العدد 650 صدر بتاريخ 10فبراير2020
تشهد التصفيات الإقليمية للعروض المُقدمة لمهرجان نوادي المسرح هذا العام، على طابع رئيسي ينمو دورةً بعد دورة، وهو الولع بالتجريب، سواء على مستوى الرؤية الإخراجية بشكل كبير، والتعبير الدرامي بشكل أقل نسبيًا، ويزدادُ هذا الولعُ بالتجريب؛ في العروضِ التي تنتمي لمحافظات الشمال عنها في الجنوب، بل تساهم المكونات الطبيعية والاجتماعية للجنوب؛ بنصيب ليس بقليل في طبع التجريب بخصائصها الفريدة والمُميزة عن باقي ربوع مصر.
الأقصر والبحر الأحمر
“ياسين العبادي”
قدم نادي مسرح قصر ثقافة الطود بالأقصر عرض “ياسين العبادي” ، من تأليف الكاتب الكبير أحمد أبو خنيجر، وإخراج جمال يونس، ولكن ما شاهدناه على خشبة المسرح يضع المخرج والكاتب في اتهام رئيسي: إلى أي درجة اختلف نص ياسين العبادي عن ما قدمه نجيب سرور منذ أكثر من نصف قرن في رائعته ياسين وبهية؟
اجتهد الممثلون في استنطاق الشخصيات، ولكن المخرج غابت لديه القدر على إحكام رؤيته على عناصر المنظر المسرحي، فلم تكفِ صورتا الرجلين مفتولي الشارب للإيفاء بدور الديكور في العرض، فحمل الممثلون مسؤولية شغر الفراغ المسرحي، خاصة وأن عدم إجادة تقنيات الصوت شتّتَ التواصل بين المتلقي والعرض.
منزل شهاب النجار
لم تتلاشَ مشكلة تعبير مفردات الديكور عن العرض، في مسرحية منزل شهاب النجار، فقد ظهرت بشكل جلي أزمة في الانتقال من حدث إلى حدث آخر، بينما المنظرُ ثابتٌ عند تكوين المقهى الذي لم يستطع تصميمه الطبيعي أن يواكب الحد الفاصل بين الزمن الواقعي والزمن الفانتازي في النص عند اللقاء مع الشيخ الشهاب النجار الذي يمارس السحر من أجل تحقيق مطامع شخصية، كما سقط المخرج في شرك الوعظية وتقديم نصائح مُباشرة للجمهور من أجل مواجهة ظاهرة أطفال الشوارع، رغم أنه كان لديه من المساحة الدرامية والزمنية -غير المستغلة- أن يُضمن ذلك داخل دراما العرض.
قنا
نص دايرة
ركز المخرج أحمد حسين الصراع في عرض «نص دايرة» على الفتاة والعراف، مُستخدما من تباين ألوان الملابس: الأبيض للفتاة والأسود للعراف؛ دلالة ترمز للإقدام وحرية والاختيار، وأخرى للاستسلام والخنوع. وقد قدم الكاتب علي عثمان مجموعة من الأفكار المتسلسلة تسلسلا منطقيا حول الإرادة الإنسانية، على لسان شخصيات ترتدي لونًا رماديًا محايدًا، وهي ترمز للأفكار التي تدور داخل عقل الفتاة محور الصراع، فالدراما تتأرجح بين الصراع النفسي، والمحاجاة الذهنية، ثم تنتهي بالانتصار لمجموعة من القيم مثل التعاون والشجاعة وتحمل المسؤولية، ورغم بروز وعي -وإن كان تقليديًا بعض الشيء- بمفهوم السينوغرافيا ومدى أهمية تعبيرها عن العرض، إلا أن بعض الموتيفات فقدت سيطرة المخرج عليها، فغاب التفاعل مع بعض عناصر المنظر المسرحي، ما جعلها تبدو وكأنها مهملة أو زائدة عن الحاجة.
اللحاد
إن المغامرة التي يقودها عربي الجندي في نص صعب لعبد الفتاح رواس قلعه جي؛ جديرة بالتقدير، خاصة وأنه لم يرهق المسرح بحمل زائد عن حاجة الصورة المسرحية، أو خارج على السيطرة، بل عبّر بوعي عن الصراع بين اللحاد والرسام، محاولا القبض على المضمون الفلسفي لمفهوم الحياة، فيدور الصراع في لحظة زمنية مُبهمة بين الرسام واللحاد حول ماهية الوجود والعدم، في حوار محاكمي؛ يتخذ فيه اللحاد رمزية الموت، والرسام هو الحياة التي مهما بلغت حقيقتها فإنها تظل صغيرة متضائلة أمام سطوة وجلال الموت الذي سيبتلع كل شيء في النهاية، وإن اتفقنا أو اختلفنا حول هذه النظرة العدمية للعالم، فإن عبد الفتاح رواس في نصوصه يمثل امتدادًا للنزعة الكافكاوية في الدراما والتي ترى أنه رغم كل ما حدث وما يحدث وما سيحدث فيما بعد، فإنه لا شيء باقٍ حتى النهاية.
المنيا
آخر ساعة
بعيدًا عن النص الأصلي لأحمد سمير الذي يحمل عنوان «المصحة»، فإن المخرج مهند المهدي أعاد رؤية «المصحة» من جديد، من خلال فلسفة الزمن، فعندما تؤول الأمور إلى النهاية، تكشف عن وجهها الحقيقي، من منطلق أن الزمن سرمدي، بينما الحقيقة مُتغيرة طوال الوقت. ولذلك جاء العنوان الجديد «آخر ساعة» مُعبرًا عن أحداث العرض التي تدور في آخر ساعة من السنة والتي يُنتظر فيها قدوم بابا نويل ليوزع الهدايا على المرضى.
ترتكز دراما العرض على ثنائية العجز والقدرة، وحولها تدور الشخصيات، بأحلامها، وآمالها، وكوابيسها وانكساراتها، فمع اقتراب نهاية العام، تتداعى الشخصيات، وتتفتت مركزية الحدث المسرحي. ولقد نجح المخرج في توظيف طاقة الإضاءة والتعبير الحركي في فضح كوامن الشخصيات، وصقل جانب جديد منها في كل مرة.
وتتسع الصورة لتشمل المشهد المُجسّد في لحظته الآنية في مقدمة المسرح، حيث يجري يمينًا ويسارًا التعبير بالأداء عن وجهتي نظر متقابلتين عن الحدث الآني، وفي العمق تدور داخل برواز في المنتصف، لوحات سريالية تؤديها شخصيتان متباينتان في النمط العام.
ربما ساهم تنوع الطاقات التمثيلية، وإحكامها؛ على بلورة الأنماط التي انتخبتها الدراما، فظهر الأبكم والكفيفة، والشرير، والحالم، والمتشدد والمُثقف المندفع، والمستنير، واللامبالي، ما جعل العرض أشبه بمتحف ثري بالشخصيات.
انتحار
يقدم محمد عجيزي رؤية جديدة لنص خربشة لمروة فاروق، ترتكز على عدة فرضيات، تبدأ منذ ركوب الفتاة القطار، ثم إقدامها على الانتحار، تعمل كل فرضية منهم على تصعيد نزعة الاتهام القائم على أن المرأة عارٌ اجتماعي، فلا نكاد نستقر على حقيقة/ أسباب انتحار الفتاة، حتى يتم نسفها في الفرضية التالية، وتسقط المرأة في دائرة لا تنتهي من الإدانة، وتصبح -الإدانة- هي اليقين الوحيد في عالم يدعي الفضيلة والمُثُل.
ساعد ترميز الذكور بالكلاب -سواء على مستوى الحوار أو هيئة الممثلين- على بلورة الذكورية المتوحشة المُستغِلة للمرأة بكافة الأشكال، ولكن هل الكلب نفسه رمز لهذه الصورة المتوحشة التي أرادت الدراما بلورتها؟ لا شك في أن الوعي الذي أنتج الدراما قائمٌ على وعي شعبي بالأساس، سواء بمكانة المرأة، أو الوعي الشعبي بالكلاب والقطط. وقد عبرت السينوغراف عن ذلك ببساطة ودون تكلف، ما جعل الشخصيات قادرة ببراعة على البوح بمكنونها من العجز على مستوى العنصر النسائي، والقهر المُقدر سلفًا في أداء شخصية المُحقق.
أسيوط
دقة هون
لم يسعَ حُسام الرافعي إلى تجديد مُنطلقات الدراما في نصي 7 ورقات كوتشينة لـ عبده الحسيني، وتجليات الأنا لـ محمد النجار؛ بقدر ما كان مهمومًا بالتوفيق بين النصين، فأتت شخصية الجوكر المغطى بألوان فسفورية كمعادل لدور الراوي/ السلطة/ المصير المُعد سلفًا، ما أضفى على العرض طابعًا قوطيًا سرعان ما يتداخل مع المَشَاهد الواقعية ثم يعود ليبسط نفوذه على المنظر المسرحي في النهاية.
يطرح العرض قضية الذكورية في الصعيد، عبر تداعي شواهد قبور لأربع فتيات، للإحالة من الموت المادي إلى الموت المعنوي الذي تعمل الدراما على بلورته في مشاهد من الحياة اليومية، والتعرض لظواهر مثل التحرش والكبت والزواج المبكر، والتعالي الذكوري، وإلخ.
يتخذ المنظر المسرحي اتجاهًا سرياليا على مستوى الصورة، وإن بدت بعض الموتيفات مُبهمة بسبب إهمالها عند الولوج إلى الحدث المسرحي، ولكن يظل مركز الدراما في العرض هو طقس دق الهون، كتعبير عن لحظة التلقين التي تدفع كل شخص في مصيره، وقد نجح المخرج لحد كبير في توجيه معالجته الدرامية لردأ الصدع بين حرية الاختيار والانفلات الإخلاقي، وتوظيف الموسيقى والإضاءة لبلورة المونولوجات النفسية للشخصيات، ما حقق تفاعلا ملحوظًا مع الصالة.