العدد 637 صدر بتاريخ 11نوفمبر2019
في الإشارة إلى الأبعاد باعتبارها خاصية ذات مغزى للتجربة ككل، تؤكد سيكولوجية التركيبات الشخصية بشكل أساسي علي مفهوم مكاني أو هندسي للمعنى. ولكن هندسة المعنى هذه ليست جامدة . إذ يمكن أن يٌرى أي تغير في إطارها باعتباره نوعا من الحركة . وبالطبع كما قال ( جورج كيلي George Kelly) “ان تركيزنا، ان وجد، فانه ينصب بقوة علي الطبيعة الحركية للمادة التي نتعامل معها. ولأهدافنا، فان الشخص ليس كائنا في حالة حركة بل انه هو نفسه شكل من أشكال الحركة “ . ثم قال بعد ذلك “ أحد طرق التفكير في البناء هو باعتباره مسارا للحركة” . وتعتمد ممارستي العملية علي توليفة من علم نفس البناء الشخصي Personal Construct Psychology، وعمل ( ف م الكسندر FM Alexander) الذي أطلق عليه اسم “ اعادة التأهيل النفسي Psychological re-education” . وما أريد أن أقدمه هنا هو الاعتماد علي الفينومينولوجيا عند (ميرلوبوني) لاكتشاف أسس عملي، وأقدم أيضا بعض النقاط الأساسية عن المغزى الخاص للمعنى الحركي باعتباره معنى ذواتنا أثناء الفعل .
• الفراغ كوسيلة للارتباط بالأشياء :
المنطلق الرئيس في فينومينولوجيا (ميرلوبونتي) هو أولوية الإدراك، والزعم بأن التجربة الأصلية سابقة علي كل التجريدات التي نستنبطها منها . فالتجربة الفردية هي التي يٌستمد منها كل فهم آخر . وكل بناءاتنا النظرية، وكل نماذج الحقيقة المادية، وكل المبادئ التي نستخدمها لتفسير الأحداث التي نعايشها – مختزلة من التجربة الشخصية الأصيلة، وبالتالي فهي لاحقة لها . وسواء في حالة تصوري للعالم أو تصوري لذاتي، فان الكل بالمعنى الأساسي سابق علي الأجزاء لأنه السياق الذي توجد بداخله الأجزاء . وإصرار (ميرلوبونتي) علي أولوية الإدراك له قواسم مشتركة مع رؤى (جون ديوي John Dewey ) الذي قال (كيلي) ان فلسفته يمكن قراءتها بين سطور سيكولوجية البناءات الشخصية .
وفي سلسلة من الدراسات يناقش (تريفور بوت Trevor Butt) مختلف النقاط التي ساهمت فيها أعمال (ميرلوبونتي) في سيكولوجية البناءات الشخصية – ولاسيما تأكيده علي الأبعاد الجسمية في البناء . وفي هذه الدراسة أريد أن أقدم تأكيدا خاصا علي المكانية الجسدية Bodily Spatiality التي يجد (ميرلوبونتي) أنها في صلب الإدراك. واكتشاف هذه المكانية يمكن أن يساعد في توجيهنا الي تأمل المعنى الذاتي للشخص ككل – بمعنى أنه مبني ومتجسد .
وتٌستمد فكرة المكانية عند ( ميرلوبونتي) من فكرة أولوية الإدراك بالنسبة للذات المتجسدة. فالخاصية المكانية لموقع الفرد مرتبطة بكل من الجذور قبل الموضوعية pre-objcetive لإدراكه وبتجسده كذات واعية . فأنا كذات واعية أسقط الفراغ حول نفسي، وأحدد مواقع الأشياء فيه . هذا الفراغ باعتباره أصله غير القابل للاختزال، ليس هو مكانية وضعه بل مكانية موقفه، كما يقول (ميرلوبونتي) . فالفراغ ليس هو المحيط الذي يتم فيه ترتيب الأشياء، بل هو الوسيلة التي يصبح من خلالها وضع الأشياء ممكنا ... إذ يجب أن نفكر فيه باعتباره القوة العامة التي تمكن الأشياء من الترابط . وبالتالي، فان المكانية في الأصل ليست خاصية ترتيب الأشياء، بل هي بالأحرى خاصية علاقتي بالأشياء ؛ انها بالطبع قوة إدراك الذات لفهم الأشياء باعتبارها مترابطة . ولكن في التجربة المشتركة يمكن أن تترابط الأشياء بعدة طرق ؛ فارتباط المسافة الهندسية والاتجاه هو طريقة واحدة فقط . فالفراغ العادي للهندسة – فراغ الموضع – يمكن رؤيته كجزء من فراغ الموقف الأكثر عمومية . انه الفراغ النموذجي بالتحديد لأنه الأكثر تجريدا في التجربة كلها . ولكن لكل إدراك بنية تشبه الفراغ . واذا تأملنا التجربة البصرية العادية، في النظر مثلا إلى مصباح علي الطاولة، أو التجربة الأعم في تفسير شكل ووضع المصباح في الإطار المادي والجمالي والثقافي أو السياسي، فسوف نجد أنفسنا نتحدث عن المنظور الذي نشاهدها منه .
والمكانية التي نستمد منها هذه المنظورات، رغم ذلك، أكبر من إطار الإدراك، وأكبر من أي مساحة خالية تحدث فيها الأشياء المدركة . فكل من الفراغ الهندسي العادي، وفراغ المعنى الأكثر عمومية يتأسسان في يسميه ( ميرلوبونتي) “الفراغ الجسمي Bodily space”، وبالتالي له طبيعة حركية . فالمكانية لها علاقة بالحركية . ولأنه الفراغ الذي أتحرك فيه فمن الممكن أن يكون الفراغ الذي أدركه . فعندما أرى شيئا من منظور معين، فإنني لا أدركه فقط كصورة مرتبطة بذلك المنظور . إنني أدرك الشيء ككل، وجزء مما يجعلني من الممكن أن أرى الشيء كاملا هو قدرتي علي التحرك فيما يتعلق به . فظهور الشيء كما هو في ظل الظروف الحالية، مثل مشاهدة المصباح من زاوية بعينها في ظل ظروف إضاءة بعينها، لا ينفصل عن سياق الطرق التي يمكن أن يظهر بها في ظروف أخرى . فربما أتحرك فعلا إلى جزء مختلف من الغرفة لمشاهدة المصباح من زاوية مختلفة، أو ربما أغير الإضاءة . وربما أفعل ذلك أو لا أفعل، ولكن من وجهة نظر (ميرلوبونتي)، فان إمكانية التحرك في علاقة مع المصباح هي التي تجعلني أدركه كمصباح، بهذا الشكل واللون .. الخ . ولكن يمكنني أن أذهب إلى أبعد من ذلك . إذ يمكنني أن أرى المصباح أو أتفاعل معه علي نحو ما، من منظور سياسي فضلا عن المنظور المادي . فليست ماهية السمات فقط التي ألاحظها هي المشروطة بالمنظور الذي اتخذه بل ما هي أنواع هذه السمات المشروطة أيضا، ومرة أخرى، إن احتمال اتخاذ عده منظورات هو لب قدرتي علي إدراك المصباح بما هو عليه، وأن أدرجه في تجربتي ذات المعنى . وبذلك، بينما يحمل الإدراك أولوية علي التجريدات التي يستنتج منها، فيكون الإدراك نفسه ممكنا فقط في سياق الفعل . ومن المنظور المادي أو الجمالي أو السياسي، ربما أدرك أن المصباح اسطواني أو محكم بشكل مبهج أو في مكان مهين . فسمات المصباح هذه بالنسبة لي هي معاني من منظوري، وفي سياق المعاني الأخرى التي يمكن أن اتخذها . فإدراك المصباح باعتباره اسطواني يعني أن أعرف الشكل فيما وراء المستطيل الذي أراه من الجانب والدائرة التي يمكن أن أراها من أعلى . وإدراك ذلك كدعوة يعني توقع الوصول الي لمس السطح . واعتباره مهينا من خلال موقعه يعني تقدير معنى أن تكون جالسا علي الجانب الآخر من الطاولة . وفي كل حالة يكون اتخاذ منظور جديد هو نوع من الحركة في فراغ المعنى، وهي بالأساس حركة بدنية . وكما سنرى فيما بعد، فان الإحساس الحركي باعتباره إحساسا بحركة الشخص، له مكانة خاصة وحدود خاصة بالنسبة لكل المعاني التي ندرك بها العالم خارج أنفسنا .
• من فراغ الشيء إلى فراغ المعنى :
كيف يمكننا إذن أن ننطلق من الفراغ الذي ندرك فيه الأشياء إلى الفراغ الذي ندرك فيه المعاني ؟ من هناك كيف يمكنني الوصول إلى عالم له معنى بالنسبة لي، وهو العالم الذي تكون لحركاتي فيه معنى ؟ أعتقد أن الإجابة تكمن في التفاعل بين بعد تجربتي واستمراريتها . فمكانية جسمي ومكانية العالم الخارجي – البعدين الداخلي والخارجي للمعنى – مربوطان معا في استمرارية التجربة الجسدية . إنها تلك الاستمرارية، وتلك الوحدة المستمرة في الفعل البدني، لا تصنع فقط مجرد أبعاد الفراغ الذي ألاحظه، بل أبعاد العالم الذي أمثل فيه . وتفاعل تلك الأبعاد داخل تلك الاستمرارية يمنح الحياة خاصية درامية . ويؤكد كب من (ميرلوبونتي) و (ديوي) علي الخاصية الدرامية للتجربة الشخصية . وإذا كان الأشخاص، كما يقول (جورج كيلي) من العلماء أساسا في توقع الأحداث وتفسيرها، فإنهم أيضا ممثلون في مشاركاتهم المثيرة في الأحداث . ويمكننا أن نوضح هذه المكانية الجسمية بدراسة الممثل علي خشبة المسرح باعتباره مثالا للشخص الذي يؤدي دورا .
كل وجود موجود في الوجود . فأنا موجود كذات بقدر ما أحتفظ بنفسي تمايز مع الأشياء في عالمي . ومن الممكن أن يكون هناك أشياء في العالم لأنني، كذات، يمكنني أن أقول إنني موجود هنا، في علاقة معهم . فكل مجموعة من الروابط المحتملة بين أشياء ذات معنى، من خلال الجسم الموجود في العالم، هي عالم يمكن أن يسكنه هذا الشيء و بالإشارة إليه يمكنه تعريف نفسه وتحديد أفعاله . وطبقا ل (ميرلوبونتي) فان جوهر الوعي هو أن يقدم نفسه في عالم واحد أو عدة عوالم، لكي يظهر أفكاره أمام نفسه وكأنها أشياء ... وحيازة الجسم تعني القدرة علي تغيير المستويات وفهم الفراغ . وبالتالي فان وجود الذات المتجسدة يكمن في تشكيل نفسها في أي لحظة معينة في عالم معين أو في مجموعة من العوالم، ويعتمد استمرار هذا الوجود علي القدرة علي التحول من عالم لآخر . فأسئلة المعنى دائما هي أسئلة العلاقة بين العالم والمعلوم . و” أنا أكون” هي تأكيد بسيط ؛ فمن أكون قابلة للتعريف فقط في علاقة . ولكن إذا كان الفراغ هو القوة العامة التي تمكن الأشياء من الترابط، عندئذ لا يتعلق المعنى بماهيته، بل يتعلق بالأحرى بالطرق التي يمكن أن تكون الأشياء من خلالها بخلاف ذلك . وكما يقول (كيلي ) :
لذلك يمكن اعتبار أي مقولة تطرحها إجابة علي ســؤال –
سؤال متحيز – ويظهر كاختيار محدد بين بدائل سبق طرحها.
علاوة علي أن أي فعل، أو تجربة، يمكن اعتبار أن لها هذه
خصائص ذات أبعاد ... فأي بعد أو شعور أو مقـولة تؤثر في
نقيضهـا الذاتي الذي بدونـه لا يكــون لهــا أي مغــزى نفسـي للشخص المعني .
أعتقد أن ما يذكرنا به ( كيلي في هذه المقولة هو أن البنيات الإدراكية أو المعبر عنها لفظيا ليست أساسية بأي حال . إنها علي العكس من ذلك بالطبع ؛ فمثل هذه البنيات مستنتجة من خصائص بعدية أوسع للتجربة . وربما أبعد من ذلك، المعنى مرتبط دائما بالقصد . لأن المعنى الشخصي الخاص بي ليس فقط علاقة بين ذاتي والبيئة التي أعرفها، بل انه علاقة مربوطة بشكل لا مفر منه بالأفعال والأهداف داخل بيئتي . وسمات مثل “ انحدار” جبل لها مغزاها بالنسبة لي في علاقة، مثلا، مع قصدي لتسلقه . ويمكن اختزال أي مستوى لتعيين الموضع، وأي مستوى لفراغ المعنى، ولكن الكل يحدث في علاقة مع القصدية المتجسدة (ووفقا لعبارة ميرلوبونتي الذاتية المتجسدة ) لشخص في موقف . ومن خلال بحث الحالات المرضية التي يفقد فيها المريض هذه القدرة علي التحرك بسهولة من موضع لآخر، من تجارب في تحول المجال الإدراكي، اكتشف (ميرلوبونتي) أن “المهم في توجه المشهد ليس هو الجسم الموضوعي بل المهم هو جسم افتراضي بمكانه الظاهراتي المحدد بمهمته وموقفه “ . ويخلص فيما بعد الي أن “ دائما ما يدعونا جسمنا وإدراكنا إلي أن نتخذهما كمركز للعالم وهو البيئة التي يقدمانا بها. ولكن بتلك البيئة ليست بالضرورة بيئة حياتنا .
• ما يكشفه التمثيل عن الفعل :
هنا ربما نستنتج التوازي بين الشخص العادي والممثل علي خشبة المسرح . فالقدرة علي التصرف والتوظف “ كجسم وذات “ متكاملة تعتمد علي حرية اختيار مستوى المساحة الظرفية التي نعمل فيها، لاختيار مهمتنا، وانتقاء مجموعة من المعاني من تلك المحتملة بالنسبة للأشياء من حولنا . وعن الإشارة إلي الممثل علي خشبة المسرح كنموذج لتمثيل الشخص العادي في الحياة، يقول ( ميرلوبونتي) “أن تمثل يعني أن تضع نفسك للحظة في موقف متخيل، لكي تجد الرضا في تغيير وضعك “ . فالرجل العادي والممثل لا يخلطان بين المواقف المتخيلة والحقيقية، بل يخلصا جسميهما من الوضع المعاش لجعلهما يتنفسان ويتحدثان، وإذا لزم الأمر يبكيان في مجال الخيال “ . والتمثيل بهذا المعني، سواء علي خشبة المسرح أو في الحياة، هو عملية لإعادة بناء المعنى . فالأمر لا يتعلق بتمثيل العالم بل خلق عالم جديد ربما نقيم فيه لفترة من الزمن . انه أيضا يستخدم أبعاد المعنى التي نتجاوز من خلالها توليد ما نعرفه في اتجاه خلق تجربة جديدة مشابهة لما نعرفه بطرق معينة . فمن وجهة نظر ( كيلي)، نحن أحرار ليس فقط في أبعاد بناءنا للمعني، بل أيضا في مستوى الأبعاد . بالطبع، يبدو أننا نجد أنفسنا أحرارا في مستويات البناء أبعد من ذلك الذي يكمن في اهتمامنا الواعي وفي نفس الوقت يتحدد بالنسبة للمستويات الأعلى منه . الحرية الحقة، اذن، تتضمن حرية الحركة بين المستويات نفسها . وهذا قريب جدا من مقولة (ميرلوبونتي) “ القدرة علي تغيير المستويات وفهم الفراغ. ومع ذلك، من المهم أن نلاحظ أنه بما أن الفراغ الجسدي هو الأرضية التي تنطلق منها كل الفراغات الأخرى، فان عملية التخلص من جسدي الحقيقي لن تكتمل أبدا.
من الجدير بالذكر أنه يمكنني أن أختار بحرية أي من المستويات المحتملة للفراغ الظرفي لأنني لن أكون أبدا موضوعا لذاتي . وهذا أحد المعاني التي يستطيع ( ميرلوبونتي) أن يصف بها مكانية الجسم نفسه باعتباره “ الظلام المطلوب في المسرح لإظهار الأداء . أن مهمة الوعي الدائمة هي تأسيس حدود عالم معين والمحافظة عليها، لتشكيل القوى التي تنشأ بها معاني هذا العالم، للحفاظ علي الموقع العام ممكنا صراحة لفهم الذات، وبالتالي للاستمرار في إعطاء معنى للذات بالنسبة لهذا العالم . وربما نريد أن نقول أن الوعي هو أداء هذه المهمة . وهذه بشكل تناظري مهمة المسرح، ولاسيما الممثل علي خشبة المسرح . وقد ظل السؤال الجمالي والأنطولوجي هو، ما لذي يقدم علي خشبة المسرح ؟ وما الذي يفعله الممثلون ؟ ومن الممكن أن نرى في هذا الإطار أن ما يفعلونه هو تبني جسما افتراضيا مختلفا عن جسمهم المعتاد ( رغم أنه كامن فيه)، ويمكن أن نرى علاوة علي ذلك أن الدراما تتكون من خلق العالم الذي يسكن فيه هؤلاء الناس الافتراضيون . وبالتالي فان العالم المسرحي ليس تمثيلا لواقع، بل هو واقع في ذاته . مع أنه عالم معني بأن يكون له وجود موضوعي بالنسبة للمتفرج . وربما يتضح هذا بتأمل الظلام الفعلي في المسرح وكيف أن استعارة (ميرلوبونتي) يمكن أن تعبر عما يفعله . ففي المسرح، يكون كل عالم المسرحية علي خشبة المسرح ؛ وهو عالم ينطلق بواسطة الانتقال السريع إلي منطقة عدم التحديد ألا وهي الظلام . وهذا العالم الموجود علي خشبة المسرح يمكن أن يكون عالما باعتباره عالما متضمنا داخل الظلام في المسرح . وكذلك الحال أيضا في حياة الإدراك، فإنعام النظر علي أي مكان يمنعنا من رؤية أي مكان آخر . ولتفسير عالمنا طبقا لمجموعة أبعاد معينة يجعل الأبعاد الأخرى غير متاحة في في تلك اللحظة . ومتابعة مسار حركة يجعل المسارات الأخرى متعذرة .
• ما هو الأداء :
إذا عرّفنا الأداء بمعنى عام باعتباره مشاركة في فعالية وكأن خاصية الفعالية مهمة لنا بشكل ما، سواء كان هناك شخص يشاهد من عدمه، والأداء بالمعنى المسرحي، هو الفعالية الذي تكون فيه الخاصية مهمة لأن هناك شخص ما يشاهد . فهو أداء لشخص ما . فالمشاهد يمثل موضوع الإدراك الحسي ؛ فخشبة المسرح هي العالم بالنسبة لهم، وهم في الظلام ليسوا موضوعات لذواتهم . وبشكل تقليدي، لقد كانت الصورة الاضافية لهذا الظلام المسرحي أنه يخفي المتلقي عن شخصيات المسرحية، فهم مشاهدون غير مرئيين وفي أمان من نظر الآخرين وليسوا موضوعا لهم . فهم إدراكيا علي خشبة المسرح، بمعنى أنهم في عالم المسرحية – ولكنهم ليسوا موجودين بالنسبة للآخرين الموجودين في عالم الشخصيات . إذ يمكنهم أن يروا ويسمعوا ذلك العالم، لا يستطيعون التصرف بناء عليه . فكل عضو من المشاهدين هو كائن غريب، حضور بلا جسم، وفي النصف الأخير من القرن العشرين وجهت بعض التجارب المسرحية نحو خرق هذا الظلام الواقي – ان جاز التعبير، تنوير المشاهدين من الخلف وجعلهم بشمل كامن هدف للشخصية. فعادة ما يٌنتهك الظلام بطريقة محدودة عندما نذهب الي المسرحية مع شخص آخر . اذ يكون الانتقال إلي الظلام سريعا، ولكنه لا يكون آنيا ولا كاملا .
بعد أن عرفنا فراغ المسرحية باعتباره منطقة خشبة المسرح، نمضي الي بناء بيئة في ذلك الفراغ وتبدأ الشخصيات في أن تسكنه . وهذا يوضح تمايزا آخر بين نوعي الفراغ . ففراغ الموضع هو الذي يكرس نفسه ليكون خاليا، توجد فيه الأشياء فقط، وبالتالي فانه مستقل عنها . ولكن فراغ الموقف، سواء باعتباره معطى للمشاهدين أو للشخصية فانه مغلف بهذه الأشياء التي فيه – الديكور والأدوات والملابس والإضاءة ... الخ – ومغلف أيضا بحركة الشخصيات الموجودين فيه، وتتحدد بنية مكانيته نفسها بهذه الأشياء . فالفراغ المنعكس علي خشبة المسرح بواسطة جسم – ذات هو من ناحية مساحة خالية يجب ملئها، ومن الناحية الأخرى احتمالات لا نهائية للتشكيل والتكوين في عالم المسرحية .
....................................................................................
• ديفيد ميلز وهو حاصل علي دكتوراة في فلسفة الأداء .. عضو مؤسس في مدرسة الأداء في سياتل بولاية واشنطون .
• وقد نشرت هذه الدراسة في مجلة Personal construct theory and practice العدد 2 2015.