ما بعد بريخت تأثير المسرح بين الوسائطي

ما بعد بريخت تأثير المسرح بين الوسائطي

العدد 626 صدر بتاريخ 26أغسطس2019

ينشأ هذا المقال من المناقشات المستمرة في المسرح وبين الوسائطية لفريق العمل في الاتحاد الدولي للبحوث المسرحية Working Group of the Federation international pour la Reseache theatrale. إذ بعد أن تأثرت بالادعاءات التي أطلقها بعض المعلقين مثل (بونيش Boenisch) حول تأثير المسرح بين الوسائطي، بدأت أتساءل ما هو التأثير المفترض عموما لمثل هذا المسرح والأداء؟ وأقول التأثير المفترض، وفقا لمعلوماتي، لأنه لا يزال يتعين إجراء بحث جوهري حول تأثير نشر تكنولوجيا وسائط جديدة في المسرح الحي. ومع ذلك، يبدو أن هناك افتراضا واسعا – من جانب الذين يشاركون في ممارسات المسرح الوسائطي وأولئك الذين يعايشونها – بأن المسرح الوسائطي يزعم لنفسه عباءة التطرف. وقد تصبح هذه العباءة خيطا صغيرا مثل تطلعات المسرح الطوباوية التاريخية التي فشلت في الوفاء بوعدها للجمهور، على الأقل بالنسبة للمسرح الذي يقام داخل المباني، والذي يبدو أنه تراجع في جميع أنحاء العالم. وقد ينعش اشتراك المسرح الحي في تقنيات الوسائط الجديدة، التي أنتجت بالتأكيد طرقا جديدة ومثيرة في التقديم، الاهتمام بالمسرح ويبث حياة جديدة في مشروعه الجليل: قد يُحدث هذا المسرح فرقا في العالم عن طريق التواصل الاجتماعي والتدخل في الأمور الجمالية والأخلاقية والسياسية.
ويجب أن أعترف عموما بأنني لم أعد في مكانة تسمح لي بتقديم معلومات أقوى عن تأثير المسرح الوسائطي أكثر من المعلقين، وأن هذا المقال يظل مقالا مفاهيميا، هدفه كشف العقد المركبة، علاوة على أنه يشاركني تجاربي، فضلا عن تقديم معلومات قوية. وكما سبق أن قلت في موضع آخر، أعتقد أن الأدلة القصصية القائمة على الخبرة يمكن أن تكون ثاقبة في ما يتعلق بمواجهة الفنون. وأسئلتي الاسترشادية هي: هل يتخلص المسرح الوسائطي من بعض المؤثرات فضلا عن أخرى؟ وبتناول الإشارات إلى (بريخت)، هل للمسرح الوسائطي ميل متطرف أصيل؟ وإن كان الأمر كذلك، فما هو نوع التطرف؟ ولكن قبل أن ندرس هذه الأسئلة مباشرة، من المفيد أن نحدد الآثار والخبرات موضوع المناقشة.
ومن ناحية أخرى، في مراجعة إيجابية للوسائطية في المسرح والأداء، تلاحظ (سارة جورمان Sarah Gorman) أن تعريفات “بين الوسائطية” التي يتضمنها كتابها متعددة وشاملة. وفي هذه المقالة، لا أهتم بشكل أساسي بالمسرح بين الوسائطي المميز في المعنى التقليدي الراسخ لممارسات المسرح المؤداة حية بشكل واع أمام مشاهدين واعين، ولكنني أهتم بالمسرح الذي ينشر علانية تكنولوجيات الوسائط الرقمية. ويمكن أن يقدم عرض (جاي قيصرز Guy Caissers) «الأحمر المصبوب Rouge Decante»، الذي عايشته كثير من الوفود كجزء من مهرجان «عبر أمريكا Trans Amerique في أوسين بمونتريال عام 2007، فرصة ملائمة. ورغم ذلك، تنطوي بعض أمثلتي على مشاركة بعض أجهزة الإنترنت في العروض التفاعلية المزعومة لأنني مهتم باكتشاف جماليات وسياسات الأعمال التي تتطلب أن يناقش الممارسون بشكل حي اللعب بين الوسائط.
وأعي على الفور أنني، بهدف توضيح المصطلحات في خطاب محايد بقدر الإمكان، طرحت سؤالا مهما. وقد قمت ضمنيا بتحميل مفهوم المسرح الوسائطي مع التخلص من مبادئ التكوين الملتبسة. وهذا يعني الجمع بين عناصر منفصلة أو وسائط – إن صح التعبير – السلوك هو تجنب مواءمتها في كيان مترابط، وتركها بالأحرى في اللعب، وتركها مرتبطة ببعضها البعض بمجرد التعبير والتجاور. ويتضح من مراجعة (ديكسون) الموسوعية للأداء الرقمي، رغم ذلك، أن المقدار المهم للممارسة في هذا المجال يهدف – باستخدام تمييز (بولتر) و(جروزين) الأساسي – إلى الفورية فضلا عن التشعب. لهذا السبب وحده، يبدو من غير المفيد أن نتحدث عن الممارسات الرقمية وكأنها منفصلة جماليا، ناهيك بتطرفها سياسيا في أعقاب (بريخت). واهتمامي في هذا المقال، رغم ذلك، هو مبدئيا اهتمام بأمثلة تلك الأعمال الرقمية المتعددة التي تجذب الانتباه فعلا إلى الصيغ في مبادئ تكوينها. لأن الافتقار إلى الترابط السلس، والفجوات الموجودة بين عنصرين متشابكين فضلا عن انصهارهما، يحتاجان من المستخدم أن يكون فعالا في التعامل مع العمل. وإذا ارتبط العمل بمعنى الإطار، فإن ميله لفهم الإطار البشري (المغلف) وإدراكه للأشياء، يرضيه الانغلاق والدافع إلى التفاوض بأن المعاني والملذات محتشدة.
“الترادف Parataxis”، وهو مصطلح نحوي يستخدم للدلالة على غياب الروابط بين الأسماء والأفعال والمكونات الأخرى للجملة، يمكن تبنيه بشكل مفيد لوصف مبادئ التكوين الطباقي. والتناول الترادفي وهو النهج الذي تكون فيه الوسائط، إلى حد قليل أو كبير، مبنية في علاقة مع بعضها البعض، وتعمل بوعي في اللعب، فضلا عن اندماجها أو تناغمها. وعلماء المسرح، الملمون بنقد (بريخت) الأساسي للمسرح الدرامي، والمؤيدون للمسرح الملحمي، سوف يلاحظون في قائمته المقارنة جذور هذا التمييز بين مبادئ التركيب الترادفي والترابطي. فتطور الحبكة والتتابع، مع التركيز على نهاية المسرح الدرامي، وإبداعه لإيهام بعالم حقيقي لجذب المتلقين إلى تقمص عاطفي، هي الأشياء التي بناها (بريخت) بالمقارنة مع الانفصال الجذري للعناصر في المسرح الملحمي. والهدف هو دفع المتفرج من خلال التفكير النقدي إلى نقطة الاعتراف بأن التغيير ممكن وأن الإنسان عملية قابلة للتغيير وقادرة على التغيير. وعلى الرغم من أن الأشياء تغيرت في المسرح والثقافة منذ (بريخت)، كما سنرى، فإن مقاله الأساسي هو النقطة المرجعية في الإشارات المتعددة إليه في سياق النقاش حول المسرح بين الوسائطي.
يقترح (بونيش) تعريف “بين الوسائطية” مثلا في إطار مؤثراتها بين الوسائطية. وبوضع الوسائط (الممثلين والصور والشريط) على خشبة المسرح، يجادل (بونيش) بأن تقديمها مسرحيا يكون داخل شيء فيما وراء مجرد حضورها الأصيل (أو حتى في حضورها الأقل نقاء). إذ تتضاعف الوسائط، ويصبح كل منها العلامة والشيء في الوقت نفسه، وفجوة النوع الموصوف آنفا باعتباره البقايا الترادفية المفهومة بين العلامة والشيء. وبالتالي، فإن بين الوسائطية بالنسبة لـ(بونيش) هي تأثير الأداء المبتكر في إدراك المشاهدين، لأن الصورة المنطقية بين الشيء والعلامة هي مسألة معايشة. ويوجز ذلك بقوله:
“يضاعف المسرح موضوعاته بطريقة رائعة ويحولها إلى أشياء حاضرة فعلا وتمثيلات في الوقت نفسه – علاوة على ذلك – يتم تقديمها للشخص الذي يفهمها ويلاحظها”.
في حين أن هذا الاعتبار مقنع بشكل عام، فإنني مقتنع، كما هو ملاحظ، بأن مثل هذا الانفصال شرط ضروري، ومتأصل في المسرح بين الوسائطي. وبالطبع يمكنني أن أؤكد أهمية تمييز مبادئ التكوين المختلفة عندما أتحدث عن المسرح بين الوسائطي، ولا سيما أن كثيرا من أعماله تميل إلى الفورية.
والآثار السياسية التي يتصورها (بريخت) هي مسألة أخرى. ذلك أن افتراض تجربة الانفصال الناجم عن الاختلال الدلالي لا تبرر، في رأيي، ادعاء (بونيش) الثاني بأن بين الوسائطية تقدم منظورا للاضطراب والمقاومة وتخلق مؤثرات الاغتراب والحقائق غير الواقعية. لأنه، إذا أحدث المسرح، في طبقاته الثلاث الأصيلة، وهي الحضور والتقديم والتمثيل، فجوة بين العلامة والشيء، فلن نستطيع تمييز المسرح بين الوسائطي من النماذج الأخرى. ويتوقع (بونيش) بدرجة ما رفض مقولة إن كل المسرح يميل إلى الاغتراب. ويوضح أن:
“وفقا لمنطق التمثيل المهيمن، فإن كل هذه الطبقات البديلة والمستويات والمنظورات التي يتم تقديمها متزامنة، يمكن السيطرة عليها مرة أخرى لكي تصبح منتج تمثيل نهائي مغلق ومتماسك: من وجهة النظر المثالية، ووجهة النظر الفردية الحادة لصورة عين الكاميرا المركزة، أو المعنى الوحيد للنص”.
ويستدعي هذا الاعتبار الفورية، فالمسرح الدرامي المرفوض من (بريخت) يتعلق بمبادئ التكوين المعترف بها آنفا باعتبارها رابطة، فضلا عن أنها ترادفية. ولكن يستمر (بونيش) في الجدال بأن:
“قد تنتشر وجهات النظر المتعددة وتتصدع وتنتج فوضي من المعاني غير المرتبة، إما كنتيجة محسوبة أو كآثار جانبية هدامة إلى حد ما. إذ تتلاقى بين الوسائطية والأداء المسرحي في التقاطع متعدد الأبعاد، والمزدحم بالمنظورات, علي نفس المنصة”.
الكلمة الرئيسية هنا هي “ربما”. ولكن ما الذي يمنع منطق الهيمنة القياسية للتمثيل من العمل؟ إنه يعتمد جزئيا على سلوك المستخدم، في وضعه الثقافي. وإذا كانت مسألة مفهوم، وتعاظم هذا المفهوم من خلال التشويق في فهم الأشياء، عندئذ هناك شيء ما مطلوب لمبادئ تكوين النص لتحريك إمكانية التغيير في المفهوم.
وحجتي هي أن مثل هذه المقاطعة أو الانفصال ليس أصيلا في الفورية ولكنه ينشأ من مبادئ تكوين معينة مالت باتجاه تفكك – لا تضمنه - في المفهوم. إذ يكمن المحتمل في أي نوع من مزيج من الوسائط المميزة، أو التقديم الموّسط بالتجربة الفعلية، في حين أن التجاور يخلق اهتزازا. ورغم ذلك، فإنني أقبل أن يكون للتطور الاستراتيجي للتقنيات في أحداث المسرح الحي إمكانية معقولة نسبيا لتقديم التفكك التجريبي في هذه اللحظة التاريخية، لأن الوسائط الرقمية في ذاتها لديها قدرة على خلق وجهات نظر وديناميات جديدة. وهذا ما سوف تحمله الأمثلة في النقاش التالي. ولكن لن تستتبع مثل هذه التفككات والاضطرابات بالضرورة منظورا للتمزق والمقاومة، كما يزعم (بونيش). ولتبرير مثل هذا الاستنباط في ما يتعلق بالتجربة البشرية، فمن المهم أن نحدد هذه التجربة تاريخيا في ما يتعلق بكل من المسرح والسياسة.
في المسرح الدرامي الإنساني، نظم تتابع السرد ومنظور النهضة الزمن والمكان لفهم العالم بطريقة معينة. وقد أنشأت تقاليد المسرح الغربي، كما ظهرت وتطورت من بداية القرن السابع عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر، علاقة بين العين والعقل التي ميزت وجهة النظر المنطقية للفرد من وجهة نظر متمركزة أوروبيا، على الرغم من عدم الاعتراف بها. فقد تطلب التمثيل الإيهامي للحياة الفعلية في ذروة أواخر القرن التاسع عشر ارتباطا بالتقمص العاطفي بشخصية الفرد التي رفضها (بريخت) في المقال الذي استشهدنا به آنفا. وبالطبع، عند استحضار (بريخت)، يجب أن نتذكر أنه، على الرغم من تطرفه المعلن، فقد كانت ممارساته في النهاية متمركزة حول العقل، وتهدف إلى الإقناع المنطقي. وفي تجربة ممارسة المسرح بين الوسائطي، ربما كانت بعض الاضطرابات على مستوى الإدراك المنطقي، ولكن تأثر الكثير منها بالتجسيد. وسوف أعود إلى مجموعة تجارب المسرح الوسائطي وعلاقة الجسم بالعقل فيما بعد.
ولإجراء مقارنة تاريخية مع بيئة المسرح المعاصر باعتباره متميزا عن التقاليد الأوروبية قبل (بريخت)، فإن التقنيات الرقمية تساهم في تغيير التجارب بقدرتها على المحافظة على مجموعة من المنظورات والديناميات الجديدة. فقد تم تحدي مفهومي الزمن والمكان الراسخين من خلال ضغط الزمن والمكان. فممارسات المسرح عن بعد Telematic theater، يمكن أن تأتي بمكان المسرح في حيز “هنا والآن” في قارات ومناطق أخرى. وبالنسبة للبعض، توفر مساحة شبكة الاتصال بعدا مكانيا جديدا تماما، وزمنا غير مستقر تماما. وكما يقول (ديكسون) بإيجاز، «تجاور وتزامن التوقيتات المختلفة (الحية والمسجلة/ المقدمة بواسطة الكومبيوتر) يمكن أن يعقد فهم المشاهد للزمن والمكان لدرجة أنه بدلا من تعليق عدم التصديق ومعايشة زمن الأداء وفقا لبروتوكولات المسرح الحي، تتم معايشة مفهوم مختلف لزمنية إضافية. بالإضافة إلى أن الجسم أصبح مجزأ رقميا، وممتدا أكثر من أي وقت مضى خلال صيغ رقمية في داخل التوكيد ما بعد الإنساني الذي يرى قدرات التقنيات الرقمية كروابط للقدرات الإنسانية. وبتناول مثال بسيط من عرض “الأحمر المصبوب”، فإن الممثل البارع والحاضر بدنيا “ديرك روفتهوفت”، ينشئ مجموعة من العلاقات المؤداة بشكل هزلي ولكن من خلال علاقة حميمية مع المشاهدين بينما يتم توسيط صوته عبر ميكروفون بينما يواجه أعلى خشبة المسرح، ولكنه قادر على أن يرى نفسه في لقطة مكبرة معروضة على شاشة كبيرة. تشكل ممارسات الشخص الافتراضي والمسارح الافتراضية تحديات أكبر للافتراضات الحسية المعيارية عندما تكون تجربتنا في العالم أقل من تطوير حياة أطول في الزمن من حياة شبكة الاتصال التي تربط النقط وتتقاطع مع مجموعة خيوطها، كما يقول (فوكوه).
وجهة نظري في تحديد التحول المهم في الثقافة – ولا سيما الثقافة المسرحية – بين عصر (بريخت) وصعود المسرح بين الوسائطي هو تحقيق تضمينات الفرص المؤكدة بالنسبة لتأثير الاغتراب غير الواقعية غير المباشرة. وأشك إن كانت لديه – أو أي معلق آخر استدعى بريخت في نقاش بين وسائطية المسرح – ثورة ماركسية في ذهنه كتأثير محتمل. فإذا رددت الإشارة إلى الاغتراب أصداء معنى ماركسي للاغتراب من خلال وعي مزيف، فيمكنني أن ألاحظ أن مثل هذه السياسة في بيئة ممارسة المسرح قد انتهت مع مسرح المعارضة وما تلاها من المسارح السياسية في أواخر الستينات وأوائل السبعينات. فمنذ سقوط حائط برلين عام 1989، والشعور بانتصار الغرب الرأسمالي على الكتلة الشرقية الشيوعية لأن الصين تبنت أيضا اقتصاد السوق الحرة، فإن أي دراسة لعدم المساواة في العملية الاجتماعية يحتمل أن تحسب في إطار السياسات الشخصية أكثر من زيادة الوعي الجماعي المحتشد في الفعل. بالطبع تمنح بعض صيغ المسرح بين الوسائطي الفرد تجربة، فضلا عن تجربة مشتركة.
وفي عنوان رئيس، ربط (شيل كاتينبلات Chiel Kattenblatt) تجربته في عمل يسمى “أنت واقف بشكل صحيح U Right Standing”. تضمن هذا الحدث الأدائي بين الوسائطي تجربة فردية من خلال سماعة واقع افتراضي امتزج بإحساس كبير بالتفكك. بعد أن صعد على ما يبدو وتم تدعيمه أمام الحائط ببطء وبشكل غير محسوس تقريبا، ولكنه يميل إلى الأمام بوضوح حتى يتم تسطيحه على بطنه قبل أن تتم إعادته إلى الوضع الرأسي. هذا المثال يحتوي على مزيج من الوسائط الرقمية والأداء البدني متجاورين ويتم عرضهما بطريقة مرحة، وفي نفس الوقت الذي يتم فيه التخلص من الممارس بطريقة مخجلة في اتجاه تصور جديد. والسؤال الذي أود أن أتابعه هو طبيعة وتأثير المفهوم الجديد. وعلى الرغم من أنه قد يكون له تأثير على زيف الاغتراب وغياب الإشارة عند (بونيش)، فهل ينتج وجهة نظره عن الاضطراب والمقاومة؟
فقبل أن يطور (بريخت) نظريته في المسرح الملحمي، نظّر الشكليون الروس لعملية تغريب فنية. وكما يقول (دويفلايزين Duyfluizen):
 “عندما ميز (فيكتور شكلوفسكي) مفهوم الاغتراب (الذي يترجم أحيانا بغرابة التأثير) في النصوص الأدبية. فقد وجه هو وزملاؤه الشكليون الروس المفهوم بعيدا عن التمثيل، ووجهوه نحو أدبية الصيغ الأدبية”.
باختصار، عملت النظرية الشكلية في أوائل القرن العشرين على مفهوم غرابة التأثير الذي لم يستتبع سياسات (بريخت) المتطرفة في تأثير الاغتراب. وقد تندرج المطالبات المزعومة للتأثير الوسائطي في هذا التقليد الذي ينطوي على سياسة جمالية للفعل يتردد صداها في تفسير (رانسييه Rancier) للمعاصر كما سنرى.
يمكن أن يفسر اللعب بين التجربة الإدراكية والتجربة المحسوسة التفكك المرتبط في تجربة عرض “أنت تقف في الوضع الصحيح”. وفي ما يتعلق بالمسرح بين الوسائطي، فمن الممكن أن يبدو أن عبارة (بونيش) “زيف الاغتراب وغياب الحقيقة” تنطوي على تغير أكثر تطرفا في المفهوم. والسؤال الذي يطرح نفسه تبعا لذلك هو ما إذا كان نوع التفكك المفاهيمي الجديد يتم حشده بواسطة تفاعل الحي مع الموسّط رقميا الذي يتم جلبه في مكان (فراغ) واحد في وقت معين (في حالة أحداث المسرح بين الوسائطي التي تقوم على البناء). إذ يمكن أن يضم “الموجود هنا والآن” في المسرح الحي “حينئذ وهناك” للمادة مسبقة التسجيل (مثل الفيديو وشريط الصوت.. إلخ). ولكن لا يوجد تاريخ جوهري منذ (بسكاتور) حتى الآن لمزج الوسائط الميكانيكية المناظرة مثل الفيلم مع الحدث الحي للتأثير في هذه التجاورات. ولذلك فإن السؤال المحدد في العصر الرقمي هل تجاور الوسائط الرقمية مع الحدث الحي يعمل بشكل مختلف عن الوسائط السابقة، وربما بشكل متطرف، في ما يتعلق بالمكان والزمن وإدراك الممارس لهما.
لقد ظهرت كثير من الكتابات عن توظيف الزمن في السينما (أبرزها كتابات ديليوز Deleuze)، ولكن تركز الاهتمام بشكل متزايد على الزمن في الوسائط الرقمية. فمثلا يتأمل (شين كوبيت Sean Cubitt) في محاضرة بعنوان “الزمن الإلكتروني: أنطولوجيا الإدراك الرقمي Cybertime: Ontologies of Digital Perception” كيف أثرت الوسائط الرقمية على مفاهيم الزمن ولا سيما على السرعة المزعومة النقل الرقمي. ورؤيته هي أنه على الرغم من أن الوسائط الرقمية قد تكون أسرع من نظيرتها السابقة، فإن السرعة ليست أساس أي اختلاف أنطولوجي. واعترافا بذلك، فإن هدف أغلب أشكال الوسائط منذ اختراع الأبجدية هو الحفظ، ويشرع (كوبيت) في تحديد ما يعتبره أنطولوجيا الثقافة الرقمية التي تكمن في الزوال والمحو. فالثقافة الرقمية:
 “توفر لنا فرصة إجبارية للإزالة والبدء من جديد. فهي تجعل كل وثيقة زائلة. حيث إن المحو هو خيار دائم، والمحو العرضي، مثل النسيان اللاشعوري، هو مولد دائم للطفرة الثقافية العشوائية. فقد ضاع الشكل الثابت للنصية في احتمال الإزالة”.
وباستدعاء أكثر مفاهيم (فيلان Phelan) اقتباسا في الأداء باعتباره زائلا، مثل ذلك الذي يصبح ذاته من خلال الاختفاء، فقد يبدو أنه صدى أنطولوجي بين المسرح والوسائط الرقمية. ولكن، بترك نقاش (فيلان – أوسلاندر) كما هو، اقترح دراسة مثال آخر للممارسة يأخذ في اعتباره الوعي الحسي للممارس في حدث مسرحي بين وسائطي.
ففي عرض “زقزقة Peep”، وهو عمل قدمته (سارة أوبراين Sarah O’Brien)، تغذية من كاميرا حية مصوبة على الجمهور الجالس تعكس صورتها على صورة دائرية بحيث يظهر الجمهور وهو يشاهد نفسه وهو يشاهد الحدث على خشبة المسرح. ورغم ذلك، عند نقطة غير متوقعة، أصبح العرض تسجيلا للجمهور، الذي لو لاحظ، فإنه يفكك الاحتمالات المكانية للممارس. وفي نفس الوقت في حدث خشبة المسرح، تعرض صور فيديو مسبقة التسجيل للمؤدين الفعليين الذين يرتدون أقنعة من الرأس لأخمص القدم بقماش من ألوان زاهية لكي يأخذوا الحجم الحقيقي للصورة. ونظرا لأن المؤدين الفعليين تحركوا في الرقصات التي تم اختيارها مسبقا، فقد تم إعداد عرض الفيديو عن قرب وبشكل غير دقيق على الأجسام، مما أدى إلى حدوث خلل زماني مكاني آخر. ويمكنني أن أقرر أن التأثير الكلي كان واحدا ليس فقط في ما يتعلق بفضل تفكك الزمان والمكان ولكن الوعي بالانفصال الذي لا يمكن استيعابه في الوقت الحالي من خلال التحليل العقلاني لكيفية تحقيق الآثار. وقد كان التأثير الفنينومينولوجي مشابها لما أفهم أنها تجربة (كاتينبيلت) في “أنت واقف بشكل صحيح”، على الرغم من حشده بنوع مختلف من المسرح الوسائطي كتجربة مشتركة. ويتم تعطيل الإدراك الحسي المعياري بطريقة تتطلب من الممارسين، في محاولة فهم ما يحدث لهم، مدركين للواقعيات غير التفسيرية المختلفة، أي أن الإدراك ليس ثابتا ولكنه قادر على التغير.
ومرة أخرى، يبدو أننا نسمع صدى لرواية (بريخت) في المسرح الملحمي. ولكن هناك فرقا واضحا بين التفكك الموصوف في تأثير الاغتراب البريختي. فقد تفتح تغيرات الإدراك إمكانيات التغير السياسي بمعنى أن الأشياء قد تكون على خلاف ما هي عليه وأن العنصر البشري قد يرى بأنه متقلب. ولكن مثل هذا المفهوم لا يستتبع بالضرورة حدثا سياسيا لتغيير الأشياء. وأنه في هذه الصورة لاعتبارات المسرح بين الوسائطي أنني أشعر بانزلاق خطير بين مفاهيم الوساطة والفعل والتفاعل.
لقد كان تنشيط المشاهدين فضلا عن جعلهم سلبيين دورا مكملا لمسرح (بريخت) الملحمي. ولجعل أحد الملامح المميزة للوسائط الرقمية هو قدرتها على التفاعل مع اللاسلكي، والمراوغة الاتصالية ذات الاتجاهين ونظام التشغيل الذي يقدم من خلاله شكل الأصوات والصور الرقمية. وهذا الجانب في الواقع يعلم الثقافة الرقمية. إذ ترى مختلف الوسائط تاريخيا بأن لها ملامح مختلفة مميزة في ما يتعلق بالزمن والمكان والفينومينولوجيا. ففي رأي (فيفيان سوبتشاك) أن الصورة الفوتوغرافية، مثل:
 “موجودة بالنسبة لنا كما لو أنها لم تشارك في فعالية الصيرورة فهي لن تقدم نفسها باعتبارها تأتي إلى الوجود عندما نمارس اللازمنية التي تضفيها الصورة على مادتها، فنحن نعايش الفراغ الإجباري للصورة: فهي توجد كاحتمال للزمنية ولكن الفراغ بداخلها. وتجادل (سوباتشاك) أن السينما لا تتجاوز تجربتنا المعاشة للزمانية بل تبدو بالأحرى تشارك فيها، لتشاطرها. وبخلاف الصورة الثابتة، يوجد الفيلم بالنسبة لنا وكأنه في حالة صيرورة دائما”.
إذا كان تفسير (سوباتشاك) يسمح لتجربة الصيرورة في مشاهدة الفيلم، من خلال سيولة معالجة للزمن، فإن (كوبيت) تميز مقدما سيولة زمانية إضافية في تجربة الوسائط الرقمية:
 “الاكتمال السينمائي الذي يتم بناؤه في توافق زمن الفيلم مع الزمن الذاتي ينكسر في الوسائط الرقمية خلال التردد المستمر للملف الرقمي بين الوجود والمحو والتحول. على الرغم من عدم غيابه، فهذا ليس وجودا بالمعنى الفينومينولوجي. إنها حالة مزاجية مفعمة بالوجود ولحظة تشبه فيها الذات الموضوع وكأنهما لا يسيران في طريقيهما المنفصلين”.
تركز اعتبارات الزمن والمكان الرقميين على المعالجة، والصيرورة الشرطية التي تقاوم، بالسيولة والتشظي، المادية في الوجود. ففي أحداث المسرح بين الوسائطي، قد ينشأ تأثير مشوش ظاهراتيا من المعنى الآني لكل من الغياب والحضور، وتجربة الصيرورة الإجرائية، في التوتر مع تأكيد وجود الحي في فراغ المسرح. ورغم ذلك، في المثال الأول، هي مسألة تجربة فردية محسوسة، وتأثر جمالي فضلا عن أنه تأثير سياسي ويفترض مشاركة تعاونية. ولكن هذه الرؤى النظرية، في المعالجة يتم تطبيقها إجمالا في الغالب، عند الحاجة في الممارسة العملية إلى أخذ مستويات متغيرة من وساطة المستخدم في الاعتبار. بالطبع تتراوح مستويات التفاعل المطلوبة من النصوص بين الارتباط التفاعلي (الذي أطلق عليه ياماشيتا التفاعل الأبكم Dumb interactivity) بالفرض الأصلية للممارس لتغيير العمل في المعالجة. وسوف يوضح الفكرة مثالان لرقص الإنترنت الرقمي digital internet dance: “داد. بروجيكت dad.project” (الذي قدمه ديفيد كوربيت، سيمون اليس 2006) و”أي سي أي ICI” (تركيب رقص تفاعلي) من عرض الربيع عام 2005.
يقدم موقع عرض “داد بروجيكت”، مجموعة لما يسميه المصنفان المبدعان (كوربيت) و(أليس) “كتب النقر بالأصابع الرقمية digital flickbooks”. فبتحريك الماوس حول الصورة، يتم تحريك راقص العصا بنفس طريقة الناس المرسومين في أركان صفحات الكراسة التي يبدو أنها في حالة حركة عندما يتم تقليب الصفحات. وقد استمتعت بالتفاعل مع العشرين راقصا الموجودين في الموقع ولكن يجب أن أقول إنني لم أشعر بأنني رقصت معهم. فعرض “داد بروجيكت” يهدف إلى تقديم الوساطة إلى المتلقي، ويمنح:
 “فرصة للمشاهدين لبث الحياة في صور جامدة متجسدة: لكي يجعلها تتحرك لتشارك في حيويتها، ويتخيل الأدائية بين البيئات المسرحية التقليدية”.
ولكن المشاركة، في رأيي ليست تفاعلية بل انفعالية، ومقيدة ماديا بصلة بين اليد والماوس. وهي ماديا أقل تفاعلا من كتب النقر بالأصابع المستمدة لأنه مطلوب مقدار معين من اللمس للسيطرة على تدفق الورق وتحافظ على دوران الرسوم المتحركة. وعلى الرغم من أن (كوربيت) و(أليس) كررا حل تسلسل أي أداء بين “الأداء الحي” و”الأداء الوسائطي”، فبتحريك الماوس فإنني لا أراه بشكل محسوس، استشهادا بكلمات الملك لير، بالطريقة التي أحس بها عندما أرقص مع حضور مجسد في مساحة فعلية.
يبدو أن مشروع (ICI) تنبأ ببعض من هذه الاعتراضات. ففي هذا المشروع، تحفز حركة الممارس الفعلية في مساحته الشخصية الحركة في مساحة افتراضية. إذ ترصد كاميرا معلقة في منتصف الغرفة ومتصلة بجهاز كومبيوتر ضخم يدير رقعة نفاثة، يستشعر حركتها وسرعتها ووضعها. وهذه الرقعة متصلة بجهاز صوت في الغرفة. يستخدم مصدر ضوء للأشعة تحت الحمراء مع مرشح على الكاميرا التي تسد كل التغيرات في الضوء التي تأتي من آلة العرض. والسطح المشترك هو جسم المشاهد والفراغ الذي يتحرك فيه:
“سيناريو المستخدم: بينما تسير في الفراغ يتم تشغيل فيديو رقص يعتمد معدل تشغيل فيديو الرقص على سرعتك. وعندما تبطئ يبطئ الفيديو ويتوقف، وبينما تسرع يصبح أوضح. اعتمادا على مكانك في الغرفة سوف تتلاشى حلقات صغيرة في طبقة الفيديو الأولية المستمرة. وسوف تتوجه لك مباشرة هذه الحلقات القصيرة وتطلب منك أن تبقى في مكانك، وتتحرك في اتجاه معين، وتغير سرعتك. وعندما تقف ساكنا إما أن يتلاشى الفيديو أو يدور بطريقة تشجعك على الاستمرار في الحركة، وبالتالي يجعل الرقص بينك وبين مواقف الرقص المعروضة”.
يتناول هذان المشروعان ميل العصر الرقمي المحتفى به باعتباره عصرا تفاعليا في المعالجة. حيث يقتصر الأول من وجهة نظري على رد الفعل، ويفر الثاني تفاعلا أكبر بكثير بأن حركات الممارس تؤثر على عرض الفيديو، على الرغم من أن فيديو الرقص مسبق التسجيل. ويحدد كلا العملين نفسيهما، رغم ذلك، في الميل المعاصر تثمين القدرة التفاعلية التي تقدمها التقنيات الرقمية وكأنه من المفضل بديهيا أن تكون أكثر ديمقراطية، ومشارك بشكل تفاعلي وعملي فضلا عن أنه سلبي. ومرة ثانية، ربما نتوقع صدى لاستراتيجيات (بريخت) ولكن ضعفها مستمد ربما من النقلة الأساسية في السياق التاريخي من النموذج الإنساني إلى ما بعد الإنساني.
لقد استخدمت مصطلح «ما بعد الإنساني Posthuman» بالنبرة التي تتناول التقنيات الرقمية باعتبارها امتدادا للقدرات الإنسانية. ولكن هناك نبرة أخرى لما بعد الإنساني تستبدل الإنسان من منتصف خشبة مسرح التاريخ، في نسخته الأشد فزعا، توحي بانهيار أي فارق عن الآلات (الرقمية). ومن بين فناني الأداء (ستيلارك Stelarc)، وهو المتخصص الملتزم بتأييد الثقافة الافتراضية، يحتج بأن الجسم أصبح قديما. ولذلك، عندما تكون الوساطة محل اعتبار، فإن المكان الذي توجد فيه هو المهم. وبالتوازي مع إزاحة الإنسان باعتباره مقياسا للأشياء من المكانة المركزية على خشبة المسرح تضاءلت وساطة الممثل ومركزيته في المسرح بين الوسائطي بتخفيض رتبة تسلسل علامات خشبة المسرح. فالمؤدي الآن هو أحد الدوال الكثيرة في الحدث المركب متعدد الطبقات. فالإنسان المجسد في المسرح بين الوسائطي كما يمثله الممثل في مساحة بيتر بروك الخالية تمت إزاحته بالميكروفونات والكاميرات وشاشات التلفزيون، وأجهزة اللابتوب وشاشات العرض، ومجسات الحركة والتقنيات ذات الارتباط. ولكن مثل هذه الأدوات الرقمية لا تستلزم التخلي النموذج الإنساني وتستمر الكثير من الممارسات في استكشاف العنصر الإنساني في تقاليد التنوير. ورغم ذلك، في هذه الافتراضات المقدمة حول التفاعل والأثر والتأثير، هناك انزلاق مضطرب بين النماذج بشكل واضح مع الافتراض المتكرر، الذي تفرضه مرحلة ما بعد البنيوية على الممارس باعتباره موضوعا متعارضا وغير متطابق ذاتيا الذي يؤدي باستمرار عدة هويات في عملية لا نهائية.
والنداء البريختي المنطقي من خلال المسرح الملحمي لمثل هذه الذات غير ملائم بوضوح لأن مسرح (بريخت) كان يفهم في سياق السرديات الكبرى الهيجيلية – الماركسية للتطور الإنساني. ولكن، إذا كنا الآن نعيش في حالة ما بعد الإنسان في ظل ثاني التوكيدين، فإنه لم يتم التخلي فقط عن مسار تتابع السرد، بل تم التخلي أيضا عن معنى وساطة الإنسان في تحديد التاريخ. وبالتالي فإن السؤال المتعلق بكيف يمكن النظر إلى منظوري الاضطراب والمقاومة في ما يتعلق بالسياسة والأخلاق في الأداء ما بعد الإنساني. وهل تعدد الوسائط المحتشد من خلال الاضطرابات الموضحة في بعض الأعمال التي نوقشت أعلاه، قد مورست في تصادمات هزلية أو في منح تجربة كونها موجودة في عالمين افتراضي وفعلي، وهل هي في بعض الأحيان أكثر عمقا أو إزعاجا لمعنى الذات التي تستلزمها نماذج الإدراك الجديدة، وهل تتحقق بشكل إدراكي. حتى الآن، لم تتخذ هذه المقالة موقفا متشككا كبيرا من الممارسات بين الوسائطية، إلا في ما يتعلق الادعاءات غير المبررة في بعض الأحيان بالنسبة لفعاليتها ولا سيما إمكاناتها لإحداث تغيير سياسي مثل الذي سعى إليه (بريخت). ولإصدار ملاحظة أكثر إيجابية، اقترح باختصار مراجعة ما ينبغي أن تقدمه الممارسات بين الوسائطية في الثقافة الرقمية. فمن المهم أن نأخذ كلا من الممارسات والسياق الذي تمارس فيه في الاعتبار لأنني، اتباعا لـ(بنيامين)، أتناول رؤية أن النموذج ينقل بالتدريج مفهوم التغير الثقافي. وحيث إن استخدام الكومبيوتر أصبح امتدادا يوميا، فقد أصبح امتدادا للقدرة البشرية من النوع الذي سمي «بعد إنساني» (التوكيد الأول)، وكما تقول (كاثرين هايلز Kathrine Hayles) «يصبح الناس بعد بشريين عندما يعتقدون أنهم بعد بشريين». إن الوصول الفوري في كل مكان تقريبا إلى مجموعة واسعة من المعلومات مع القدرة على ربط هذه المعلومات القادمة من مصادر مختلفة في نوافذ متعددة على شاشة واحدة (سطح مكتب الكومبيوتر، الهاتف المحمول من نوع البلاكبيري والهاتف المحمول الذكي) يجهز الممارس للوصول من جديد إلى المعلومات ومعالجتها وفهم ما هي المعرفة. واهتم فيما يلي بدور الممارسات الرقمية بين الوسائطية في تطوير هذه النقلة الإجرائية.
في إحدى نهايات التدرج الطيفي المفترض بين التساهل الحسي والمعرفة الإدراكية، تظهر بعض الممارسات الرقمية ممتعة للعب الإبداعي في المثال الأول لتقدم تجربة ممتعة للعب الإبداعي (وليس هناك خطأ في ذلك). فمثلا عرض «المناطق الجغرافية الحسية Sensuous Geographies» الذي قدمته (سارة روبيدج Sarah Rubidge) عام 2003، يدعو المشاركين إلى اتباع بعض التعليمات البسيطة لاكتشاف بيئة من السلك حافية ومعصوبة العينين بعد ارتداء فستان للمحجبات ذي ألوان زاهية. يتشكل الفراغ بمواد معلقة متدلية من السقف إلى الأرض التي تستخدم أيضا كشاشات عرض مرئية للمتلقين المنتظرين لدورهم في المشاركة. يكتشف الممارسون أرضية مكونة من مجموعة مواد حسية وبينما يتحركون، ينشطون بشكل جماعي (من خلال كاميرا إدراك ملونة) بيئة صوتية غامرة. يكتشف كل ممارس، رغم ذلك، أن حبل صوت معين مربوط به ولذلك، يستطيعون، فرديا وجماعيا، أن يملأوا الفراغ ويتلاعبوا ببعضهم البعض. يروح ويجيء عرض الفيديو المعالج لحركات الراقصين مثل أشباح ملونة تجلب المتعة للمتلقين. ومن الداخل والخارج، تكون المتعة الحسية للبيئة المعمارية الصوتية والمتحركة في المقام الأول. ولكن هذا ليس هو كل شيء بالضرورة. كما يقول (ديكسون):
 “المشاركة والانغماس في عرض (المناطق الجغرافية الحسية) البارع هو تجربة كيف نشعر بالفراغ والموسيقى خلال معرفة الجسم الحميمية (بالمعنى الذي ذهب إليه برجسون وميرلوبونتي)”.
في السنوات الحالية، اكتشفت الممارسة باعتبارها بحثا في فنون الأداء أشكال المعرفة المجسدة في التقاليد الفينومينولوجية، ربما بشكل ساخر نظرا لإطارها الرقمي، ويشير عرض (روبيدج) “المناطق الجغرافية الحسية” لهذه الاحتمالات. ورغم ذلك، في وجود حلقة خارجية من المتلقين وحلقة داخلية من الممارسين، فإنه يركز على معرفة إدراكية أكثر صراحة من التأمل المطلوب. وكما يوجز (ديكسون) “عرض (المناطق الجغرافية الحسية) هو، بكل معنى الكلمة، فضاء مثير، فهو فضاء وفقا للعبارات المنسوبة إلى (ديليوز)” كل إحساس فيه هو سؤال، ولكن سؤال بدون إجابة – فضاء الصيرورة الذي لا يتحول. وفي هذا الانعكاس يقدم عرض «المناطق الجغرافية الحسية» تفكيرا متطرفا من خلال تجربة ممتعة.
كما أوضحت أمثلتي التوضيحية في هذا المقال، قد يكون التصور غير مستقر ومنزعج بسبب تجربة الأداء الرقمي. فعرض «أنت واقف بشكل صحيح»، كما رويناه آنفا، هو حالة ذات أهمية. فهو يبدو مبدئيا مجرد لعبة إبداعية مقبولة، ولكن بالإضافة إلى هزها صراحة، فإنها تجعل المستخدم واعيا في المثال الأول أن الإدراك الإنساني المعياري ليس مطلقا. ورد الفعل التالي، كما هو مطلوب من خلال تفكك التجربة، يمكن أن يؤكد علاقة الجسم – العقل القوية فضلا عن تعزيز انفصال ديكارتي تقليدي لأنه، برد الفعل، يصبح واضحا أن العقل المنطقي يمكن خداعه بواسطة تجربة مفككة مكانيا للمعلومات المتجسدة التي تغذي العقل. فعرض “أنت واقف بشكل صحيح” قد يحمل ادعاء (سوزان برودهيرست Suzan Broadhurst) بأن أهم إسهامات التكنولوجيا الرقمية في الفن قد تكون إعادة تهيئة وإعادة تعزيز إمكانية جمالية إبداعية تتكون من التفاعل مع الجسم المادي وليس التخلي عن الجسم. وبالطبع قد تنبع صيغ الإدراك والوعي الجديدة من مثل هذه التجارب المبنية بشكل مختلف عن ملاحظة عين العقل من مسافة مطلوبة من تجليات المسرح التي ينفصل فيها المشاهدون مكانيا عن حدث خشبة المسرح. فأنماط الإدراك والوعي الجديدة، بالطبع لا تقنع الممارسين بالتغير الاجتماعي والسياسي مباشرة، فهي تفتح إمكانيات جديدة من كل الأنواع، وبالتالي تقاوم الارتباط السلبي بالمعايير الاجتماعية السائدة والمزعومة من قبل وسائل الاتصال السابقة.
باختصار، يحاول هذا المقال استخلاص تضمينات الادعاءات والافتراضات حول تأثير المسرح بين الوسائطي، بعد (بريخت). بالإشارة إلى مجموعة من الأمثلة من مختلف أنواع الممارسة التي تحتمي بمظلة المسرح بين الوسائطي. وأهدف إلى أن أوضح أولا أن أي افتراض عام حول أثر هذه الممارسات قد يكون غير مفيد لأنها توظف بمختلف الطرق في ما يتعلق بمختلف النيات. وبمتابعة الآخرين، أحتج بأن الوسائط الرقمية الجديدة يمكن أن يكون لها خصائص مختلفة عن سابقتها الآلية والمناظرة. ولا سيما عند إحضارها للعب في الفراغ مع المؤدين الفعليين، إذ توفر هذه الخصائص فرص التفكك من خلال التجاورات المتطرفة، ولا سيما في هذه اللحظة التاريخية عندما تكون الصيغ والتمازجات جديدة. ولكن لا يمكن الافتراض بأن كل ممارسات المسرح بين الوسائطي تهدف إلى حقائق غير واقعية.
إن الإحساس بالوساطة، ولا سيما في سياق التفاعل الحقيقي الذي تيسره أنواع معينة من الممارسات الرقمية يمكن أن يتم تشجيعه جيدا بواسطة التقنيات الرقمية والعقليات ذات الصلة بالثقافة الرقمية. فما يمكن أن يكون تأثير لأي وعي جديد، يتشكل في سياق التلقي والظروف الثقافية الأوسع وقت التجربة. فقد تجذب بعض الممارسات الانتباه إلى صيغ وعي جديدة وطرق للوجود في العالم الرقمي، بينما يبدو أن آخرين يدعون إلى التخلي عن عملية الصيرورة الحسية مع وصول مؤجل إلى ما لا نهاية. فكلاهما يوظفان مبدئيا داخل سياسة الجماليات، ولذلك قد تؤدي سياسة الجماليات في أفضل الأحوال إلى تدخل اجتماعي إيجابي. ولكن هذا سوف يظل دائما مسألة تفاوض النص في السياق، وليس مسألة تحديد نصي.
 - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
• نشر هذا المقال في مجلة بين الوسائطية intermedialities العدد رقم 12 خريف 2008.
• روبن نيلسون يعمل أستاذا بجامعة مانشستر بالمملكة المتحدة.


ترجمة أحمد عبد الفتاح