علم الأعصاب الإدراكي وفن التمثيل .. التخيل والمزج الإدراكي والتقمص(1)

علم الأعصاب الإدراكي وفن التمثيل .. التخيل والمزج الإدراكي والتقمص(1)

العدد 648 صدر بتاريخ 27يناير2020

 بناء علي التغطية المتزايدة في وسائل الإعلام للتطورات في العلوم العصبية والإدراكية وعدد الكتب التي صدرت في العقد الأخير حول الموضوع، يمكننا أن نجادل بأن القرن الحادي والعشرين سوف يكون قرن المخ . في حين أنه من السابق لأوانه تبني هذه النبؤة في العقد الأول لما قد يكون قرنا مليئا بالتحولات والاضطرابات، فان الاكتشافات الثورية في العلوم الإدراكية وعلوم الأعصاب في الربع الأخير من القرن تتطلب منا أن نفكر فيما نعتقد أننا نعرفه عن الشعور والدافع والسلوك والهوية وحتى التفكير . ولأن هذه العلوم تتعامل مع الجوانب الأساسية لمعنى أن نكون بشرا، فهناك آثار علي العديد من المجالات في الفنون والعلوم الإنسانية، ومن بينها المسرح، والتمثيل خصوصا . ويأتي ذلك مع تحذير، لأن الكتابات الشائعة عن العلوم يمكن تبنيها أو السطو عليها بسهولة بطريقة مختصرة أو مشوهة، من قبلنا نحن الذين لسنا علماء . ولكن علي مدى العقد الماضي أحاول تناول مشروعي ، والذي يركز علي الكيفية التي يمكن أن يساعدنا بها العلم أن نفهم ما الذي يفعله الممثلون عندما يمثلون، بتواضع وحذر . وقد تعاملت حتى الآن مع تخيل الممثل الفرد وعلاقته بالحركة، وكيف يمكن استخدام اللغة لإلقاء الضوء وإثراء قدرة الممثل للاستفادة من هذين المفتاحين والمكونات التي لا تنفصل عن عمله . وقد بدأت في الآونة الأخيرة أن أفكر في كيفية ربط التخيل والفعل واللغة بالتقمص والمحاكاة كما يستخدما في عمل الممثل، سواء في تطوير الشخصية وفي المشاركة مع ممثل آخر .
 تتبني كل العلوم العصبية والإدراكية رؤية أحادية بأن الشخص والعقل والجسم ليسوا منفصلين . وهذه العلوم تتطلب منا بالأحرى أن نفكر في إطار “ العقل المجسد embodied mind أو الجسم الواعي conscious body، اعتمادا علي الصورة المفضلة في لحظة بعينها . وفي إطار التمثيل في القرنين العشرين والحادي والعشرين، هناك سبب وجيه لتبني وجهة نظر أحادية تجاه عملية الممثل . وقد تأثر (ستانسلافسكي)، الأب الشرعي لمناهج التمثيل الحديثة (1863 – 1938)، بعلماء الانعكاس في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ( وهي الصيغة المبكرة للسلوكيين) الذين درسوا الروابط بين التكيف البدني والاستجابة الجسمانية – ولاسيما (تيودول ريبوت THeodule Ribot) ( 1839- 1916) والمعاصر لـ(ايفان بافلوف Ivan Pavlov) ( 1849-1916)، تعلما من (ايفان سيشنوف Ivan Sechnov) (1829-1905) . وعندما تعلق ستانسلافسكي بمهنته كممثل، اتجه الي العلم، وبدأ يبحث عن طريقة لجعل عمل الممثل أكثر قوة واتساقا وعاطفية . وتؤكد التطورات في القرن الماضي حسم وفائدة رؤية ستانسلافسكي الأحادية .
 • المزج المفاهيمي والضغط:
 بغض النظر عما إذا كنا نتكلم عن التقمص أو الجسم أو العقل، فان التخيل – الصورة، التي يمكن أن تتحفز بواسطته أي حواس – هو صميم هذه المناقشة . فبقدر ما نتخيل صورة لحدث معين أو نبنيها من أجل معرفة كيفية الاستجابة لها، فان الفهم هو التخيل، ويجادل بعض العلماء الإدراكيين بأن التخيل هو المحرك الرئيس للمعنى . وبافتراض أن هذه هي الحالة، أريد أن أتأمل بضعة نقاط ترتبط بالتخيل، ولاسيما فيما يتعلق بالمزج المفاهيمي والضغط، وهي المفاهيم التي تشكل مجال اللغويات الإدراكية بطرق مهمة .
 لقد تطورت نظرية المزج المفاهيمي بواسطة عالمي اللسانيات الإدراكية (جيليه فوكونيه Gilles Fauconnier) و(مارك تيرنر (Mark Turnerاللذان توسعا في نظرية الاستعارة لكي يفترضا أننا عندما نقول شيئا مثل: “ إذا أنفقت ذلك الرصيد، فانك تحفر قبرك “، إننا في الواقع نمضي الي ما وراء الاستعارة والتناظر لكي نمزج مختلف المساحات الذهنية – وفي هذه الحالة، فان إحداهما ترتبط الإنفاق المالي وترتبط الثانية بالموت – وللوصول إلي مساحة مختلطة ثالثة تحتوي وتضغط علي المزيد المعلومات المختلفة بأكثر مما تحتويه المدخلات الأولية؛ وهذا يخلق بنية ناشئة، حدثا عقليا جديدا يمثل جزءا من البنية الدينامية للشبكة ( العقلية) بأكملها، ولاسيما الضغوط والإسقاطات التي تربط مدخلات المساحات العقلية بالمساحات المختلطة الجديدة . والمزج هو أداة ضغط بامتياز . ويوفر الإسقاط الانتقائي للمساحات العقلية المختلفة ذات الصلة، والتكامل في المزيج، عملية مقارنة قوية بشكل استثنائي . فالمقارنة بوجه خاص تصف أشكال التكامل المفاهيمي الغنية - خداع الصور والتخيلات – التي تدعم وعي الإنسان . ومن المثير للاهتمام، علي الرغم من أن المزج والضغط ضروريان للوعي، فان الكثير منهما يحدث دون مستوى الوعي . كل ذلك يعتمد في الواقع علي حقيقة أن لدينا أجسام، وأن الأعمال الفكرية المذهلة التي يؤديها البشر تعتمد علي القدرة علي ترسيخ شبكات في المزج علي المستوى الإنساني (المجسد)، باستخدام العلاقات الحيوية التي توظف في الإدراك والفعل . إن تحقيق المجال البشري، بمعنى امتلاك خبرة قابلة للإدارة هو الهدف الدافع المتمثل في المزج والضغط، وتتمثل مهمته في جعل التجربة مفهومة، بالتالي، تجعل الفعل المؤثر ممكن . وهذه العمليات ليست حتمية ولا تركيبية، بل متدفقة ودينامية، ومن الأفضل السماح برؤى جديدة لتوجيه الأهداف، الذي هو دورها . والمزج هو الجزء الأساسي في تلاعب الممثل والمخرج باللغة والتشبيه الاندماج في المادة التي يعملون فيا باعتبارها طريقة محسوسة تماما ومميزة بقدر الإمكان . فالعيش واللعب في “ المزيج” هو في صلب الأصالة والإبداع .
 بينما يمكن اعتبار بعض التركيز علي اللغة والتشبيه أقرب إلي القراءة الحميمة التقليدية، فان تحليل المزج المفاهيمي، كأداة للقضاء علي اللعب، يتجاوز هذا، لأنه يتيح تقييما أدق للغة والتشبيه، وبنيات النص . وفي هذه الرؤية تمتلك الكناية والصور الذهنية والسرد والاستعارة والتناظر قدرة وطاقة أكبر من الارتباطات الفردية البسيطة بين الصور . فالمزج المفاهيمي يعيد صياغة مشكلة العمومية مقابل الخصوصية، والتشابه مقابل الاختلاف، علاوة على الحاجة إلي كليهما : ما يسمح به المزج الحقيقي (لمدخلين) للعقل أن يفعله هو تطبيق مخطط عام فيما وراء الصيغة المنطقية لأشياء وأفراد بعينهم وأن يتتبع متى يعتبرون نفس الشيء ومتى يعتبرون مختلفين . وفي هذا الإطار لا تمثل اللغة المعنى مباشرة، بل تلح بدلا من ذلك علي بناء المعنى . والتخيل هو الفعل الإبداعي المركزي في صناعة المعنى .
 ولا يمكننا الهروب من المزج : “ في حالة الإحساس والإدراك، تأتي تجربتنا الواعية في مجملها من المزج – فنحن نعيش في المزج، ان جاز التعبير . علاوة علي ذلك، فمن المرغوب فيه تقليل المدى الذي يعيشه الوعي في الشبكة بالكامل، أي أنه من الأسهل أن تصبح العديد من الاستجابات والعمليات تلقائية حتى نتمكن من العمل بكفاءة أكثر وتلقائية . فمثلا، نتعلم أن نميز شكل الحرف مادام الشكل يصبح الحرف، بحيث لا يمكننا رؤية الشكل بدون تمييز الحرف . ولكن هناك مخاطر مع هذه التلقائية . فنحن لا نستخدم المزيج لنقل المعلومات فقط أو لكي نخلق معلومات جديدة، ولكن أيضا لاستدعاء المشاعر من أجل حث الناس علي العيش في امتزاج وتحريكهم إلي اتخاذ موقف تجاه الآخرين، لأسباب عكسية أو سلبية أحيانا .
 ويلاحظ (فوكونيه) و (تيرنر)، ربما بوضوح ولكن بذكاء أيضا ’ أن الواقع يتأثر بالعمل الإدراكي بشدة في المتخيل . فمثلا، مزج “ ضريبة الموت” يستدعي مجموعة مختلفة كاملة من الصور والتداعيات، وهي مجموعة مشاعر مختلفة في الجسم، أكثر مما تستدعي “ الضريبة العقارية “، رغم أن كليهما في الواقع يشيران إلي نفس الشيء . ويربط ( ادوارد سلينجرلاند Edward Slingerland) نظرية صورة المزج الجسدي هذه بافتراض علامة جسمية وفقا عالم الأعصاب (أنطونيو داماسيو Antonio Damasio) . ويصف مصطلح “علامة جسمية somatic marker” كيف تصبح حالات الجسم مرتبطة باستجاباتنا الواعية للتجارب وتفسيرات تلك التجارب . وهذا يمكن أن ينطوي علي ربط الخوف أو السرور بموقف معين . فمثلا، رؤية نمر ربما تؤدي إلي اندفاع الأدرنالين مع مجموعة كاملة أخرى من الاستجابات العصبية الآلية، والتي تقوم علي تجربة سابقة أو معلومات متلقاة عن خطر النمور والتي ترتبط بأفكار واعية عن الخوف أو الانفعال، أو الدهشة . فتصبح هذه العلامات مرجعنا لردود الفعل العاطفية المعتادة في توجيه ردود أفعالنا في مواقف جديدة (والتي تعني عند “ داماسيو” حالات الجسم) . ومن الناحية التطورية، فان هذه الاستجابات المعتادة تقلل من الخيارات التي التي يتعين علينا القيام بها من اجل الفعل، ولاسيما في لحظات الأزمات، مما يتيح لنا الاستجابة بكفاءة وسرعة من أجل زيادة فرصنا في البقاء والنجاح . ولأن (سلينجرلاند) يضعها في إطار، فان العلامات الجسمية تعمل علي ربط التوازن العاطفي المعياري بالصور ؛ يمكن عندئذ استخدام هذه الصور في خدمة المزج المفاهيمي بهدف إنشاء مطالبات معينة : يمكن تكرار ردود الفعل الداخلية لمجموعة من الأغراض المتنوعة، بما في ذلك الاستغلال الواعي للعلامات الجسمية من جانب علماء البلاغة المهرة من أجل تطوير جداول أعمالهم. ولحسن الحظ أو سوء الحظ، يمثل الجسم والشعور والفكر جوانب من عملية عضوية واحدة . وهناك المزيد من البحوث حول علاقتهم القوية فيما يتعلق باستجابات الناس للأدوار السياسية والاجتماعية، وبعضها متاح عموما، بما في ذلك، كتاب ( درو ويستون Drew Weston ) “ العقل السياسي : دور العواطف في تقرير مصر الأمة The Political Mind : The Role of Emotion in “ “ Deciding the Fate of the Nation “ (2007)، و كتاب العالم اللغوي (جورج لاكوف George Lakoff) “ لا تفكر في الفيل : تعرف علي قيمك وضع النقاش في إطار Don’t Think of an Elephant : Know your values and Frame the Debate” (2004)، “ حرية من ؟ : المعركة حول أهم أفكار أمريكا Whose Freedom ? : The Battle over America’s Most Important Idea “ (2006) .
 بينما كان (لاكوف) أكثر اهتماما بالاستعارة عن المزج، فقد درس مع عالم الأعصاب ( فيتوريو جاليزي Vittorio Gallese) طبيعة التصور علي المستوى العصبي، واقترحا أن يتم وضع المعرفة المفاهيمية ضمن نظامنا الحركي . واحتجا بأن هذا النسق “ لم يزود البنية إلي المضمون المفاهيمي، بل أيضا يميز المضمون السيمانطيقي للمفاهيم في إطار الطريقة التي نوظفها مع أجسامنا في العالم . وهذا لأن التخيل والفعل يستخدمان ركيزة عصبية، أو بالتراجع عن الفعل، تستخدم في الفهم نفس الركيزة العصبية المستخدمة في التخيل . بمعنى انه لكي نكون قادرين علي فعل شيء، فيجب أن نكون قادرين علي تخيله، ولكي نفهم شيء ما، يجب أن نكون قادرين علي فهمه .وهذا له وجه مادي حاسم – ترتبط نفس الأنساق العصبية بعملية التخيل، والفهم، والفعل . وفي هذا الإطار، يكون التخيل نوع من المحاكاة ( أو التظاهر) – محاكاة ذهنية للفعل أو الإدراك، باستخدام العديد من نفس نوع الخلايا العصبية كما تفعل أو تدرك . وأحد الآثار المترتبة علي ذلك أن “ طرائق الفعل والإدراك يتكاملان علي مستوى نسق المحرك الحسي نفسه وليس عبر مناطق الارتباط الأعلى، بعبارة أخرى، لا يتعين علينا 0 وعندئذ يتعين علينا غالبا – معالجة الإدراك بوعي من أجل تحديد الفعل . ومن أجل أن يحدث الفهم أو التفكير العقلاني علي الإطلاق، يجب أولا أن يكون هناك نوع من المحاكاة – التصور أو التخيل – الذي يعتمد علي آلياتنا الحسية الحركية وتجربتنا في أننا أجسام التي هي في معظمها غير واعية . وهذا يخلق تحديات معينة للممثل الذي يعتمد فنه علي التفاوض المستمر للوعي، ولعدم وجود مفردات أفضل، والغريزي والبديهي . فكيف يمكن للممثل تطبيق العناصر التي يمكنه الوصول اليها من هذه المعرفة عن وعي علي عمله ؟
 ولأن كثير من عملية المزج والاستعارة غير متاحة لوعينا، يفترض (فوكونيه) و(تيرنر) أن :
 ربما يكون جزءا من القدرة التطورية لهذه الآليات هو أنها يجب أن تكون مرئية للوعي، تماما مثل العمل وراء الكواليس المتعلق بوضع بتقديم المسرحية في أفضل صورة، إن لم يلاحظها أحد .
 فحتى بعد التدريب، يبدو أن العقل لا يتمتع الا بقدرات ضعيفة
 لكي يمثل لنفسه بوعي ما يفعله العقل اللا واعي بسهولة .
قد يكون هذا بسبب أن عمليات مزج وفك شفرة الاستعارات سريعة وغير مرئية، وتحدث بسرعة البرق وتتضمن تنشيط الانتشار المضطرب في الجهاز العصبي، كما أن الاهتمام الواعي سوف يقطع التدفق . إلى جانب الاستمتاع بالإشارة الى ما وراء الكواليس أدهشني أيضا كيف تتعارض هذه الصورة مع سعي (ستانسلافسكي) الأساسي – لإيجاد طريقة لاستخدام الوسائل الواعية للوصول إلي لا وعي الفنان وتنشيطه في خدمة الدور الذي يلعبه، كما أقر هدفه من التقنية النفسية .
 إثارة اللاوعي الإبداعي وإشراكه بوسائل غير مباشرة . فليس من قبيل المصادفة أن يتم التعبير عن أحد أســس فن معايشتنـا في الأساسي : الإبداع دون الواعي من خلال المؤثرات العقلية الواعية للممثل (ما دون الوعي من خلال الوعي، واللاإرادي من خلال الطوعي ) .
إذن السؤال الآن هو، كيف يمكن أن نستخدم وسائل الوعي المعبر عنها بواسطة العلوم الإدراكية لتنشيط حياتنا الإبداعية، التي بتوافق الآراء العامة تمتلك في جوهرها أشياء خارج نطاق العقل والتحليل والتسمية . ولهذه الفجوة بين العقل والإبداع والسيولة التي نستطيع من خلالها سد تلك الفجوة، جزئيا علي الأقل، علاقة برؤية (فوكونيه) و(تيرنر ) :
 نظرا لأن الأشكال اللغوية تطالب بالمعاني بدلا من أن تمثلها، فلا يتعين أن توجد الأنساق اللغوية،ولا يمكن أن تكون مناظرة في الواقع للأنساق المفاهيمية ...... فالأنساق المفاهيمية واسعة وغنية وذات نهايات مفتوحة، ولكن الأنســاق اللغوية، مهمــا كانت مثيرة للإعجاب، فإنها رقيقة نسبيا ..... والحل التطوري لهذه المشكلة هو وجود انساق أشكال تتطلب بــناء المعاني التي تتجاوز أي شيء مثل الشكل نفسه .
يقدم هذا المنظور أيضا للممثل نموذجا لكيفية تحرير نفسه من منظور التحليل النفسي لبعض أساليب التمثيل الأمريكية المقيدة في بعض الأحيان، لأنه يدور حول كيفية تحفيز الاستجابات الإبداعية بدلا من استكشاف ذكريات مكبوتة نفسيا من التاريخ العاطفي للممثل .
 فالممثلين يجب أن يتخيلوا أنفسهم من جديد، ويخلقون صورا جديدة للعلاقة بين أجسامهم ومشاعرهم وأفكارهم ؛ يجب أن يجدوا تمازجات جديدة وضغوط جديدة لفهم ذلك الذي يفعلونه . وكما تقول (آمي كوك Amy Cook) “ إذا كان الفكر والكلام مجازيان ولدينا بعض القدرة ( ولو قليل منها فقط) لكي نعيد كتابة فكرتنا عن جسمنا، فيجب أن تعكسها نظرياتنا في التمثيل ذلك . جزء مما يمكن أن نعزز به هذا الفهم لعملية التمثيل هو العمل بشمل مكثف علي تيارات صور محددة، وتحرير أنفسنا من طغيان السببية والمنطق والدافع ( أحيانا بمعنى التحليل النفسي ) عندما لا تخدمنا وتوجيه الممثل نحو فهم أن كل لحظة هي شعر – ضغط .
 وقد أطلق ( فوكونيه ) و (تيرنر) مقولتين جعلتاني أفكر في التمثيل والإبداع علي وجه الخصوص، وذكرتاني بالمواقف التي رأيت فيها الضغط والمزج يعملان بشكل رائع . المقولة الأولي هي أن “ القدرة علي المزج وإعادة المزج هي أيضا السمة المميزة للفكر الإنساني . ثم استخدام إعادة التركيب مع المزج كخدعة قوية من التخيل بشكل استثنائي، وعندئذ يكون المزج هو أداة ضغط بامتياز . و يقدم الإسقاط الانتقائي من مختلف المساحات المرتبطة والتكامل في المزيج عملية ضغط قوية بشكل استثنائي . وفي الورش التي أقامته الكاتبة والممثلة ( ديب مارجولين Deb Margolin) تسأل المشاركين أحيانا أن يجلبوا الكتاب المفضل وأن يكونوا جاهزين لغناء الأغنية المفضلة، دون أن تخبرهم كيف يستخدم هذا . وبعد أن يجلس المشاركون في دائرة ( عادة علي الأرض) تسأل كل شخص أن يقف ويقرأ من كتابهم، عندما يبدو أنه أشارة عشوائية منها، ليوقف القراءة ويبدأ الغناء، ويتكرر هذا، لكي يتطور التدفق بين الكتاب والأغنية جيئة وذهابا، غالبا ينتج منه أصداء حيوية قوية أو روح دعابة تخلق معاني جديدة في مادة مألوفة وتوقظ عقل جسم المؤدي بشكل واضح ( تخيل هذا مع أعمال مثل “ مكان ما فوق قوس قزح” والفصل الأول من رواية “ موبي ديك” و “ أي شيء يذهب “ و “ كبرياء وتحامل). في ورش العمل والفصول الدراسية، يقوم الكاتب المسرحي ( ماك ويلمان Mac Wellman) بتمرين يكتب فيه كل من أفراد المجموعة سيناريو وحوار، ويجب أن يكونا منفصلين تماما عن بعضهما البعض، ويتلقى كل فرد السيناريو الخاص به وحوار سيناريو شخص آخر بهدف تحوليهما الي مسرحية قصيرة . والنتيجة هي أن الكاتب لا يمكنه أن يظل مرتبطا بطرق التفكير المعتادة فيما يتعلق بمادته، لأنه ربما ينتهي به الأمر إلي دمج سيناريو عن مزج إليزابيثي بحوار بين شخصين يقدم عرضا جيدا من نوع (فيتوشيني الفريدو ) . والممثلين والمخرجين الذين يعرضون هذه المسرحيات مطلوب منهم أن يبتعدوا عن الأطر التقليدية للحقيقة المسرحية (التي يمكن أن تعني غالبا مجازات يعاد توحيدها علي أساس الصور النمطية للواقعية النفسية أو مشاهدة التليفزيون كثيرا) . وما وصفته يمكن أن يٌرى في أعمال (ريتشارد فورمان Richard Forman)، و ( ووستر جروب ) و فرقة (اليفاتور ريبير سيرفس)، بجانب فرق أخرى، من الذين يمزجون الأشياء ببعضها لخلق سيناريوهات جديدة . ولكن الذي يجعل ما أقوله مختلفا – أو علي الأقل اعادة صياغة – عن المعارضة الأدبية بعد الحداثية هو السياق – العلوم الإدراكية من ورائها . هذه الرؤية في المزج والتجاور – جمع شيئين مختلفين أو فعاليتين للوصول إلي شيء جديد – يقوم بوجه خاص علي رؤية عصبية نفسية بيولوجية للطريقة التي يعمل بها التخيل واللغة والفعل . ويمكن أن تطبق في الأداء الذي يرتكز علي نص .
 ومن المهم في بعض مراحل عمل الفنانين الانخراط في مبدأ “ تفريغ المزج” : حيث أن الأمور الأخرى متساوية، إذ يجب أن يندفع المزج من تلقاء نفسه إلي إعادة بناء الشبكة بالكامل . بمعنى أن المزج يجب أن يوجه الفنان الي الارتباط بكل المبادئ الأساسية للشبكة واستخدامها لتنشيط التجسيد . ورغم ذلك، المشكلة الكامنة هي أننا نتعلم ونستوعب المزج بعمق لدرجة أننا لا نستطيع أن نفصل عناصره المتباينة . إذ لا نستطيع أن نرى شوكة بدون وظيفتها . أو كما يقول (فوكونيه) و (تيرنر) “ بمجرد أن يكون لدينا تكامل، فمن الصعب أو من المستحيل الهروب منه . فنحن نفسر العوالم المادية والذهنية والاجتماعية التي نعيش فيها بفضل التكامل الذي نحققه من خلال البيولوجيا والثقافة . وهذا يقدم أشياء للممثل الذي يجب أن ينغمس في العمل الذي يؤديه ( مثل النص أو دوره في المشاركة في الإبداع) بشكل واع لكي يكون قادرا في النهاية علي الاستجابة تلقائيا وبحيوية : يجب أن يفصل الممثل بين أنواع المزج في المسرحية حتى يستطيع استخراج الإمكانات من أجزاءها التأسيسية، وأن يعيش في المزيج، وتقديم مزيجا جديدا لخدمة التخيل بهدف التجسيد والفعل .


ترجمة أحمد عبد الفتاح