تاريخ المسرح المصرى وتأثره بالتطورات السياسية ما قبل البدايات

تاريخ المسرح المصرى وتأثره بالتطورات السياسية ما قبل البدايات

العدد 652 صدر بتاريخ 24فبراير2020

 يخطئ من يظن أن الفن وليد المتعة والتسلية فقط، ربما كنت من الفئة التى تؤمن أيماناً راسخاً بأن الفن بوجه عام، والمسرح بوجه خاص، مرتبط وبشكل كبير، بالتعبير عن جميع أوجه الحياة الأساسية، والفرعية، والتعبير عنها، ونجاح أى عمل فنى بوجه عام، يكون أساسه هو التفاعل والتلاحم مع المشاكل والأحلام والظروف الحياتية، التى يمر بها جمهور هذا الفن، لهذا جعل أرسطو الشعر فى مقام أعلى وأصدق من التاريخ، لأن المؤرخ يذكر ما يشاهده دون تحليل، أما الشاعر - ويقصد من ضمن الشعراء كتاب المسرح - فهو يحلل ويكتب نتيجة نظرته التحليلية، لهذا يرى أرسطو أن الشاعر أصدق فى النظرة العامة من المؤرخ، وهذا تماماً ما ينطبق عن تاريخ وتطور المسرح المصرى، الذى أرتبط ارتباطا كبيراً بتطور الأحداث السياسية، والاجتماعية فى مصر، والتى كانت مصاحبة فى أغلب الفترات بالاحتلال الأنجليزى لمصر، والرغبة من التخلص من هذا المستعمر، حتى إن كثير من الكتاب والمؤلفين، وأصحاب الفرق، عانى من اضطهاد القوة الحاكمة، ومطاردة جنود النظام فى الأحقاب التاريخية المختلفة، بدء من مماليك، وعثمانيين، أوجنود الاحتلال الأنجليزى.
ولا استثنى من هذا البدايات الأولى التى حملت فى داخلها بعض الملامح المسرحية, فحتى هذه الأعمال ارتبطت ارتباطا وثيقاً بالأحداث التاريخية والسياسية والاجتماعية التى كانت تدور حولها، ومن هنا أبدأ.
ما قبل البدايات الحقيقية للمسرح
خيال الظل وعلاقته بالنواحى الاجتماعية والسياسية:
 ربما كان خيال الظل أحد العناصر التى أخرت لفترة طويلة ظهور فن التشخيص البشرى فى العالم العربى، ويرجع ذلك إلى أن هذا الفن كان يحظى بشعبية كبيرة، ليس بين جماهيره فحسب، ولكن أيضاً بين الحكام اللذين عاصروه، وبقدر عشقهم له، بقدر ما كانت هناك رهبة منه، لتأثيره المباشر و الكبير على جمهور هذا الفن، لأن لاعبى خيال الظل، كانوا يضيفون من عندهم بعض الجمل والمواقف التى تداعب جمهور هذا الفن، والتى ترتبط بهم وبالمشاهدين، ومنها عبارات كانت تنقد الأوضاع المعيشية والاجتماعية، مما كان يزعج فئة من الحكام وقتذاك.
ومن مميزات مسرح خيال الظل أنه حل المعادلة التى ظلت باقية حتى بعد اندثار مسرح خيال الظل وظهور المسرح البشرى، وهى مشكلة ظهور المرأة على خشبة المسرح.
وقد تعددت المقولات حول موطن خيال الظل، ولكننا هنا لسنا بصدد مناقشة أصوله التاريخية، فالذى يعنينا هو علاقته بالنواحى السياسية والتاريخية والاجتماعية، وقد أشارت العديد من المراجع إلى أن مصر هى التى أخذت خيال الظل عن الأتراك، إلا أن هناك دلائل أخرى تشير إلى أن الأتراك هم من أخذوا خيال الظل عن مصر1, ذلك أن السلطان سليم الأول شاهد لاعبى خيال الظل فى مصر فى عام 923 هـ “ فلما جلس للفرجة قيل أن المخايل صنع صفة باب زويلة، وصفة السلطان طومان باى عندما شنق عليه، وقطع به الحبل مرتين، فأنشرح السلطان سليم الأول لذلك، وأنعم على المخايل فى تلك الليلة بثمانين ديناراً، وخلع عليه قفطاناً مخملاً مذهباً، وقال له، إذا سافرنا إلى إسطنبول فأمض معنا، حتى يُفرج ابنى على ذلك، ورغم أن ابن أياس نفسه تشكك فى حقيقة هذه الرواية، إلا أن كل الأحداث والمراجع لم تشير إلى وجود أى علاقة تاريخية وثقافية جمعت بين مصر وتركيا قبل سليم الأول، ومن المرجح أن هؤلاء اللاعبين قد تم نقلهم بالفعل لتركيا، بدليل أن خيال الظل التركى، قد أستعار بعض الأسماء والشخصيات المشهورة فى خيال الظل المصرى.
ويقول إدوار لين فى كتابه المصريين المحدثين وعادتهم فى منتصف القرن التاسع عشر، أن فن خيال الظل كانت بدايته فى القصور، ثم تحول بعد ذلك إلى قهاوى الأزبكية، كما كان يقدم فى الأفراح وأثناء تجمعات المصريين فى الأعياد أو فى مواسم الحج، ويمتد منها إلى الساحات والقهاوى خاصة، ومن هنا نلمس أن خيال الظل بدأ كفن أرستقراطى، ثم أنتشر بعدها ليكون هو الفن الشعبى الأول للمصريين، وأعتقد أن هذا الفن، أو أى فن آخر، لو ظل محتفظاً بارستقراطيته، لما أمتد حتى اليوم.
وما حدث مع خيال الظل ومع الأراجوز فى مصر يعبر عن الشخصية المصرية .. فقد أمتزج خيال الظل الوارد إلى مصر من الهند، أو اليابان، أو الصين، بروح الشخصية المصرية حتى يمكن أن نقول أن المصريين، أعادوا تشكيل المفردات الأساسية لهذا الفن ومزجوه بروح الشخصية المصرية، التى أعادت صياغته، ثم صُدر منها، إلى سائر دول أوربا بهذا النموذج المصرى، وقد عرف العرب خيال الظل في العصر العباسي ودخل إلى مصر في العصر الفاطمي.
وعن مدى تأثير خيال الظل أذكر تلك الواقعة التى حدثت مع السلطان صلاح الدين، ذلك أن بعض المشايخ قد ذهبوا إليه يرجونه أن ينقذهم من هذه البدعة التى تفسد الأخلاق والمسماه بخيال الظل، فنزل صلاح الدين، وحضر عرضا لخيال الظل مع وزيره القاضي الفاضل، فلما انتهى العرض سأله صلاح الدين: كيف رأيت ذلك؟ قال القاضي: رأيت موعظة عظيمة، رأيت دولا تمضي ودولا تأتي ولا تعود، وربما كانت هذه الحادثة هى التى جعلت أحمد تيمور يقرن نشأة خيال الظل فى مصر مع العصر الفاطمى، “ أنه كان من ملاهى مصر أبان العصر الفاطمى2.
وفى أشارة أخرى تشير إلى سيطرة خيال الظل، على الساحة .. نجد أن أحد السلاطين يغرم بخيال الظل ولا يستطيع أن يفارقه وهو يقوم بفريضة الحج، فقد روى عن السلطان شعبان، أنه أولع بخيال الظل حتى حمله معه مع ما حمل من الملاهى عندما حج عام 778 هـ . فأنكر الناس عليه ذلك 3
ومما يدل على رواج خيال الظل، تلك الرواية التى تسجل اضطهاد السلطان للقائمين عليه، فقد ذكر المؤرخين فى حديثهم من عام 855هـ . أن السلطان “ جقمق “ أمر بأبطال اللعب بخيال الظل، وأحرق شخوصه، وكتب على اللاعبين العهود بألا يعودوا إليه4.
وهذه الرواية تؤكد أن خيال الظل فى هذا العهد لم ينحصر دوره على التسلية فقط، بل تعدى هذا الدور إلى الجانب النقدى السياسى والأجتماعى، وكان له شعبية مؤثرة مما دفعت لسلطان البلاد بأن يقوم بمنعه ومصادرة عرائسه، مما يثبت أنه كان وسيلة مؤثرة للنقد الاجتماعي، وبالتالي لعب خيال الظل دوراً مهما فى الحياة الاجتماعية المصرية، كما شارك في إحياء الاحتفاليات المختلفة مثل الموالد والأعياد وحفلات الزواج .
الأراجوز:
 أحذر الباحثين، عند التعامل مع المراجع الأجنبية بل وكثير من المراجع المصرية، بوجود خلط بين الأراجوز وخيال الظل،، فكلمة أراجوز أطلقت فى تركيا على خيال الظل، على عكس مصر، وهذا ما أحدث الخلط بينهما، وربما لهذا تشير أغلب المراجع أن كلمة أراجوز ذات أصل تركى، اعتمادا على أن أصل كلمة أراجوز هى الكلمة التركى ( Karagöz ) ، فهى كلمة مركبة من لفظين قره ومعناها أسود، وثانيهما لفظ جوز بمعنى عين، وعلى ذلك يكون معنى كلمة قراجوز هو العين السوداء، ولكنهم يختلفون بعد ذلك لم سمى ذلك، يرى البعض أنه سمى العين السوداء لأن اللذين يقومون به كانوا من الغجر، والغجر سود العيون، ويرى البعض الأخر أنه سمى بالعين السوداء لأنه ينظر على الحياة بعين سوداء، أو من خلال منظار أسود.
فالقراجوز يقوم على الشكوى من الحياة ومشاكلها، ونقد أحوالها، ويرى المستشرق الالمانى ليتمان أن كلمة قراجوز تحريف تركى للاسم العربى “ قراقوش “ الذى كان يسمى به أحد الوزراء فى العصر الأيوبى، والذى أشتهر بالظلم، وبالغ بعض المؤرخين فى وصفه بالظلم والجور، حتى أصبح لفظ قراقوش رمزاً للظلم، فبعد ان أنتهى حكم قراقوش أخذت الجماهير تسخر من مظالمه، وتتندر بسلوكه الجائر . وأمعاناً فى الانتقام من ذلك الحاكم الجائر، فقد أطلقت الجماهير على الشخص الذى يمثل هذه السخرية لفظ قراقوش الذى حرف إلى قرجوز، بفضل التأثير التركى ثم حرف بعد ذلك إلى أراجوز بفضل تأثير أهل المدن المصرية5، وأرى أن التفسير الأخير، هو التفسير الأكثر أقناعاً
وهذا الفن كان موجوداً قبل الغزو العثمانى لمصر ( 1517 ) وقد إزدهر هذا الفن بمصر فى أواخر العصر المملوكى (1250 - 1517) وهذا الفن أستخدم أساسا للتعبير عن مشاكل اجتماعية وفى بعض الأحيان كان يعبر عن حس وطنى سياسى للشعب المصرى إلا أن كثير من المراجع تؤكد أن الأراجوز كان فن فرعونى أصيل بل ترجع تسمية أراجوز إلى الكلمة الفرعونية التى تطورت فى اللغة القبطية إلى Erougos وهى بمعنى الذى يصنع‏ ‏كلاما‏ ‏معينا ومنها‏ ‏اشتقت‏ ‏كلمة أراجوز العامية‏ ‏الشائعة، ويقال أن النساء كانوا يحملن بعض عرائس الأراجوز تندراً ورغبة فى الإنجاب، أو ربما للدلالة على الأيمان بالبعث.
الذى يهمنا هنا أن الأراجوز كان أداه لنقد الحكام والتعبير عما يجول فى سريرة الإنسان المصرى، عبر ردح طويل من الزمن، مما جعل بعض الحكام يشدد الخناق على لاعبى الأراجوز ( وكذلك خيال الظل ) لتحوله للنقد الاجتماعى والسياسى الذى كان متواجداً عبر الفترات الزمنية المختلفة.
هناك أشكال شبه مسرحة أخرى، انتشرت على الساحة المصرية قبل تقديم أعمال مسرحية بشرية بشكل كامل نذكر منها: صندوق الدنيا، والمداحين، والحكائين ومنها:
التحبيشات والفارسات المصرية : ينقل لنا لنداو مشاهدة الإيطالى بلزونى على عملين من اعمال الفارس المصرى شاهدهما فى حفل زفاف عام 1815 فيقول
 وكان الموضوع يدور حول أحد الحجاج، أعتزم السفر إلى مكة، وأوعز إلى جمال أن يؤمن له شراء جمل يسافر به، فقبل السمسار مشترطاً ألا يسعى الحاج إلى معرفة مصدر الشراء، مستهدفاً من ذلك المبالغة فى السعر، ولما تمت الموافقة، وأحضر الجمل، - الذى هو عبارة عن شخصين غُطيا بقطعه من القماش، وجده الحاج هزيلاً، ولا يصلح لتلك الرحلة، فرفض أستلامه , وطلب برد نقوده، وهنا وقعت مشاده عنيفه بين الحاج والسمسار، مر خلالها صاحب الجمل الحقيقى الذى دُهش حين لم يجد الجمل المباع لتلك الغاية، فتبين حقيقة السمسار الذى لم يكتف برفع سعر الجمل، بل قام باستبداله بأحد الجمال الهزيلة، وعقاباً له ينا ل هذا السمسار علقة ساخنة هرب على أثرها جارياً6
ويقول بلزونى إن جمهور المتفرجين على المسرحية كان شديد الابتهاج بها، حتى بد له أن شيئاً فى العالم لا يمكن أن تدل فرحته .. وبعد ذلك قدمت مسرحية قصيرة على سبيل الختام . وفيها ظهر أحد أولاد البلد وهو يصطحب سائحاً أجنبياً إلى بيته، مستضيفاً إياه لوليمة طعام، وأبن البلد هذا فقير، ولكنه يريد أن يظهر بمظهر الغنى، فأصدر أوامره إلى لزوجته بأن تذبح للضيف شاه، فتختفى الزوجة ثم تعود لتعتذر , بان الشاه قد جنحت، وأن القبض عليها يحتاج إلى وقت طويل، فيأمرها بأن تذبح شيئ من الطير، فتعتذر بعذر شبيه بسابقه، فيأمرها بذبح شيئ من الحمام، فتعتذر ايضاً ن إلى أن ينتهى الأمر بتقديم المش والخبز للضيف.
الممثلون الهزليون ( السماجة) وهم مجموعة من الممثلين الهزليين يقلدون بعض أفعال الناس ويمثلونها فى حركات بهلوانية فى مظاهر مضحكة .
وتصادف أن دخل إسحق بن إبراهيم، على المتوكل فى يوم نوروز، فوجد هؤلاء السماجة بين يديه، وقد قربوا منه للقط الدراهم التى تنثر عليهم، وجذبوا ذيل المتوكل . فلما رأى أسحق ذلك، ولى مغضباً ! وهو يتمتم « أف، وتف ! فما تغنى حراستنا المملكة مع هذا التضييع ! «
ورآه المتوكل قد ولى فقال : ويلكم، ردوا أبا الحسين، فقد خرج مغضباً ! فخرج الحجاب والخدم خلفه. فدخل وهو يُسمع وصيفاً وزرافة كل مكروه، حتى وصل إلى المتوكل . فقال «ما أغضبك ولم خرجت « فقال : « يا أمير المؤمنين عساك تتوهم أن هذا الملك ليس له من الأعداء مثل ماله من الأولياء ! تجلس فى مجلس يبتذلك فيه مثل هؤلاء الكلاب تجاذبوا ذيلك، وكل واحد منهم متنكر بصورة منكرة، فما يؤمن أن يكون فيهم عدو، وقد أحتسب نفسه ديانه وله نية فاسدة، وطوية ردية، فيثبت بك ! « فقال المتوكل « يا أبا الحسين، لا تغضب فو الله لا ترانى على مثلها أبداً « . وبنى المتوكل بعد ذلك مجلس مشرف ينظر منه للسماجة .
وهكذا لم يتخل المتوكل عن حبه لتمثيل السماجة، وأنما صنع لنفسه مقصورة يرى منها العرض عن بُعد . أى أنه بنى مسرحاً بدائياً . ممثلوه هم السماجة ومتفرجه الوحيد هو المتوكل .
ورغم أن أعمال هذه الفنون الأخيرة لم تتفاعل مع النواحى السياسية والاجتماعية، إلا أنها تشير إلى وجود بوادر مسرحية مصرية، قبل مارون النقاش، أو غيره من المسرحيين الأوائل، بوادر تؤكد رغبة المصريين فى وجود فن جديد بينهم، هو فن المسرح، وواضح أن الأراجوز وخيال الظل، كانوا أكثر شعبية وقتذاك، لقدرتهم التفاعل مع الجماهير، فلم يكن غرض الأراجوز وخيال الظل مجرد الإضحاك أو السخرية، عكس الفارسات المصرية.
ورغم الاضطهاد الذى كان يعنيه لاعبى خيال الظل، والأراجوز، إلا أن تأثيره على المتلقى المصرى كان كبيراً، وأكثر كثيراً من أكذوبة مسرح الحمله الفرنسية، وهذا ما سنتعرض أليه فى المقالة التالية.
الهوامش
1 - ربما هذا الأمر مرجعه الخلط بين خيال الظل والأراجوز الذى أخذه العرب عن الأتراك .. فمعظم المراجع الأجنبية تخلط بينهما
2 - أحمد تيمور – خيال الظل ص 22
3 - الدكتور عبد الحميد يونس – مرجع سابق - ص 21
4 - الدكتور عبد الحميد يونس – مرجع سابق ص 22
5 - إبراهيم حماده – خيال الظل وتمثليات أبن دانيال – ص 76
6 - لاندو – تاريخ المسرح المصرى – ترجمة الدكتور يوسف نور عوض – دار القلم – بيروت – بدون - ص49


سمير حنفى محمود