السينوجراف المتكلم بالصور

 السينوجراف  المتكلم بالصور

العدد 642 صدر بتاريخ 16ديسمبر2019

أيا ماكان إتفاقنا أو تعريفنا لمصطلحات السينوجرافيا والسينوجراف .. فإن أقرب تعريف أن :
السينوجراف هو: من يحلل النص المسرحي درامياً ويعبر عنه تشكيلياً بطريقة تجعل العين تري مالاتسمعه الأذن. (باميلا هاوارد)
“The Scenographer visually liberates the text and the story behind it, by creating a world in which the eyes see what the ears do not hear.”
الكلمات والصور هما وسائل تبادل البشر للمعاني بشكل متحد ومتوازي .. وأساس المسرح صورة حية مباشرة في حضور جمهور .. فالمسرح ليس فقط مكاناً لإلقاء الكلمات المنطوقة مهما كانت شاعريتها ومهما كانت براعة المؤدين لها .. وإلا كانت الإذاعة أفضل من المسرح .. ولكن المسرح يمتاز ببراعة اللفظ والأداء داخل بيئة سينوجرافية شاعرية بصرياً مليئة بالقيم التشكيلية (كثرت أو قلت) .. تضيف وتعمق من إحساس ومعاني الكلمات المؤداة بما هو أبعد من الكلمات اللفظية.
السينوجرافيا المسرحية تستطيع التعبير عما لا تستطيع الكلمات قوله .. والتحدي الذي يقابل السينوجراف هو تحويل معاني  حرفية لفظية إلي أفكار مرئية بالتعاون مع باقي عناصر العرض الأخري في وحدة منسجمة بصرياً وسمعياً وحركياً.
السينوجرافيا تشير إلي المكان والزمان وتقدم للحدث وتهيء المشاهدين إلي الإحساس العام الذي سوف يشاهدونه .. حتي لو كانت السينوجرافيا مجردة أو في أبسط حالاتها .. كما إنها تجهز مساحة العرض لحركة المؤديين .. ويمكن ان تتمادي في التعبير إلي دلالات وأبعاد تتفاعل مع ألقاء وأداء المؤديين لتعمق إحساس ومفهوم الحدث الدرامي علي المسرح.
وفي كل الأحوال فإن السينوجرافيا المسرحية بشكل عام غير مكتملة بمفردها .. ولكن يكتمل وجودها ومعناها وجمالها بتواجد المؤدي داخلها وبدايه تفاعله مع المتلقي.
السينوجرافيا الجيدة .. ليست التي تقول كل شيئ في صورة واحدة تم تكتفي بالصمت والسكون طوال المسرحية .. بل هي ماتهيئ للحدث وطبيعته وأجواءه .. وتتطور مع دراما العرض وتظل تقدم جديداً بشكل تصاعدي حتي أخر المسرحية .. وتستطيع التحكم والموازنة بين مايراد أن يقال ومتي .. وبين مايراد أن يلمح به فقط.
من أحد أهم أسباب اللجوء إلي إستخدام مصطلح سينوجرافيا .. هو تطور الصورة المسرحية إلي أبعاد درامية تشكيلية أبعد كثيراً من فكرة تزيين المسرح بخلفية ملونة خلف الممثل .. والتصميم السينوجرافي الجيد .. معبر أكثر من مجرد كونه تشكيل في الفراغ .. وإلهام ذلك التصميم لايأتي من مجرد وصف المؤلف لشكل المنظر .. ولكنه يكون من ذلك مع خلاصة قراءة النص ومفهومه الدرامي وبالطبع بعد مزج كل ذلك مع رؤية المخرج .. ربما كلمة في النص أو معني عام في رؤية المخرج يكونا هما الإلهام الذي يحرك السينوجراف لتصميم تشكيل مناسب لكل ذلك .. وربما تكون النتيجة النهائية تشكيل مختلف عما كتبه المؤلف أو عن التخيل الأولي للمخرج .. ولكنه تصميم يحقق كل الأفكار والرؤي المراد التعبير عنها بشكل تشكيلي أعمق وقابل للتنفيذ.
منذ بداية تكليف المخرج لمصممي سينوجرافيا العرض معه .. فبعد كثير من المناقشات حول تحليل المسرحية ورؤية المخرج .. فإن اللغة التي يتحدث بها المصممون للمخرج بعد كثير من البحث ووضوح الرؤية .. هي الصور (التصميمات) .. سواء كانت رسومات أو مجسمات أو صور مطبوعة .. من خلال تلك الصور .. يتحدث طاقم تصميم المسرحية مع بعضهم البعض .. وأدواتهم في ذلك هو إستخدام عناصر التصميم الأساسية من خط وشكل ولون وتكوين وحركة وملمس وخامة وزخرفة وإتجاه وحجم وزاوية ومساحة ونسب.
في جزئية تصميم المنظر المسرحي يكمن التحدي أمام السينوجراف في إيجاد معادل تشكيلي للحدث الدرامي في النص متوافق مع رؤية المخرج بشكل قابل للتنفيذ في ظل الوقت والميزانية وتجهيزات ومساحة وإمكانات المسرح المقترح للعرض.
الصورة قادرة علي حكاية حدوتة أو نقل تعبير أسرع وربما أعمق من كلام مكتوب أو مسموع .. المشكلة في المسرح هي أن يكون السينوجراف ثرثاراً بشكل زائد عن اللازم .. فيفضح الحدث الدرامي  قبل حدوثه .. أو تكرر عناصر السينوجرافيا نفس المعني المنطوق دون أن تكون كل العناصر مكملة لبعضها .. أو لو كان السينوجراف متلعثماً تعبيراته غامضة مضادة للحدث أو منعدمة.
من كل ذلك نصل إلي مراد أن لكل عنصر سينوجرافي لغة يتحدث بها .. فالمنظر المسرحي أياً كان الأسلوب المستخدم في تصميمه .. به علاقات من خطوط ومساحات وكتل وخامات مختلفة وإتجاهات حركة وتباين ولون وغيرهم .. كل ذلك في تكوينات وعلاقات ونسب وجودهم معاً في علاقة ما يشير إلي معني ما .. أبسطه وصف المكان ويصل إلي وصف الحالة المزاجية للموقف الدرامي أو الحالة النفسية للشخصية والمكان المتخيل أن هذه الشخصية تعيش به بغض النظر عن واقعية المكان.
حتي لو كان الأسلوب واقعي .. فإن الخيال جزء من اللعبة المسرحية بين المتفرجين وعناصر العرض المسرحي ككل .. وبالتالي لا يصعب على المصمم إستخدام عناصره في الإيحاء بجو عام للمنظر المسرحي يعبر ويقول من خلاله بأسلوب ربما تجد الكلمات صعوبة في شرحه .. مثلاً:
المنظر غرفة طالب في الجامعة .. غرفة بها سرير ودولاب ومراية ومكتب .. هنا المصمم لايضع أي من هذه العناصر لمجرد توافرها في مخزن الإكسسوار .. ولكنه يصمم كل عنصر بناء علي تحليله لشخصية صاحب الغرفة وعلاقته مع باقي الشخصيات داخل المسرحية المقدمة .. فمثلاً شكل ظهر السرير يختلف خطوطه ولونه حسب طبيعة الشخصية .. فالسرير ذو الخطوط المنحنية غير النصف دائري غير المثلث غير المستطيل .. وهكذا في كامل تصميم الغرفة .. ولكل من ذلك إيحاؤه .. الذي يصل للجماهير حتي لو علي مستوي الإحساس لمن يكون منهم غير مثقف بصرياً.
نفس الموضوع بأسلوب أخر يمكن إستخدام عدة مرايا في الغرفة مبالغ في عددها وأحجامها وزوايا وضعها .. بحيث أن تري الشخصية نفسها عند كل حركة .. إنعكاساً علي إنغلاق الشخصية علي نفسها وتمحورها حول نفسها.
وإذا مثلاً جئنا إلي أسلوب تصميمي أخر لشخصية هاملت المهزوز المتأرجح دائما بين الفعل أو اللا فعل .. فيمكن أن نصمم له مقعداً كأنه نصف بيضة غير ثابتة أبداً وتهتز وتقلقل جلسته مع كل حركة .. وبإمكانيات أبسط يمكن فقط أن نقلل أحد الأرجل الأربعة لمقعد أخر عن الثلاثة الباقيين فيعطي نفس الأثر.
وهكذا للمصممين حيل كثيرة ومفردات تشكيلية تكمل معاني المنطوق اللفظي وتعمق الإحساس بأجواء العرض.
نفس الموضوع في الأزياء المسرحية .. والإضاءة التي بدونها لايوجد سينوجرافيا أصلاً .. ومع وجودها يبدأ الإحساس بالأبعاد والظلال والنور الذين يوحون بالأبعاد النفسية والدرامية للعرض فضلاً عن الأبعاد الجمالية.
ربما كانت اللغة التشكيلية للسينوجرافيا صعبة علي غير المثقفين تشكيلياً .. ولكنها أبداً لاتخطئ إحساسهم .. ومن هنا تكمن أهمية اللغة السينوجرافية للعرض في إضافة قراءات مختلفة لمستوي تلقي المشاهد للعرض .. كل حسب ثقافته.
وبما أنني أنتمي إلي الممارسين لتصميم الديكور المسرحي أكثر مما أنتمي إلي الباحثين الأكاديميين .. فلتسمحوا لي بإستعراض بعض التصميمات المسرحية التي قمت بها .. مع شرح للغة التشكيلية التي تم إستخدامها.
( قدمت هذه الورقة في الندوة الرئيسية بأيام قرطاج 21)

 


حازم شبل