضًا على المتلقي .. ولكن لم يكن ذلك هو الحل الأمثل.  فقد قدمت مسرحية “مسافر ليل” وهي باللغة العربية  الفصحى، بالإضافة إلى أنها تنتمي إلى المسرح الشعري قدمتها كما هي و الذى ساعدني على تقديمها كما هي، هو قلة عدد الشخصيات المسرحية فى النص،  فعناصر التمثيل المسرحي والشخوص فيها لا تتعدى ثلاثة شخوص .. لذلك كان من السهل اختيار الممثلين وهم قلة من الهواة القادرين على الإمساك بدهاليز اللغة، هذا بالإضافة إلى أن نص مسافر ليل بسيط من حيث اللغة رغم شاعريته. وأضاف أنه من وجهة نظره يرى جزءا من الحل في وجود ورش خاصة باللغة لحل مشكلة اللغة عند  السواد الأعظم من هواة المسرح والشباب، مع التركيز على الإعراب للجمل والضبط اللغوي، وأن تعمم هذه الورش على كل فرق الأقاليم وفرق الهواة والشباب. ومن الناحية الأخرى لا بد من خوض غمار التجارب باللغة العربية سواء المترجم منها أو المحلي لكي يعتاد الفاعلون وهم الممثلين على اللغة وخوض غمارها . لأن وجودهم في التجربة سوف يساعدهم على النطق الصحيح . وأضاف:  هناك بعض المخرجين يستعينون بمصحح لغوي لكي يضبط اللغة ويصححها للممثلين وهذا يعتبر حلا مؤقتا وليس دائما يستأصل المشكلة من جذورها.
واستطرد عطا لله: “الخوف من الخوض من نصوص اللغة العربية لعدم الاطلاع والممارسة، بالإضافة إلى تدني الذوق العام . وأعتقد أن الميديا وما يقدم على الإنترنت للشباب قادر على هدم أي تذوق للغة الفصحى. هذا بالإضافة إلى البعد عن الاطلاع والقراءة لأن المعرفة الآن أصبحت سهلة وسماعية أكثر منها مقروءة..
وعن سؤاله عن المقارنة بين جيل الرواد مثل زكي طليمات وعبد الوارث عسر ويوسف وهبي وغيرهم وبين الأجيال الحالية للمسرح، وعن تمكن جيل الرواد من اللغة تحدثًا وإلقاءً مقارنة بالأجيال الحالية، أرجع السبب في ذلك إلى أن هؤلاء العظماء كانوا يعرفون  قيمة اللغة .وكانوا قادرين على الاطلاع وزيادة المعرفة بالإضافة إلى تجاربهم الكثيرة وحبهم وإيمانهم بما يقدمون، هذا بالإضافة إلى أن الذوق العام وقتها كان يستوعبهم، ويعرف قيمتهم كفاعلين ومؤثرين فى المجتمع، و يعتبرهم قدوة. أما الآن ... فأين نحن؟
أما الأستاذ أبو العلا السلاموني فأرجع سبب فصاحة جيل الرواد قديمًا إلى المدارس التي كانت تقدم من خلالها أنشطة فنية وأدبية تعني بما يسمى جماعة الخطابة والإلقاء، يتدرب فيها الطالب كيف ينطق اللغة العربية الفصحى نطقًا صحيحًا، دون أخطاء  و نادى السلاموني بضرورة العودة إلى مثل هذه الأنشطة داخل مدارسنا، للحفاظ على لغتنا القومية لدى الأجيال الصاعدة. أما بالنسبة لفرق هواة المسرح فيمكن لكل فرقة أن تستعين بأحد المتخصصين فى اللغة العربية ليقوم بتدريب الفريق على أداء المسرحيات ذات اللغة العربية الفصحى، كمسرحيات توفيق الحكيم على سبيل المثال.
أما الكاتب المسرحي أحمد سراج فقد رأى أن مشكلة التمثيل بالفصحى لها مستويان، المستوى الأول نطق الكلمات والجمل، والمستوى الثاني أداء هذه الكلمات والجمل فنيًا.
ويرى أن ضعف البناء اللغوي للممثل، وعدم ضبط الكلمة من الأساس،  أو حفظ الممثل للكلمة بشكل خاطئ مع عدم العناية بقواعد علم اللغة (الصوتيات) تلاحق الكلمات وتخفي المعنى.
وبسؤاله عن كيفية التغلب على هذه المشكلة، أكد ضرورة تسليم النص مشكولًا من البداية بالإضافة لاختيار الممثل المناسب، وكذلك الاهتمام ببروفات الترابيزة، ووجود مدقق لغوي، والبروفات الفردية، وأوضح أن الكفاءة اللغوية ليست مكلفة لكنها بحاجة إلى اتباع مخلص لقواعد العمل الأساسية حيث لا وجه للمقارنة بين قراء العقاد وطه حسين والجارم والمنفلوطي، وأجيال اليوم المنكوبة بكتابها، أو بالمقارنة بين ما كان الطالب يدرسه في الثلاثينيات مثلًا، وما يدرسه الآن، ولننظر لنهضة المسرح قبل ثورة يونيو وبعدها. الآن هناك تعليم لا يحقق الكفاية، وثقافة تهمل الهوية لا مشروع متكامل.
وبتوجيه نفس السؤال إلى دكتور فهمي الخولي عن أسباب غياب العربية عن العروض المسرحية الحديثة، كلمنا أولًا على أهمية اللغة العربية بوصفها اللغة التي وحدتنا جميعًا كوطن عربي، ويرى أنه في فترات الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات كانت الفصحى هي المسيطرة على المسرح على الرغم من انتشار الأمية، وأضاف أن نسبة الأمية في المجتمع المصري كانت تصل إلى ثمانين في المئة، ورغم ذلك كان الجميع يعشقون اللغة الفصحى ويفهمونها بفضل انتشار الكتاتيب في القرى والأحياء الشعبية والنجوع،  حيث كان هناك شيخا معمما عليما بقواعد اللغة والقرآن يعلم الأطفال كيف يقرأون القرآن قراءة  سليمة ويهيئهم لاستقبال اللغة العربية بطريقة محببة، ولكن للأسف تغير الحال حين بدأت وزارة التعليم تتخذ مناهج مغايرة لدراسة اللغة العربية،  وبدأت تهمل أصول القواعد بهدف تسهيل تعلم اللغة على التلاميذ واتجهت إلى استخدام مفردات سهلة بسيطة، فاندثرت مفردات كثيرة للغة الفصحى، وأصبح مثلًا كثير من معاني الشعر الجاهلي منغلقة على الطلاب، فأصبحوا يكرهون الفصحى ولا يقتربون منها، وأشار إلى الدور الكبير الذي لعبه رواد الإذاعة المصرية من تقديم برامج للغة العربية الفصحى مثل برنامج عميد الأدب العربي طه حسين، وبرنامج الأستاذ فاروق شوشة وانتشار استوديوهات الدراما الإذاعية التي كانت تصدر لجميع بلدان الوطن العربي حينها. تابع : ولكن للآسف مع ظهور التليفزيون وفرقه كان الاهتمام بما يسمى “بالمسرح الكوميدي” رغم أنه كانت هناك ثلاث فرق للمسرح العالمي وثلاث فرق للمسرح الحديث وثلاث فرق للمسرح الكوميدي وفرقة لمسرح توفيق الحكيم لكن انتشرت مسرحيات الكوميدية من خلال نجوم الكوميديا في مصر آنذاك مثل فؤاد المهندس الذي كان على الرغم من كونه ابنا للدكتور زكي المهندس الذي كان عضوًا في المجمع اللغوي، فإنه لم يقدم عملًا فصيحًا، وأشار الخولي  أيضا إلى أمين الهنيدي وكيف أنه كان متمكنا تمامًا من الفصحى، وأنه بعد انتشار المسرح الكوميدي أصبح لا يقدم إلا أعمالًا بالعامية الدارجة وتحول جمهور المسرح من الفصحى إلى العامية، مما دعى كاتب كبير مثل على أحمد باكثير إلى كتابة مسرحية” حبل الغسيل” والتي ناقشت هذه القضية وهي التحول من الفصحى إلى العامية، حيث كانت هذه الفترة هي بداية الانتقال أو الانحدار – على حد قوله-  من الفصحى إلا العامية في المسرح المصري، وأصبحت الفصحى لغة مهجورة إلا عند بعض البرامج المتخصصة التي تذاع في البرنامج الثقافي وفي بعض البرامج العلمية. وبسؤاله هل يرى أن سبب التراجع هو الجمهور نفسه؟ ذكر أنه حين قدم مسرحية “الوزير العاشق” للشاعر الكبير فاروق جويدة التي كانت بطولة سيدة المسرح العربي سميحة أيوب وعبد الله غيث كان متخوفًا من الجمهور الذي تعود على المسرحيات التي تقدم بالعامية، ولكنه اكتشف أن الجمهور كان متشوقًا للغة الفصحى وكان راغبا تمامًا في سماع الشعر ممن يجيدون إلقاءه بلغة سليمة معاصرة. وأن المسرحية نجحت نجاحا كبيرا فاق توقعاته بكثير لأنها كانت بلغة سهلة بسيطة معبرة وأنه ما زال يتذكر أبيات كثيرة علقت بذهنه وذهن الجمهور، مثل:
يعز علي يا وطني
أراك الآن أشلاء تمزقها أيادينا
فمات الصبح في عيني وليل اليأس يشقينا
وآه منك يا وطني
ستبقى الجرح في صدري
جراحا قد نداويها وتأبى أن تداوينا.
تابع: فالأبيات كلها بلغة سهلة بسيطة مفهومة وفصيحة. وطالب الخولي أن يكون هناك فرقة للمسرح الشعري، لا تقدم إلا المسرح الشعري الحديث لجميع شعرائنا، وأكد أن أي شاعر مصري أو عربي لا يأخذ الكارت الأخضر ويصبح شاعرا إلا عندما يكتب للمسرح لأنه جواز مروره كشاعر.
وأوضح أيضًا كيف أن مسرحيات صلاح عبد الصبور ذات اللغة البسيطة المفهومة للأمي والمتعلم، كانت تقابل بنجاح كبير لدى جمهور ليس متخصصًا في الشعر، وكانت بساطة وسلاسة اللغة والأبيات من أهم أسباب النجاح وذكر لنا أبياتا منها مثل:
في بلد لا يحكم فيه القانون
يمضي فيه الناس إلى السجن بمحض الصدفة
لا يوجد مستقبل
في بلد يتمدد في جثته الفقر كما يتمدد ثعبان في الرمل
لا يوجد مستقبل
في بلد تعرى فيه المرآة كي تأكل
لا يوجد مستقبل
وبسؤاله ألم تفكر في تكرار عروض مسرحية ناجحة قدمت من قبل؟ أشار إلى  أنه لا يحب تكرار الأعمال ولكنه تمنى في قرارة نفسه لو إعادة تقديم مسرحيات مثل “الوزير العاشق” و”النسر الأحمر” و” وطنى عكا” و”الفتى مهران”.
أشار أيضا إلى  أنه  حين قدم عرض”لن تسقط القدس” بطولة نور الشريف وعفاف راضي ولقاء سويدان، طلبتها أكثر من ست دول عربية تفتتح بها مهرجاناتها منها سوريا والعراق وتونس وقطر والجزائر واليمن، فكانوا أول فرقة مصرية تزور اليمن، وأو ضح أن هذه الدول طلبت العرض بعد ما قرأته من النقاد، وليست مصر هي التي رشحتها، وهو  الشيء نفس الذي حدث  مع مسرحيتي “الوزير العاشق” و “سالومي”  وقد مثلت هذه الأعمال مصر في العديد من الدول العربية.
وطالب الخولي أن يكون هناك فرقة للمسرح الشعري، لا تقدم إلا المسرح الشعري الحديث بلغة عربية بسيطة مفهومة محببة.
وأخيرًا، حين سألناه عن تفسير هروب المنتجين من إنتاج عروض مسرحية باللغة العربية الفصحى أو حتى تكرار عروض فصيحة  نجحت من قبل، كضمان لنجاح قادم؟ أرجع السبب إلى سيطرة القطاع الخاص على الفضائيات، وإلى تخوف المنتجين والقيادات المسرحية في مصر حيث أصبح أهم ما يشغلهم هو فكرة النجاح الجماهيري فقط، والنجاح الجماهيري يعني أن المسرحية قريبة من الهزل ومن الإضحاك ومن الكوميديا. الكل يجري وراء الربح دون النظر إلى المضمون.


هبه الورداني