العدد 526 صدر بتاريخ 25سبتمبر2017
وتأكيد الحالة بنفي الحالة لا يعني سوى التصوير الدقيق لما تقوله الحالة النفسية والجسدية لـ (أمينة)، وما لحق بها من عجز ألمّ بها، وتكون (حكمت) هي خلاصها من هذه الحالة، وتكون هي التي تواسيها، وتؤازرها في محنتها، وتبعث فيها الأمل بالحياة، وتخفف من قساوة غضبها على حالتها النفسية الهشّة، وحين تنفي (أمينة) هذا الغضب، فإنها تنقل الحديث من الذاتي إلى سياق ما هو عالمي:
أمينة: لم أغضب.. لم أغضب على الإطلاق.. لقد تعبت تماما. ولم أعد أطيق أحدا، حتى نفسي صارت ثقيلة علىّ.. أذناي صماوتان وأحشائي تأكل بعضها.. وعيناي صارتا كليلتين لا أبصر بهما شيئا سوى الذل اليومي... هل تشعرين بشيء من هذا كله؟
حكمت: كل ما ترينه محض تهيؤات... الحياة ما زالت جميلة إلى حد ما... إلى حدّ بعيد)
حين تتجمّع حالات (أمينة) ومعاناة (حكمت) في حالة تراجيدية واحدة لتكوين رؤية واحدة حول العالم تكون النتيجة التي صاغها الكاتب هو الإقرار بوجود كل أبطاله التراجيديين في عالم دموي قائم على الاقتتال والقتل الجماعي وتجويع الشعوب، لأنه عالم محكوم بالضجيج، واللغط السياسي والزور والبهتان، ويمكن أن نعدّ هذا الإقرار الدلالي بمنزلة رؤية مركزية موجودة بتعابير وصيغ مختلفة في كل الأعمال المسرحية التي كتبها سعيد حجاج.
ترتدي هذه الحالة دلالاتها المستمدة من كلام الشخصيات لتلائم بين المواقف وهي تجمع بينها حتى لا يبقى موضوع الكتابة مرتكزا على الحالة العبثية لحياة الشخصيتين الأساسيتين في الكتابة الدرامية، وهذا يظهر في السؤال عن الخبر وما يحمله في حديثه عن الوضعية في الألم.
(حكمت: اسمعي الأخبار.
أمينة: أية أخبار هذه التي تريدين أن أسمعها؟ فلان يحارب علان... وعلان يقتل ترتان.. لم يعد سوى الدم يغطي كل شيء.. ولم تعد سوى أخبار عن اللصوص والدجالين الذين يعدون الناس بكشف المستور. لم يعد سوى الشيوخ الذين لا يفعلون شيئا سوى أن يعدونا بالفردوس المفقود... أما هذه الحياة وما يجب أن نفعله فيها لكي تكون حياتنا لها أية قيمة.. فإنهم لا يجدون معها أية حلول. أية أخبار تريدين أن أسمعها يا عزيزتي؟)
ومن هذا النقد لكل الظواهر المنتشرة في العالم العربي تبقى تيمة أخرى أو حالة اخرى لها حضورها الرمزي في كتابات سعيد حجاج وهي تيمة الموت التي يستعرض فيها تجربة الموت عند شخوصه وهي في نزعها الأخير تفكر في انتهاء حياتها.
(أمينة: “صمت” زوجي كان محقا تماما حين سألني عن رأيي في أن يقتلني وهو في النزع الأخير أو أقتله أنا حين تقترب روحي من الخروج. بهذا لا يستطيع أيٌّ منا أن يموت دون الآخر أو يذهب وحده إلى هناك ليترك الآخر معذبا هنا.. لكنه خانني كعادته ومات دون أن يفعل ذلك معي. لقد تركني وحيدة مهجورة.. حتى أنني لم أعد أعرف كيف ومتى سأموت.
حكمت: عقلنا صغير يا عزيزتي حتى أننا لا نستطيع به التكهن عن موعد ذهابنا إلى الله... إنها أشياء أكبر من عقولنا على من أظن)19
وفي هذا العالم الموحش لا يحافظ الزمن على سيره الطبيعي بعد أن تحول منزل (حكمت) إلى مكان تسكنه أشباح الماضي لا ترى فيه إلا أحباء على الجدران يرثون لحالها فيخرج الزوج من البرواز ليخاطبها، وهذا فيه إشارة إلى هذيانها أوصلها إلى أن ترى عقارب الساعة لم تعد تتحرك يمينا بل تتحرك لليسار، عطب الساعة المصنوعة في القرون الوسطى كطقوس الزواج، والأعراف والتقاليد، واختيار الزوج صدفة، وبناء السعادة صدفة، والألفة صدفة، ما من علاقة إلا وهي مبنية على الصدف، والخيبة تصبح ضرورة ونتيجة. والجنس لحظة.
ولم يقف الكاتب سعيد حجاج على عتبات المرأة وهو يعرض هذه الحالات في علاقتها بالزمن الموحش والغربة والكآبة والعزلة، بل دخل إلى مخدعها وتركها تتكلم على علاقتها الحميمية بزوجها:
(حكمت: حين كان يجمعنا فراش واحد لم يكن يبقى معي أكثر من دقيقتين... وحين يفرغ من مأربه يستدير إلى الناحية الأخرى محتضنا وسادته الأثيرة معطيا لي ظهره ويستغرق في نومه حتى صبيحة اليوم الثاني. لم يكن بعدها ينظر في وجهي ليشعرني أني امرأة لا بد لها من مكافأة النظر إلى وجهها بعد وجبته.
لا تظني أني لم أحدثه في هذا الأمر. لقد حدثته بالفعل فصرخ في وجهي ناعتا إياي بالبرود وقال لي صارخا لم أعد أحبك يا امرأة فلماذا يكون عليَّ أن أحتضنك أو حتى أهمس لك بكلمة ما... قال لي لم أعد أحبك يا أمينة)
وفي صخب الصمت العنيد المطبق على (أمينة) و(حكمت)، وفي يمّ التفكير العميق في اتخاذ قرار الانتحار، أوالعدول عنه، يُنبت الكاتب في رحم الحالة النفسية لأمينة وحكمت قصة العنف والخيانة، والسكين كأداة للقتل.. لكن يبقى تنفيذ هذا الانتحار خروجا عن الإيمان الذي يعمّر قلبيهما:
(أمينة: ماذا تريدين يا حكمت؟
حكمت: أريدك أن تكرهيني
أمينة : لا ... أنا أحبك...)
لقد أرادت (حكمت) أن تستولد حقد (أمينة) من قصة مفتعلة تدور حول خيانتها لها كصديقة حتى تدفع بها إلى الانتقام لتصفيتها جسديا حتى تتحرر من عذابات الأيام ومن الأذى الذي تعيش فيه في عالم أشد ظلما وقسوة، ليبقى التحريض على ارتكاب هذه الجريمة لا يعني إلا التطهير من حالات القرف، والغثيان التي تلازمها وهي تتكلم وتوجه الاتهامات والنعوت لأمينة مثل اللؤم والخيانة وقلة حيائه حيائها، وأنها حية رقطاء، وحمالة أوجه دون وجه حب، وكل هذا من أجل دفعها إلى ارتكاب الفعل.
حكمت تريد من أمينة أن تغرس السكين في صدرها حتى تموت لتنهي عذاباتها، لكن أمينة تؤكد لها حبها ووفاءها لأن لا حياة لإحداهما دون الأخرى، ويفلسف الكاتب سعيد حجاج قضية الموت، ويؤكد على لسان أمينة : (ليس لنا أن نموت وقت ما أريد أو وقتما تريدين)
لكن القتل يبقى هو الاختيار الذي سيضع خاتمة لعذاب (حكمت) الذي طال وآستطال واستطال:
(حكمت: لكنني أريدك أن تقتليني دون أن يكون في قلبك ذرة حب لي، ولِكَي تستطيعي الإقدام على هذه الخطوة يجب أن تعبئي قلبك بكراهية لا حدّ لها، ويجب أن تعرفي أنني لا أحمل أية ذرة من كراهية لأحد... ولو حتى لزوجي الذي كان محشوا بكراهية معتادة ... فقط كنت أقول هذا لمن حولي لأننا كان علينا أن نملأ أوقاتنا بكلام ما... حتى ولو كان غير حقيقي على الإطلاق. افعلي أرجوك... أرجوك أن تفعلي.. فأنا لا أستطيع الانتحار وأنا أحمل في قلبي كل هذا الإيمان بالله.
تتحرك شفتاها وهي ناظرة للمطلق بينما أمينة تهذي بكلام غير مفهوم في همس)
في مسرحية (ألم الوقت) تتعدّد الآلام نتيجة انكسار شعور (أمينة)، و(حكمت)، ويلجأ الكاتب سعيد حجاج إلى الالتفاف على مصيرهما المجهول ليكتب حكايات صغرى هي سيرة خاصة بهما جمّعها من أزمنة مختلفة، ووضعها في حوارات لا تربط بين عناصرها سوى صدمة الحنين، وصدمة الفشل، وصدمة الرتابة، وصدمة الرغبة في الانتحار، وهي الصدمات التي كانت تدفع بالبطلتين كي تواجها اليأس بالأمل.
ومن الصدمة، ومن حالات العبث في هذا النص تبقى البنية العميقة في هذه المسرحية تصويرا لقضايا وجودية عند المرأة تنقسم بين الوجود والعدم، بين حب الحياة، والبحث عن معنى الموت، ومعنى الحياة، ولعل السمة الأبرز في حيوية الكتابة تكمن في قدرة الكاتب على استجلاء نفسيات البطلتين، وتطويع لغته كي تقوم بمهامها في بلورة الحالات والصراع، وهذا ما يمكن تصنيفه كمظاهر من مظاهر الحساسية الجديدة في المسرح المصري الذي صار في كل تجاربه الكتابية يُلح على التخلص من العالم المغلق بعد جعل البديل الموضوعي لهذا الانغلاق الانفتاح على الذات، وعلى العالم.
وفي تجريب التعامل مع حساسيات إبداعية أخرى تنتمي إلى نصوص سردية أخرى لها علاقة بعالم الرواية والقصة يتولى الكاتب سعيد حجاج نقل كل دلالات هذه النصوص لعالم المسرح الذي يريد إنجازه مستفيدا من كل الطروحات الفكرية، والسياسية التي تتضمنها هذه النصوص متوخيا تشغيلها في تركيب عناصر الفرجة بهذه الحساسية وذلك بمسرحة هذه النصوص التي تعتبر تجربة مُميّزة للكاتب تضاف إلى تجربته في الكتابة المسرحية.
المبحث الرابع
مسرحة النصوص السردية في تجربة سعيد حجاج
يمثل عالم السرد بكل أنواعه وتوجهاته وجغرافياته الثقافية، مرجعا محوريا يرجع إليه العديد من المبدعين المسرحيين في الوطن العربي كي ينجزوا نصوصا تتوفر على بلاغات السرود العالمية التي يتفاعلون معها ومع كل غرابة تستهويهم بما تقدمه من أشكال ودلالات، وتميزات تحفزهم على النهل منها لكتابة غرابة ما يكتبون.
بكل تأكيد فإن عالم السرد هذا كما يتجلى نوعه في الرواية، أو النص المسرحي، أو السرد القصصي يبقى مثيرا لفضول كل قراءة تريد الكشف عن أسرار بلاغة البناء فيه، و الاستمتاع بأسرار صياغة المتخيل بالواقع في أحداثه، أو صياغة الحالات بغير الواقع حتى تصل إلى إثارة الرغبة في المتلقي كي يتتبع بلهفة ممتعة ما تقدمه من خطابات جمالياتها تكمن في شكل صياغاتها، وبلاغتها تكمن في البنيات التي تحتضن الموضوع بخصوصيات بناء النوع.
لقد وجدت تجربة المسرح العربي بعامة، والمصري بخاصة عالما جديدا في عالم السرد المسرحي والروائي والقصصي كونهما يقدمان النماذج والتجارب التي أثثت تاريخ كل تجربة، وكتبت تاريخ كل مبدع كان له تأثيره في المسرح، أو الرواية، أو القصة، فجاء الاهتمام بهذا العالم بسبب الموضوع والطروحات الاجتماعية التي كانت قريبة مما كان يعيشه الوطن العربي من قضايا اجتماعية وفكرية وتوجهات كانت تريد أن تنفتح على تجارب أخرى لتكتب بعض ملامح وإشكالات الواقع العربي أثناء نقل النص الآخر من سياقه الدلالي ليصبح منتميا إلى الواقع الجديد دون الإخلال بجوهر الموضوع الأصلي.
لكن التعامل مع هذا العالم بكل ما يتوفر عليه من تراث ثقافي مختلف نجده قد أعطى لتجربة المسرح العربي أشكال اختلافها وهي تنتج قراءتها للمتون الأخرى لتبني نصوصا ذات ملامح خاصة تنتمي إلى السياق الجديد الذي هو هويتها التي تنتقل إلى هوية النص الجديد، و كان من طبيعة هذا الجديد أن يكشف عن رؤية الكاتب وهو ينقل واقعا إلى واقع آخر، ويُوطّن هذا الجديد في الاختيارات الفنية، والاجتماعية والدرامية التي تكون جامع الخاصيات التي تميز هذه العملية التفاعلية مع تجارب أخرى.
لقد كانت المصادر والمراجع التي يتعامل معها المسرحيون العرب أثناء إعادة كتابة مفردات التراث السردي محصورة في التراث العربي، والمسرح الغربي، وهذا ما كان يخفي حقيقة تحويل ما تقوله هذه المصادر والمراجع في النص الجديد بعد أن يكون هذا الفعل الكتابي قد أنجز تحويلا دلاليا كان يراعي ـ أول ما يراعي ـ -أول ما يراعي- السياقات الجديدة التي ستستقبل الظاهرة الكتابية الجديدة بكل ما تحمله من عناصر الفرجة وهي تجمع بين كل عناصر ومقومات العرض المسرحي، وهو ما انخرط فيه الكاتب سعيد حجاج في تجريب كتابي يجمع ما بين استراتيجية التجربة وغاياتها لتنويع التجارب الكتابية المسرحية في المسرح المصري.
هذا النوع من الكتابة التجريبية لم يكن اختيارا معزولا عن باقي الاختيارات الأخرى التي كانت تراهن على تأسيس حساسيات جديدة في تجربة المسرح المصري، ولم تكن بمنأى عن محاولة إدماج التجربة الجديدة في العلاقة الجدلية بين شكل كتابة النص المسرحي، وبين تجارب الإخراج المسرحي الجديد الذي عرف طفرة ملحوظة في التعامل مع النص المكتوب، ويمكن اعتبار الثمانينيات من القرن العشرين مخاضا قويا كان يحفر بقوة زمن تشكل مدّ تجديدي في الإخراج المسرحي بحثا عن بلاغة جديدة تتأسس على بلاغة الصورة، وبلاغة الجسد، وبلاغة العلامات التي تكتب معاني النص اللغوي سواء كان مكتوبا أصلا للعرض، أو كان مأخوذا من نصوص سردية أخرى، وهو في هذا التوجه التجديدي كان يقدم نصوصا ستتحول إلى عرض يمتلك أنفاسا حيويته تحرّك جماليات هذه الحساسية الجديدة في الإخراج المسرحي مع كل من انتصار عبد الفتاح، والدكتور محمد عبد المعطي، وشريف صبحي، وناصر عبد المنعم، وحسن عبده، وخالد جلال، وإميل شوقي، وأكرم مصطفى، ومحسن حلمي، وعبد الرحمن الشافعي....
عندما قدم الكاتب سعيد حجاج مجموعة من المسرحيات التي استمد مقوماتها الدلالية من نصوص سردية أخرى مصرية وغربية فهذا يدل على أن تجربته كانت قائمة على العديد من الأسس التي كانت تبني بناء كل نص حسب مرجعه تمشيا مع أشكال تحويله من منظومة سردية إلى سيرورة سردية أخرى تراعي الكتابة الدرامية، وكأنه كان يقوم بهذه العمليات ليهيئ النص المكتوب إلى زمن العرض ليكون مع المخرج المسرحي مشاركا في رسم زمن بناء الفرجة.
هنا يمكن أن نتساءل:
• ماذا يعني الاحتفاء بمسْرحة نصوص سردية أخرى تنتمي إلى سياقات سردية أخرى؟
• هل يعني هذا أن الكاتب سعيد حجاج كان يقوم بهذه العمليات التمسرحية لتلبية حاجة فنية يريد بها توسيع مجالات اشتغال تجربته في الكتابة ضمن هذه الحساسية الجديدة؟
• وهل يحمل هذا التحويل معنى تجريب مسرحي يراد به إعادة كتابة نصوص أخرى من أجل امتلاك خبرات أخرى تساعد على تجويد مستويات الكتابة الدرامية المأمولة للتجربة المسرحية المصرية الجديدة.
تبقى كل هذه الأسئلة واردة أثناء الحديث عن مسرحة التراث السردي في تجربة سعيد حجاج وهي تلحّ على معنى هذا النوع من التجريب الكتابي التحويلي لنصوص سردية تنتمي إلى تجارب كتابية مغايرة لا علاقة -في الغالب- بالنص المسرحي، وتبقى الإجابة عنها ذات صلة وطيدة بالتراكم الذي حققه سعيد حجاج حين أصدر جامع هذه التجربة في كتاب موسوم بـ: (عيش السرايا).
تنكشف في جامع ما قدمه سعيد حجاج في هذا المصنف مجموعة من التوجهات التي حدّد بها منهجه في انتقاء النص الذي سيتعامل به أثناء مسرحة النصوص السردية الأخرى ونقلها إلى تجربته الخاصة، وأهم مكونات هذه المنهجية التي أوجد لها مبررات دمجها في عملية بناء النص الجديد هو ما يظهر في المشترك والمختلف بين هذه النصوص.
المشترك في المسْرحة، والمختلف في التحويل، لا يظهران كعمليات إجرائية إلا بعد إنجاز كل نص على حدة بعد أن يكون هذا النص قد استوفى شروط هذه المسْرحة أثناء تشكله، وبعد أن تكشف بنية كل نص على أنه موجود بما وجد به اعتمادا على مرجعه، واعتمادا على جوهره، واعتمادا على شخوصه التي تبقى حاضرة بملامحها، وهويتها، وأفعالها التي يمكن أن تتغير جزئيا تمشيا مع متطلبات السياق المصري وما يفرضه الكاتب نفسه على عملية التناسج الجزئي بين رؤيته ورؤية النص الأصلي.
هذا التناسج يظهر بجلاء في مستوى بناء النصوص المُمسرحة التي تحافظ في أكثر من تجربة على العنوان الأصلي للنص، و تحافظ على شخوص النص الأصلي -أيضا- فلا تغادر الجوهر إلا لحاجة في نفس الكاتب الذي ينقل السرد من بعده الوصفي، والسردي للأحداث لبناء الحوار الدرامي المتماسك بتماسك الأحداث.
بهذا التناسج كانت بنيات كل النصوص المُمسرحة مبنية في بنية واحدة أساسها البناء المشهدي للمشاهد في فصول موزعة بين مشاهد، وأساسها بناء اللوحات الموزعة على فضاء اللعب المسرحي لتبقى أهمية هذا البناء يعني نشدان الكتابة المختصرة للأحداث سواء في المشاهد أو اللوحات وهذا ما يميز هذه الحساسية الجديدة التي يراهن عليها الكاتب برؤيته وبلغته، وبشكل بنائه لنصوصه الممسرحة في المسرحيات التالية:
• السرايا الخضراء : من تأليفِ ماشادو دي أسيس، عن رواية (السراية الخضراء) والاسم الأصلي (طبيب الأمراض العصرية) ترجمها خليل كلفت سنة 1991. وهي نص مكتوب بالفصول والمشاهد.
• خالتي صفية والدير : عن رواية بهاء طاهر. وهي نص مكتوب
• ليلة عرس : عن رواية (ليلة عرس) ليوسف أبورية. وهي نص مكتوب في شكل لوحات.
• الرجل الصلصال : عن قصة عدلي عزة عدلي منظر
• أشياء مفقودة : عن قصة منى ماهر.
تعتبر هذه التجربة تطبيقا لما راكمه سعيد حجاج من مهارات، وكفايات في الكتابة المسرحية، كما تعتبر كتابة على كتابة لأنه لا يكتفي بمسرحة النص الروائي الأصلي بل إنه يضيف من عندياته بعض الأحداث والحوارات، دون الإخلال بالنص الأصلي حتى يكون منسجما مع خطه الفكري، واختياراته الفنية التي لا يراها كاملة إلا بعد أن يرى النص المُمسرح كاملا تاما على مستوى اللغة والرؤية، والزمن والتفاعل بين الشخوص.
عندما نقرأ هذه النصوص المُمسرحة فإننا لا نجد أنفاس السرد إلا في أنفاس الحوارات بعد أن يكون سعيد حجاج قد خفّف من هيمنة الوصف والحكي وكل غاياته هو الفعل في ما تمّت مسرحته، وغالبا ما كان يستعين بالراوي بدمج كلامه بكلام الحوارات.
إن تجميع كل المسرحيات التي تشكل تجربة سعيد حجاج في المسرحة، وتقديمها في أضمومة (عيش السرايا) ستبقى ذخيرة مسرحية تجريبية لا يمكن فصلها عن تجربته ككاتب استطاع أن يوحّد ما بين ما يريد، وبين ما تريده مرجعيات ونصوص أخرى يريدها أن تتزاوج مع ما يريد بخطابات مسرحية سبّاحة في عمق التجارب العربية والغربية بحثا عن إمكانات تواصل حقيقي مع مجتمع مصري يريده أن يرى صورته في صورة أدبه وشعره ومسرحه وهذا ما راهن عليه الكاتب سعيد حجاج في تجربته الإبداعية.
خلاصات
الناظم الدلالي الجامع لكتابات سعيد حجاج المسرحية هو تعدد المواضيع التي كتبها، أو عبّر من خلالها عن مجموعة من القناعات التي لا تمثل رأيه الخاص، ولا تقدم اختيارا بعيدا عن مرجعه الاجتماعي والسياسي، بل أنه يقدم خلاصات تفاعله مع النظريات وممارسات المسرح في مصر، ويقدم رؤية طبقة اجتماعية، ونخبة المثقفين الذين حملوا مثله نفس الهواجس، وعانوا نفس المعاناة، وعايشوا آلام مجتمع كان ينهار من الداخل، وتتآكل قيمه رويدا رويدا.
هذا الناظم الدلالي بكل وضوحه وبكل بيان موقفه من قضايا عصره، ظل موسوما بوعي الكاتب وهو يصوغ موضوع المرأة والعدالة والجحود والحروب، والهيمنة السياسية المختلة على مجتمع يريد أن يتحرر من خللها.
بهذا نقول إن كل نص مسرحي من النصوص التي كتبها سعيد حجاج تبقى كشفا عن زمن كان يخبئ تاريخه بالمغالطات أو الادعاء أو التمويه، وتبقى نصوصه المسرحية ترويضا للرمز الذي يكتب إيحاءه حتى يعبر بالعبث عن القضايا العصية على الفهم أو الكتابة أو التفكيك، وإعادة تركيب ما تمّ تفكيكه.
ومن الخلاصات التي أوصلتنا إليها قراءة النماذج المختارة، وبعد فهم دلالاتها في علاقتها بالأنساق التي كانت تنتج رؤيتها للعالم، و كونت بنية النصوص المسرحية المبنية على الاختلاف الوظيقي في الكتابة من نص إلى آخر، نقول إن تعلق الكاتب سعيد حجاج بالكتابة الرمزية، والاستعانة بالنصوص السردية هي التي جعلته يختار منها موضوعه المناسب لرؤيته لعالمه وذلك أثناء مسرحة الواقع بالأدوات التي تساعد فعل الكتابة على أن يصبح دراميا.
يظهر هذا التميز في المستويات والدلالات التالية:
• اختيار استراتيجية الاقتصاد في العبارة في كتابة حوار الشخصية.
• وضع الأحداث في الأماكن المغلقة ليكون لذلك تأثيره على نفسية شخوص المسرحية.
• نقد ما تقوم به الجرائد من نشر التفاهات حتى يبقى القارئ بعيدا عن الحقائق والأحداث الحقيقية لمدينته ووطنه وهويته وذاته.
• أن كل نص مسرحي يكتبه الكاتب يبقى مكتفيا بعالمه، وقضاياه.
• اعتماد الكتابة المشهدية على التوثيق للحظات التراجيدية التي تعيش فيه كل الشخوص.
• عدم اعتماد صورة البطل بمفهومه الكلاسيكي لكتابة المسرحية.
وعندما تجتمع كل هذه الخاصيات في المشروع الكتابي المسرحي عند سعيد حجاج فإنها لا تفيد إلا في القول إنها كانت أساس تجاوز الأنماط المسرحية المعروفة لتأسيس حساسية الكتابة الجديدة، وتحقيق طفرة هامة في التجريب المسرحي، وفي الأخير تبقى كتابة سعيد حجاج إضافة نوعية للمسرح المصري.