عفاريت خالد جلال.. ورحلة مجانية لزمن الفن الجميل

عفاريت خالد جلال.. ورحلة مجانية لزمن الفن الجميل

العدد 631 صدر بتاريخ 30سبتمبر2019

ستشعر عزيزي القارئ بعد مشاهدتك للعرض المسرحي “سينما مصر” بمركز الإبداع الفني، بأنك لم تكن في مسرح بمعناه وشكله التقليدي، بل سيتهيأ لك أنك كنت بداخل “بيت للأرواح” تتجسد فيه عفاريت وأرواح فناني الزمن الجميل من خلال روائع أفلامهم القديمة، ولكن التجسيد هنا هذه المرة ليس أمام الشاشات، ولكنك ستراه أمامك لحما ودما على المسرح فلا تستطيع معهم التفرقة بين الحقيقة والخيال، من خلال سبعة وستين ممثلا وممثلة يتقمصون أرواحهم بمنتهى الحرفية والبراعة بعد تدريبات شاقة تعدت السنة على يد معلمهم خالد جلال المنوط له بتحضير تلك الأرواح والعفاريت على المسرح، يبدأ العرض المسرحي “سينما مصر” منذ لحظة دخول الجماهير لحجز مقاعدهم بصالة العرض من خلال شاشة سينمائية في العمق وبطول خشبة المسرح يعرض عليها مادة فيلمية لمجموعة مشاهد متفرقة مختارة بعناية لفيلم “الليلة الأخيرة” من بطولة فاتن حمامة ومحمود مرسي وأحمد مظهر وآخرين، قام بعمل المونتاج لها بحرفية عالية فاروق قاسم، تتم إعادتها مرات ومرات حتى بداية العرض، بينما تجد على يمين ويسار المسرح بشكل مائل ومتوازي يصطف الممثلون والممثلات وهم يعطون ظهورهم للجمهور وعيونهم على شاشة العرض بزي أسود موحد، وكأنهم في عزاء يترحمون على عظماء هذا الجيل وزمنهم الجميل، ثم يبدأ العرض المسرحي بعد أن يقدمهم خالد جلال للجمهور، وقد أراد هنا المخرج من خلال فيلم “الليلة الأخيرة” أن يجعل من فكرة هذا الفيلم حلقة الوصل التي تربط كل مشاهد العرض ببعضها البعض، حيث تقوم فكرة العرض المسرحي هنا على مشاهد متفرقة من أفلام قديمة مختلفة يعيد تجسيدها هؤلاء الممثلون بنفس الملابس والإكسسوارت التي كان عليها أبطالها بل بنفس أرواحهم أيضا، ويتخلل هذه المشاهد من الأفلام فواصل متفرقة من فيلم “الليلة الأخيرة” الذي يربط بينهم جميعا، بنفس الزي الأسود الذي يرتدونه طوال العرض، ومع كل فاصل نشاهد ممثلين وممثلات مختلفين عن الفاصل السابق يقومون بهذا التجسيد لمشاهد الفيلم الذي يدور حول “نادية” – فاتن حمامة - التي ترغب في استرداد ذاكرتها المفقودة، وتجد هناك من يعاندها في ذلك ويحاول طمس هويتها وشخصيتها وعدم عودة الذاكرة لها مجددا، متمثلا في زوجها – محمود مرسي - ومحاولة إقناعها أن “نادية” ماتت وأنها تكون أختها “فوزية”، بينما هناك من يحاول معاونتها في رجوع ذاكرتها متمثلا في الطبيب الخاص بها – أحمد مظهر – وقد أراد المخرج هنا ضرب عصفورين بحجر واحد من خلال طرح إسقاطين أحدهما صغير والآخر كبير، والإسقاط الأصغر هنا من خلال ذاك الفيلم الذي يربط بين كل مشاهد العرض المسرحي أن المخرج أراد أن يقول لنا بأن السينما هي مثل “نادية” تلك الفتاة الجميلة البريئة ذات التأثير القوي الناعم التي يحاول خفافيش الظلام دوما طمس هويتها وذاكرة تاريخها والقضاء عليها خشية تأثيرها الإيجابي على كل من يشاهدها، أما الإسقاط الأكبر هنا من خلال ذاك الفيلم أنه أراد أن يقول لنا إن “نادية” هي “مصر”، ويتجسد هذا الإسقاط بقوة في عدة لوحات أهمها لوحة فيلم “ناصر 56” وخطبة الزعيم جمال عبد الناصر، وكذا لوحة فيلم “أيام السادات” وحديث السادات الشهير مع الكوافير الخاص به عن معاهدة السلام التي سعى إليها مع إسرائيل والمثال والتشبيه الرائع الذي طرحه أمامه، كما يتجسد المعنى بقوة أيضا في المشهد الأخير من العرض المسرحي حيث نجد كل فتيات المسرحية وتحديدا من جسدوا شخصية “نادية” بزيهم الأسود وقد توحدوا جميعا أمام شخص واحد يجسد كل قوى الظلام التي تسعى لوأد “نادية – السينما – مصر” وطمس هويتها ومحو ذاكرتها نتيجة زعامتها وتأثيرها القوي على كل من حولها والذي يخيفه ويهدد نفوذه وأطماعه. ومن هنا جاءت فكرة اسم المسرحية “سينما مصر”، لكنه يفشل أمام توحدهم جميعا ضده وقد استعادوا ذاكرتهم المفقودة، فيفزع منهم ويحاول الهرب معلنا فشله وهزيمته في محو ذاكرتها، بعد أن قامت كل الفتيات بنزع ستائر جدران المسرح التي تحجب تلك الذاكرة لتكشف للجمهور عن صور لرموز تلك الفترة بفنانيها وزعمائها العظماء، لتنتصر “نادية” في النهاية بماضيها وحاضرها ومستقبلها.
أجاد جميع الممثلين والممثلات هنا تجسيد جميع الشخصيات السينمائية الموكلة إليهم بل هناك البعض منهم من جسد أكثر من شخصية بنفس البراعة والحرفية رغم الاختلافات الجذرية بينهم شكلا وموضوعا، ورغم تألقهم جميعا اللافت للنظر إلا أن هناك البعض منهم الذي وصل بأدائه وتقمصه إلى حد الإبهار شكلا وموضوعا في التجسيد، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: دينا السيد في تجسيدها لشخصية “هند رستم”، أحمد سعد والي في تجسيده لشخصية “إسماعيل ياسين”، دينا عماد في تجسيدها لشخصية “نجمة إبراهيم”، نهى جابر في تجسيدها لشخصية “ماجدة الصباحي” من فيلم “جميلة بوحريد”، عمرو كمال بدير في تجسيده لشخصية “أنور وجدي”، علاء النقيب في تجسيده لشخصية “عادل إمام” من فيلم “طيور الظلام”، غادة طلعت في تجسيدها لشخصية “ماري منيب”، إبراهيم طلبة في تجسيده لشخصية «أحمد مظهر» من فيلم “الشيماء”، نيفين بطرس في تجسيدها لشخصية “أم حميدة” من فيلم “ابن حميدو”، شيماء عباس في تجسيدها لشخصية “شادية” من فيلم “زقاق المدق”، نورهان المرحومي في تجسيدها لشخصية “نادية لطفي” “لويزا” من فيلم “صلاح الدين”.
الاستعراضات بالعرض المسرحي لم تكن مبتكرة بل جاءت على نفس وتيرة العرض وهي استعراضات مقلدة أيضا من بعض الأفلام السينمائية مثل استعراض “حلاوة شمسنا” الذي أراد خالد جلال من تكراره في بداية العرض ونهايته أن يرمز إلى أن شمس الفن لن تغيب أبدا، وكذا استعراض “معانا ريال” لأنور وجدي والطفلة فيروز، وكلها جاءت استعراضات دقيقة للغاية وبنفس روح وإبهار الاستعراضات الأصلية التي أحسن المخرج انتقائها نتيجة لأنها تركت بصمة في السينما المصرية، أجاد المخرج هنا اختيار الأصوات الغنائية: أميرة رضا، حبيبة حاتم، منار الشاذلي، إيمان الشريف، فرح عناني، محمد عبده، أحمد الحسيني، التي قامت بأداء أغاني الزمن الجميل كما قاموا بغناء أغاني العرض الأصلية من أشعار عماد عبد المحسن وألحان منار الشاذلي التي أجادت إلى درجة كبيرة ابتكار اللحن المتناسق مع الكلمة، فجاءت الأصوات جميعها متمكنة مشبعة بالإحساس وبنفس روح وتيمة العرض.
وكما اعتدنا دوما في كل عروض خالد جلال بمركز الإبداع فهو لا يعتمد على الديكور المجسد بشكل حرفي بل دوما يكون اعتماده الرئيسي في كل عروضه المسرحية على الممثل فقط لا غير مع استخدام بعض الموتيفات البسيطة التي يوظف الممثل جيدا على حسن استخدامها لتعبر للمتلقي عن المكان المراد منه المشهد، كما يهتم خالد جلال أيضا في عروضه بعنصر الإبهار والدقة في تصميم أزياء وإكسسوارت العرض التي جاءت جميعها في هذا العرض تحديدا قمة في الإتقان والمحاكاة لتلك الفترة الزمنية حيث قامت أسماء عبد الشافي بتصميم أزياء شخصية نادية، بينما قام بتنفيذ أزياء شخصيات السينما المصرية في العرض كل من: منار مجدي، أميرة صابر، صفاء سيف، مروة الكافي، محمد عاصم السيد، محمد البدراوي، حمادة عساكر، سيد حسن، محمد ناجي، ويرجع كثرة هذا العدد من المنفذين لأول مرة نتيجة أنهم يقومون بتنفيذ الأزياء لعدد 52 فيلما سينمائيا، تلك المجموعة المتميزة التي أجادت محاكاة نفس أزياء نجوم تلك الأفلام على الرغم من كون هذه الأفلام مسجلة بالأبيض وأسود.
لا مجال هنا في هذا العرض تحديدا للحديث عن طول مدة العرض المسرحي التي استغرقت ساعتين من الزمن، كما اعتاد الكثير من النقاد عندما ينتقدون العروض الطويلة زمنيا، وذلك يرجع لعدة أسباب ألا وهي أن مدة العرض هنا تعد قصيرة ومنجزة قياسا بكم وعدد المواهب التمثيلية الضخمة المشتركة في العرض، فأنت أمام سبعة وستين ممثلا وممثلة متساوين جميعا في حجم موهبتهم، لزاما على المخرج هنا أن يكون عادلا ومنصفا في إظهار مواهبهم جميعا لعامة الجمهور وصناع السينما، وهو ما حرص عليه خالد جلال في ذاك العرض المسرحي الضخم، كما أن أيضا عنصر الملل الذي يتسرب للمتلقي بسبب طول مدة العروض الزمنية لا تجده هنا بتاتا في هذا العرض المسرحي “سينما مصر” الذي نجح المخرج بخبراته وحرفيته الكبيرة أن يسلب فيه أرواح الجماهير من أول إلى آخر دقيقة بالعرض لتتوحد مع أرواح فناني العرض تفاعلا مع عالم روحاني أصبح ماضيا، هناك من عاصروه ومن ثم يسترجعون هنا ذكرياته الجميلة من خلال العرض، وهناك من لم يعاصروه إلا من خلال هذا العرض المسرحي فينبهرون به، من خلال تفاعلهم مع سبعة وستين عفريت تمثيل من عفاريت خالد جلال.
وفي نهاية العرض المسرحي وبعد تحية الجمهور يقدم لنا خالد جلال لفتة إنسانية رائعة في كل ليلة من ليالي العرض تعد جزءا لا يتجزأ من العرض المسرحي وتتماشى مع طبيعته واسمه “سينما مصر” ألا وهي حرصه في كل ليلة مسرحية على منح شهادة تكريم لاسم شخصية سينمائية سواء إن كانت في التمثيل أو الإخراج أو التصوير أو الإنتاج.. إلخ، ما زالت تعيش بيننا أو رحلت عنا لأسرته أو للمكرم شخصيا، فتحية إعزاز وتقدير لهذه اللفتة الإنسانية الكريمة.


اشرف فؤاد