العدد 648 صدر بتاريخ 27يناير2020
يظن البعض أن المسرح ظهر في عالمنا العربي من أجل التسلية والترويح عن النفس، أو لقضاء وقت فراغ يحتاجه كل إنسان من أجل تجديد نشاطه! وهذا الاعتقاد يُعدّ صواباً من حيث الشكل، أما من حيث المضمون؛ فإن المسرح ظهر وانتشر، ووجد التشجيع مع الجميع؛ لأنه أحد عوامل التربية الصحيحة والسليمة!! والتربية المقصودة هنا لها صور شتى، سنتعرف عليها – في هذه المقالة - من خلال تتبع تاريخ المسرح العربي – منذ بداية ظهوره، وحتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين - لمعرفة علاقته بالتربية، وتحديد الجوانب المتنوعة لمفهوم التربية من وجهة النظر المسرحية.
أول من ربط بين المسرح والتربية، كان الأديب محمد أنسي، عندما نشر – في مجلة وادي النيل عام 1870 - مقالة نقدية عن عرض مسرحية (سميراميس) - من قبل إحدى الفرق الأجنبية - في الأوبرا الخديوية، قائلاً: “ لعبت بملعب الأوبيرة بمصر القاهرة اللعبة التياترية المشهورة باسم سيميراميس، وحضرها جم غفير وقوم كثير من التجار الأوروباويين، والأهالي المصريين، ولا سيما من حضرات الباشوات والبكوات وغيرهم من غواة التياترات. وبذلك علم أن ذوقية الملاعب التياترية قد أخذت في الانتشار بالديار المصرية في هذه الحقبة العصرية. وهي بدعة حسنة وطريقة للتربية العمومية، مستحسنة من حيث ما يترتب عليها من تفتيق الأذهان، وتصوير أحوال الإنسان للعيان، حتى تكتسب فضائلها، وتجتنب رذائلها، إلى غير ذلك من الفوائد الجميلة والعوائد الجليلة. ويا ليته يحصل التوفيق لتعريب مثل هذه التأليفات الأدبية، وابتداع اللعب بها في التياترات المصرية باللغة العربية، حتى ينتشر ذوقها في الطوائف الأهلية؛ فإنها من جملة المواد الأهلية التي أعانت على تمدين البلاد الأوروبية، وساعدت على تحسين أحوالهم المحلية”.
ونلاحظ هنا أن الأديب يطلق على المسرحية اسم (لعبة)، وعلى المسرح اسم (ملعب)، وعلى التمثيل اسم (لعب)!! وهذا أمر مقبول؛ حيث إن المسرح لم ينتشر الانتشار الذي يسمح لإطلاق المصطلحات والتعريفات عليه! كما أن المقالة تؤكد، إن المسرح باللغة العربية لم يُعرض في مصر قبل عام 1870، ويتمنى الكاتب أن ينتشر هذا المسرح باللغة العربية؛ لأنه أسلوب متطور في تربية الأمم وتطويرها.
هذا التمني من قبل الكاتب - في تربية الأمة العربية وتطويرها من خلال المسرح – بدأ تحقيقه بعد أشهر قليلة، حيث أعلنت المجلة نفسها – وادي النيل – عن صدور ترجمة عربية لمسرحية إيطالية، تم عرضها في الأوبرا الخديوية، وقام بترجمتها محمد عثمان جلال، الذي أكدّ على أنه ترجم المسرحية من أجل نقل التمدن والتربية من أوروبا إلى العرب، وفي ذلك يقول في مقدمة ترجمته المنشورة للمسرحية: “ وهذه الأحوال لم تكن عندنا بل نظرناها عند غيرنا من الأوروباويين، الذين اتخذوا التياترات وجعلوها سبباً قوياً لتمدن بلادهم. فإن التمدن عبارة عن تربية النفس وتهذيبها باتباع ما يستحسن من الأخلاق”.
وإذا نظرنا إلى النصوص المسرحية في هذه الفترة – وتحديداً في عام 1888 - سنجدها تهتم بالتربية بصفة خاصة، ومن أشهر كُتّاب المسرح في القرن التاسع عشر نجيب الحداد اللبناني، الذي عرّب مسرحية (الفرسان الثلاثة)، وأبان في مقدمتها فوائد الفن المسرحي، واحتياج بلادنا العربية إليه، فجاءت مسرحيته وافية بالغرض المقصود من حيث “ ترويض النفوس وتهذيب الأخلاق مع تفكيه العقول وتسلية الخواطر”. كذلك نجد حنا عنحوري – في العام نفسه – يصدر مسرحيته (أنجيلينا) وفي مقدمتها أبان عن “ وجوب تعليم المرأة، وما يترتب عليه من النفع والفائدة. وأظهر عظم الاحتياج إليه لتقوم الأم قياماً حسناً بتربية أولادها وعلى الخصوص الإناث منهم”.
أما محمد أيوب، فقد ألف مسرحية بعنوان ( رواية بهمن شاه) - حيث إن كلمة رواية، كانت بمعنى مسرحية - ونشرها عام 1899، وكتب لها مقدمة مهمة لما نحن بصدده، نجتزئ منها هذه العبارات: “ ... إن اشتغال الناس بتأليف الروايات، واهتمامهم بقراءتها وتمثيلها، لمن الأمور الجليلة. ولم يزل إلى الآن أهل أوروبا يعتبرون الروايات من أعظم المؤلفات، وأجلها قدراً وأسماها منفعة. وكان لا يقدم على تأليفها إلا فحول الرجال، ومهرة الكتاب. فتسابقت إليها الأيدي، وحامت حولها العقول والنفوس، فجنى القوم من فوائدها ثمراً ... وقد أولعت منذ نشأتي بالانعكاف على مطالعة التاريخ، والوقوف على أحوال الأمم، وغرائب حوادثها وأعمالها، فولّد ذلك فيّ حب التأليف والإقدام على كل مبتكر جديد، ولا سيما عندما كنت أسمع ما هو دائر على ألسنة الجميع: من أن الشرقي لا قدرة له على الاختراع والابتكار [أي التأليف]، وأن ذلك قد خصّ بالغربي فقط. فكانت تأخذني حينئذ أنفة النفس، وحمية الوطنية الشرقية، وأقول: إن هذا الزعم لم يولده سوى الكسل والإهمال وشدة الوهم. فنشطت إلى البحث والعمل، وعكفت على تأليف الروايات، مع علمي بقلة زادي على طول الشقة، وعدم استعدادي لتحمل هذه المشقة. فألفت عدة روايات تاريخية أدبية كثيرة الفوائد متعددة المواضيع .... القصد منها إنما هو تربية النفوس وتهذيبها، لأنها تمثل الحوادث الغابرة والوقائع السالفة الماضية. فهي إذن في مقام أمهر أستاذ، لا غنى للهيئة الاجتماعية عن الاحتفاظ بها وتلاوتها وحضور تمثيلها”.
وإذا نظرنا إلى العروض المسرحية وعلاقتها بالتربية، سنجد فرقة جورج أبيض تعرض مسرحية (الشرف الياباني) في الأوبرا السلطانية؛ لأن الفرقة مؤمنة بأن “ خير التمثيل ما يُجاد فيه تصوير الحكمة والموعظة الحسنة بما يحببها إلى النفوس. فإنه في هذه الحال يُطبع الجمهور على إرادة ما يرفع شأنه من الفضائل والأخلاق الحسان. ويهذب الناس تهذيباً عاماً يشتمل التربية الفردية لكل من يشهده”، هكذا جاء في جريدة مصر عام 1914، وهذا هو هدف الفرقة من التمثيل، وبسبب هذا الهدف وقع اختيارها على عرض مسرحية (الشرف الياباني)؛ لأنها تضمنت “ من دروس تربية الأمم شيئاً كثيراً”، كما جاء في جريدة مصر أيضاً.
أما فرقة رمسيس ليوسف وهبي، فهي مؤمنة “ بأن التمثيل الراقي من عوامل التربية، ونشر الفضيلة، ومكارم الأخلاق، وإضعاف قوى الشر والفساد بما فيه من العظات البليغة، التي لها من الوقع في نفوس المشاهدين والسامعين ما لا تبلغه إذا طالعوها في كتاب، أو سمعوها من فم خطيب”، كما جاء في جريدة المقطم في مارس 1923 . وبناءً على هذا الإيمان برسالة المسرح، قامت الفرقة بعرض مسرحية (غادة الكاميليا)، التي وصف ناقد جريدة المقطم أثرها التربوي على الجمهور، في عدد الجريدة السابق، قائلاً: “... لا نتعرض لنقد التمثيل من وجهته الفنية، بل نترك هذا لأرباب الفن؛ ولكننا نصف وقع التمثيل في نفوس الحاضرين، كما رأيناه، وكما شعرنا به. فقد كان الإصغاء والسكون تامين، والتصفيق وعلامات الاستحسان متواترة في بيان تقدير مواقع الإجادة. حتى إذا كان الفصل الخامس من فصول الرواية، ترقرقت الدموع في العيون، واخرجت المناديل من الجيوب لمسحها لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء من الحاضرين”.
لم تقتصر علاقة المسرح العربي بالتربية عند حد النصوص والعروض المسرحية، بل تخطت ذلك إلى أن عروض المسرح، كانت سبباً في إلقاء الخطب الحماسية، التي تدعو الجمهور إلى الاستفادة من المسرح في مجال التربية. ففي عام 1899، مثلت جمعية التمثيل الأدبي بالإسكندرية مسرحية (هناء المحبين) من تأليف إسماعيل عاصم، الذي حضر التمثيل وألقى “ خطبة أنيقة خلال تشخيص الرواية في التمثيل وعلاقته بتربية النفس، وتهذيب الأخلاق”، كما قالت جريدة المؤيد في نوفمبر 1899. والأمر نفسه حدث عام 1909، عندما مثلت جمعية المحبة المركزية بدار التمثيل العربي مسرحية (ضحية الغواية)، وبعد انتهاء العرض ألقى نجيب خطبة، حث الحضور فيها على “ تربية البنات، ومساعدة كل مشروع يقصد به تهذيب الجنس اللطيف فكان لكلامه صدى استحسان”. وفي عام 1911، احتفلت المدرسة القبطية بأسيوط بنهاية العام الدراسي، فمثل الطلاب مسرحية (أستير)، وألقى ناظر المدرسة شحاتة معوض “ خطبة شائقة عن فوائد التربية والتعليم”.
والجدير بالذكر إن المسرح العربي، كان سبباً في دعم التربية بصورة مادية وإنسانية! ففي عام 1899 أقامت جمعية النشأة القبطية ليلة خيرية في الأوبرا الخديوية، عرضت فيها مسرحية (بطرس الأكبر)، وخصصت “ إيراد هذه الليلة لإنشاء مدرسة لتربية البنات”، هكذا قالت جريدة (المؤيد) في إبريل 1899. وفي عام 1904 عرضت جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية الخيرية مسرحية (العذراء اليتيمة)، وخصصت إيرادها لصالح “الملجأ العباسي المُنشأ لتربية اللقطاء والأيتام”، كما أخبرتنا جريدة المؤيد في أبريل 1904. وفي عام 1905 عرضت جمعية المساعي الخيرية مسرحية (غانية الأندلس) بطولة سلامة حجازي، وقالت الجمعية في إعلانها: و”يخصص إيرادها لمساعدة الفقراء وتربية الشبيبة، وهي أحسن أبواب الخير والمبرات ... فنأمل أن يكون الإقبال عليها عظيماً، إجابة لداعي الإنسانية، ونصرة الأعمال الخيرية، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا”، هكذا أعلنت جريدة الأهرام بتاريخ يناير 1905. وفي عام 1908 عرضت جمعية ثمرة الحياة بالمنصورة مسرحية (سميراميس)، وخصصت “ إيراد هذه الليلة لمساعدة مدرستها، التي تقوم بتعليم البنات وتربيتهن التربية الصالحة”، كما قالت جريدة مصر في يوليو 1905.
مما سبق تتضح لنا العلاقة التاريخية الوطيدة بين المسرح والتربية؛ ولكن السؤال الآن: ما هو موقف النقاد من هذه العلاقة؟! وبمعنى أوضح: ما هو تصور الأدباء والنقاد الأمثل لتوظيف المسرح في خدمة التربية؟! الإجابة على هذا السؤال، وجدناها في مقالة كبيرة، نشرها بغدادي إبراهيم الأسواني - الطالب بالقسم العالي بالأزهر الشريف – في جريدة (المقطم) بتاريخ يوليو 1923، تحت عنوان (أخلاقنا على مسارح التمثيل)، وتدور فكرتها حول عتاب الكاتب للأدباء والتربويين، الذين يكتبون نظرياً عن عيوبنا الخلقية والاجتماعية والسلوكية الناتجة عن سوء التربية، دون أن يذكروا في تنظيرهم الأساليب التربوية لعلاج هذه العيوب!! وفي المقالة نفسها، يقدم الكاتب اقتراحاً بأن علاج عيوبنا الاجتماعية لا تكون بالتنظير، بل بالتطبيق العلمي عن طريق المسرح، الذي يؤثر في الجمهور تربوياً وأخلاقياً، وفي ذلك يقول:
“ لا أعرف ما هي الفائدة من أن نكون اختصاصيين في تشخيص عيوبنا الاجتماعية فقط؟! وما هي المصلحة المنتظرة من وراء هذا الإغراق في وصف الداء؟! وإذا كنا نحن المشخصون للعيوب، والواصفون للأدواء، فمن هم المكلفون بإصلاح عيوبنا، ومداواة أدوائنا!؟ وأي فريق من الكُتّاب يمكن الاستعانة بهم على تقرير المحاسن الأخلاقية، المراد طبعها في النفوس، إذا كانت جهود كتابنا جميعاً منصرفة إلى النظريات، أكثر منها على العمليات! وليس إصلاح الأخلاق درساً عملياً يتلقاه الطلاب في المدارس، فينشئوا عليه، وإنما يكون بتعويد النشأ سماع النصائح، وتقريبها إلي أذهانهم، والمقارنة بين الفضيلة والرذيلة، مقارنة واضحة ظاهرة الأثر. نعم إن للتربية المدرسية أثراً عظيماً في تكوين أخلاق الشعوب، وإن التعليم في الصغر من دواعي الاستقامة الأخلاقية في النفوس من غير المران المستمر والتعويد الدائم على التمسك بالفضائل، كلما جاءت ظروف يصح فيها تقرير هذه المبادئ السامية. وليس هناك شك في أن مسرح التمثيل أمام المتفرجين، إنما هو موضع الذكري ومجال العبرة ومستقر الإصلاح، الذي يتبين فيه الفرق بين الحق والباطل على صورة فعلية لا مجرد القول بالاستنتاج”.
وأختتم هذا الموضوع، بإلقاء الضوء على أول متخصص في مجال المسرح والتربية، وهو (محمود مراد 1888 – 1925)؛ بوصفه أول مبعوث عربي إلى أوروبا لدراسة المسرح وعلاقته بالتربية عامي 1923 و1924 في معهد التمثيل بإنجلترا. وعندما عاد كتب مقالة حول فكرته عن استخدام المسرح في مجال التربية، ونشرها في جريدة (البلاغ) يوم 7/2/1924، تحت عنوان (الموسيقى والتمثيل: قيمتها في التربية ومركزهما الاجتماعي)؛ بدأها بقوله: “ إن ذكر فضل الموسيقي والتمثيل وأثرهما في التربية، وما لهما من الذكر الاجتماعي العظيم، لمن قبيل ذكر فضل العلم على المال، ووجوب محاربة العامية وما أشبه ذلك ... وعندي أن المدارس والمسارح خير ما يعمل لنشر القيم منها. ولقد خبرت الأمر بنفسي في فرقة المدرسة الخديوية، فبعد أن كانت أغاني الطلبة منذ خمس سنين (كنت باسكر وباحششش وبالم الفل)، و (يا أبو الكشاكش كان جرى لك أيه يا هل ترى)، وما شكلها من سخط المعاني، وسقيم الألفاظ مما كانوا يلتقطونه في أفواه الممثلين، في دور التمثيل الخليع، أصبحت بفضل فرق التمثيل والموسيقى المدرسية مقطوعات نظامية وطنية أدبية تاريخية تعد من أقوى عناصر التربية ...... لهذا أحل علماء التربية في أوروبا تعليم الأغاني المحل الأول، وجعلوه في معظم ممالكها إجباريا في المدارس الابتدائية، فإذا ما انتقل الطالب إلى المدارس الثانوية كان حب هذه الفنون قد تمكن من نفسه بحيث يظل متمسكاً به فيدرسه اختيارياً ....... في سويسرا عالم فن اجتماعي أسمه المسيو “ دالكروز “، رأى في تعليم الفنون خير علاج للأمراض الاجتماعية
هذه المقالة، نُشرت من قبل ورقياً بالعنوان نفسه في مجلة (بشت الفنون) يوليو 2018، التي يصدرها مسرح رأس الخيمة الوطني بدولة الإمارات.