ليلة ميلاد النسور في مسرحية الصبوحة

ليلة ميلاد النسور في مسرحية الصبوحة

العدد 688 صدر بتاريخ 2نوفمبر2020

تأتي مسرحية صبوحة كإنجاز درامي رفيع المستوى، مسكون بالوهج والحضور، يمثل وجودا فنيا فريدا يشتبك مع نبض اللحظات العارمة التي نعيشها الآن، يثير الجدل والتساؤلات حول شراسة الجمال الأخاذ، الذي يتضافر مع الواقع والإنسان ليبحث عن معنى العصيان، عن العدالة الهاربة ودوافع الأعماق، يدين التسلط والقهر، يحاكم الجهل الوحشي واندفاعات السقوط  إلى الحضيض، يمزق أقنعة الوجوه الجامدة وصولا إلى معنى الحضور والغياب والحقيقة والحياة، لنصبح أمام امرأة أسطورية ساحرة، تموج عشقا وبهاء وجمال، قررت مواجهة هؤلاء الذين اغتصبوا الروح والجسد، واستلبوا ضوء الشمس وسحر القمر، تفجرت في أعماقها موجات الحياة، كي تستعيد حقها وحقوق كل الضعفاء، الذين عجزوا عن البوح والمكاشفة - -، لذلك رأيناها كإيزيس عصرية تلد النسور القوية، لتفتح المسارات أمام حقيقة عالم جديد لم تتضح ملامحه بعد . 
هذه المسرحية هي أحدث أعمال المؤلف المثقف والمخرج الكبير دكتور سامح مهران، منشورة في مجلة المشهد المسرحي، التي يرأس تحريرها د . عبد الحسين علوان ، وكذلك على موقعها الإلكتروني، وهي تحمل بصمات إبداع خلاب يعلن عن أزمة العقل العربي وموت الفكر والفلسفة وأحلام الإنسان، تخترق أبعاد وجود صادم ظالم، انقلب على الوعي والفكر والجمال، استلب المعنى والإرادة والحياة وظل يرتد إلى الصمت والرضوخ  وجمود التابوهات، الأحداث تشاغب الحب والجنس والتراث والأساطير والغيبيات، تشتبك مع السياسة والاقتصاد ولعنة الجهل وصناعة المؤامرات - -، تبحث عن الوعي والمعرفة، عن الحروب البيولوجية، التي دمرت الموت والحياة، وعن ملامح القوة القادمة في عالم اختفت ملامحه خلف الكمامات . 
تنطلق فراشات الروح الوردية، وتأخذنا اللحظات الأولى من نص» صبوحة «، إلي شاشة السينما حيث الطريق والغروب والزرع،العمدة والخفر في استقبال “عارف”, أول مدرس يأتي إلى القرية، معهم الرغاي – الشخصية المحركة لمسارات السقوط في المسرحية، نموذج فريد للجهل والتسلط والشذوذ، يعرف أبجديات  القراءة والكتابة عبر لغته الخاصة وحروفه المتكسرة وحقيقته الزائفة، يعيش أسوأ لحظات وجوده - - فهو يرفض وجود عارف المدرس، يراه شيطان من نسل شياطين، ملعون جاء إلى البلد في يوم أسود ويجب أن يرحل حتى لا  يهوى  عرشه الأثيم . 
يأخذنا المنظور الجمالي العبقري الذي يمتلكه المؤلف والمخرج د . سامح مهران، إلى احتفال مبهر بالحياة حيث الرقص والغناء والحصاد والألوان والإيقاع والقوس الدائري المدهش حول سرير العمدة وصبوحة، الدلالة الجمالية للتكوين ترسم ملامح السقوط القادم، وحوارهما يكشف الأبعاد والأعماق، فهي امرأة جميلة باحثة عن الحياة، ليست ربة ولا ملكة لكنها أنثى بهية تموج سحرا وعشقا وجموحا واندفاعات، يحبسها العمدة الجاهل الشغوف بالجنس في بيته، يخاف عليها من الرجال والذئاب والنار،خطوط الحركة تنتقل إلى خشبة المسرح وإيقاعات الفرح تتصاعد لتشاغب أعماق الصبوحة، التي تسأل عن المدرس الجديد، فيندفع إليها العمدة يعانقها ويقبلها - - يلهث خلفها، الموسيقى تتقاطع مع صخب لحظاته  الشاهقة، وأنفاسه تتقاطع مع همسها في إيقاع متصاعد يهدأ تدريجيا بينما يردد في هدوء- - دي مش ست - - دي حلاوة طحينية ثم ينام، فتندفع صبوحة إلى الفلاحين تغني وترقص في جنون محموم، وحين تلتقي عيناها بعارف يسألها عمن تكون، لا يتصور مطلقا أنها زوجة العمدة، بينما تطاردها عيون الرغاي وأمنياته الشاذة الهابطة، ويظل يهمس للناس أن المدرس فلاتي وبتاع نسوان، سكير مطرود من مصر،   شيطان وملعون، تلك الحالة التي تضع نهاية للمشهد الراقص المثير فنراه متجمدا كتماثيل الشمع . 
كان العمدة يهوي جسد زوجته يمتلك به الكون ويتحقق ويندفع إلى نجوم الأفق، يذوب ويغفو وينام ليصحو، وينسى أن للأشياء نهابات قادمة ’ وفي هذا السياق كانت صبوحة مشدودة إلى عارف،طلبت منه بوضوح أن يعلمها، أخبرت زوجها بذلك فرفض بشدة، لكن شرارة الوهج انطلقت من عينيها إلى قلب المدرس، الذي ظل يعانق كئوسه وينصحها أن تبقى مع القطيع، أخبرته أن عمرها من عمر الدنيا، تحمل في أعماقها تاريخا وتراثا وأساطير وعيونها على الزمن القادم . .تعود الموسيقى ورقصات الحياة،  ونعايش ذلك المشهد المثقل بالخطايا والآثام والدلالات، الفلاحون يطلبون من الرغاى أن يمسخر لهم العمدة،فيأتي بمجموعة من العرائس القفازية تمثل العمدة وزوجته والمدرس,  وترتدي نفس  ملابسهم، وهنا تبدأ لحظات العزف المخيف على أوتار الجهل والرغبة في أعماق الناس، الرغاي يرسم أبعاد مؤامرته الساقطة، فيجسد تفاصيل علاقة العمدة بزوجته السخية البهية، ويتصور الناس كيف يحل ضفائرها ويعانق تفاصيلها، ثم يندفع إلى تدمير تلك الأنثى الشهية التي يهواها ويريدها لنفسه، يضعها في حيز الخيانة فيدفعها إلى أحضان عارف، ويراها الناس هاربة من زوجها إلى عشيقها المظلوم، تلك الحالة الفنية المدهشة التي يؤديها الرغاي ببراعة ملموسة، فاستطاع أن يحول الخيال المريض إلى واقع مؤسف اندفع إليه قطيع الفلاحين  وقرروا أن يحرقوا صبوحة وعارف - -، الأزمنة تتعانق والحقيقة تغيب، ونرى اندفاعات الفلاحين إلى الأعواد الخشبية ليكونوا محرقة تشبه تلك التي كانت في العصور الوسطى، وفي هذا السياق تأخذنا لغة الإخراج إلى شاشة السينما التي تضاء بقوة وتعرض العديد من مشاهد الحرق والدم والقتل والموت، ثم تتغير لنرى الرغاي وهو متنكر في ملابس امرأة، يدق على باب منزل العمدة، يخبر صبوحة أن الناس اتهموها هي وعارف بارتكاب الفاحشة  وقرروا حرقهما، ورغم رفضها ودفاعها عن شرفها ونفسها، إلا أنه يقنعها أن العمدة صدق كلام الناس، وعليها أن تهرب الآن - -، الأصوات المفزعة تتقاطع مع خطوط الحركة والمحرقة المخيفة تشغل عمق المسرح، بينما الفلاحون يقتادون عارف الذي يصرخ في جنون محموم أنه بريء والصبوحة شريفة وبريئة، يضربونه بقوة ويرددون» زانيين « - -، بينما تشتعل النار في جسده والحطب حوله يتوهج ويلتهمه بجنون، أما صبوحة فهي تهرب إلى بيت الرغاي، وفي تلك اللحظة الفاصلة تتكاثف موجات الدخان وينزل من السوفيتة مظليون يرتدون أقنعة الغازات السامة، يحققون مع العمدة، يسألونه عن الأمن وحقوق الإنسان، ويخبرونه أن هناك حمى نادرة انتشرت في القرية، وأن المؤسسات الدولية والمنظمات الصحية سوف تتدخل، فالحمى نادرة، لن تجعل أحدا ينجب ولا أحد يموت، وسوف يتم حصار القرية وعزلها انتظارا للحلول العلمية . 
تشتبك الدلالات مع الواقع العالمي الذي نعيشه الآن، وجماليات الكتابة تمتد لنعرف أنه في العام الأول بعد الوباء أصيب العمدة بالشلل، وفي الأعوام العشر التالية افتقد الناس الحس والخصب والرغبة ودفء الحياة، اختل عقل الرغاي، وصدق أن الوباء هو ابتلاء من الله جزاء الفاحشة التي يعلم جيدا أن صبوحة لم ترتكبها،  لم يعد يراها امرأة جميلة، تحولت في نظره إلى قرين مخيف لها، رفع الناس كفوفهم للسماء - -، فقد طالت الحكاية وامتلأت الصدور بالضياع والعذاب، غابت الحياة - -، لم يعد هناك شر ولا خير، ولا حب ولا كره، وعاش الناس يوما طويلا لا ينتهي وسقط تماما معنى الوجود  . 
يأخذنا تيار المشاعر إلى عذابات الكوفيد والغازات السامة واختناقات الروح، لكن العام العاشر بعد الوباء يشهد حدثا عبقريا عظيما يهز عرش الصمت والعقم والغياب، فقد أصبحت صبوحة حامل، وهذا يعني أن البلد فيها رجل - -، الرغاي يصرخ وهو يواجه المرأة الجميلة، مؤكدا أنه أولي من الغريب ويهددها بأن يحرقها، وفي تلك اللحظة تظهر الراقصة العجوز التي تحجل على قدم واحدة، تلف حول وسطها جماجم وأجراس، تطلب من صبوحة أن تحكي حكايتها ولا تخاف، تتعامل بسحرها المخيف مع الرغاي، الذي يسقط على الأرض ويموت . 
كان حوار الساحرة مع المرأة الجميلة مسكونا بالرؤى والدلالات، طلبت منها أن تحكي للهواء والليل والسحر والقمر  والبحر والحجر، فاندفعت لتقول إنها حافظت على قدسية جسدها، لم يلمسها الرغاى، هزمته بمكر النساء، أدخلت الرعب إلى وجوده حتى ظنها من الجان و فابتعد عنها تماما، وفي هذا السياق اعتادت صبوحة أن تأخذ الشبكة في الليل وتذهب إلى الترعة لتصطاد، لم تحصل على سمكة واحدة - -، لكنها تعرفت على الكروان، كلمته وكلمها وظل دائما على كتفها، وفي تلك الليلة رفعت يديها إلى السماء تدعو الله أن يريها عجائب قدرته وكريم قوته، ألقت بالشبكة وسحبتها، لتجد بداخلها إنسان من عظم - -، أحست أنه عارف فأخذته إلى الدار وفي مكان قلبه وضعت الكروان، ظل يسبح لله - -، كانت عيون الإنسان تدمع، قبلته وضمته ورشفت دموع عينيه، وبعدها عرفت أنها حبلى . 
انتفضت الراقصة، طلبت من صبوحة أن تضرب بجناحيها وأن تفتح عينيها لتلون الولد بلون القمر، المشهد الأسطوري المثير يتجاوز حدود الجمال المألوف، التفاصيل تدور على الشاشة وعلى خشبة المسرح، المرأة الجميلة في حالة ولادة، الراقصة تخبرها أنها ستحمل الدنيا على صدرها، وعلى ظهرها كل الزرع والخضرة، وستشرق الشمس من قلبها وعروقها، وفي بطنها الولد الذي سيولد الآن . 
 تتردد صرخات صبوحة، الراقصة تساعدها - - فالولد سيأتي من جرحها، وأخيرا تلد السيدة نسرا قويا، ترفعه الراقصة إلى أعلى مستوى خشبة المسرح،بينما تنزل من السوفيتة نسورا صغيرة مدهشة تنطلق معها أغنيات الحياة، وتأخذنا رمزية الدلالة العارمة إلى أن الزمن القادم هو زمن المعرفة والقوة والإنسان .


وفاء كمالو