المسرح الشعبي وتغير شروط اللعبة

المسرح الشعبي وتغير شروط اللعبة

العدد 622 صدر بتاريخ 29يوليو2019

تعرف الثقافة الشعبية على أنها ما يرثه الخلف عن السلف من الخصائص والصفات والسلوكيات والتصرفات، وهي نمط حياة فئة معينة من الناس يحيون معا في مكان معين، وتتجلى في نظمهم الاجتماعية وفي فنونهم، وفي تقاليدهم وعاداتهم، وفي معتقداتهم الدينية وفي اهتماماتهم، وتجمع ما ينتمي إلى ميدان النخبة وما ينتمي إلى ميدان العامة، وما يندرج ضمن المقدس وما يندرج ضمن الدنيوي. ويطلق مصطلح الشعبي على الفن الذي يخاطب الفئات والشرائح الشعبية من المجتمع، وعلى ذلك يكون المسرح الشعبي هو ذاك المسرح الموجه إلى الشعب عامته، أو ذاك المسرح المنبعث من الشعب والعائد إليه.
فإذا كانت أبرز أهداف العروض المسرحية الشعبية هي الرغبة في ضمان حضور جماهيري واسع عبر إشباع رغباته، لذلك بقيت التجربة المسرحية العربية في سعيها لزيادة عدد الحضور الجماهيري تعيش حالة تخبط وعدم وضوح وانحسار، في عصر أضحى مميزا بثورته التكنولوجية الرقمية وتطور وسائل الاتصال عبر تقنيات صورية تتفاعل مع المسرح بوصفه جزءا من متطلبات تطور الحياة ووسائل الانسجام والتوافق معها. وعلى النقيض، تعيش معظم عروض المسرحي الشعبي في نموذجها السائد في مسارحنا العربية التي تلاقي رواجا استهلاكيا حالة من الخواء الجمالي والتصحر المعرفي، مليئة بالأدائية الساذجة والمكررة هدفها إثارة الضحك ليس إلا، وهي في أغلبها عروض غابت عنها الأشكال والصور والمؤثرات الجمالية والتكوينات الساحرة، وقبلها المعالجات الفكرية المؤثرة التي ترتقي بذائقة المتلقي وتنتقل من منطقة المشاهدة العابرة إلى المشاركة الوثابة والمتوقدة، رغم ما حققته بعض العروض من حضور فني وجمالي ترك أثرا طيبا على مستوى المشاهدة والتأثير.
شكل المسرح الشعبي موضع اشتغال الكثير من الباحثين، إذ أجرى المخرج الفرنسي جان فيلار تغييرا جذريا في بنية المسرح الشعبي بهدف الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس، من خلال تغيير شروط العرض والإخراج، وتقديم شيء مغاير لجمهور مسرحي متنوع الأفكار والأمزجة. يقول فيلار: «ظل المسرح مسرح طبقة.. أو لنقل إنه ظل موجها للطبقة البرجوازية.. حسنا سأحاول غزو جمهور جديد». ويقول الأمريكي هارولد كلومان: «أن تؤسس مسرحا شعبيا معناه أن تقوم بمجازفة عظيمة»، أما الخبير من بيرو رينالدو دامور فيقول: «الطبقة العاملة في بيرو هي عامة الناس وحيث إن معظمهم لا يتكلمون الإسبانية فلا يحتاجون إلى مسرح في المدينة، بل يحتاجونه في الجبال»، ويفصل المخرج المجري فيرنيك هونت أكثر بقوله: «من المهم أن نتذكر دائما أن أولئك المشاهدين الذين تعلموا القراءة قد لا يكونون قد تعلموا فهم كل ظلال اللغة العلاماتية الخاصة بالمسرح». أما المغربي الطيب الصديقي فيقول: «لو أننا في المغرب جئنا بالمسرح إلى أولئك الذين لم يسمعوا بتلك الكلمة من قبل، الذين لم يخطوا خطوة واحدة نحوه، لأسباب مختلفة، فمن السخف أن نقرر أنهم سيحبونه مثلما نحبه نحن». ويرى العراقي الدكتور سامي عبد الحميد أن المسرح الشعبي يتمثل بثلاثة اتجاهات:
الالتزام بالمسرح التقليدي كما في أفريقيا وآسيا.
التعبير عن الصراع الطبقي كما في بلدان أوروبا الاشتراكية السابقة.
التوجه إلى الفئات الشعبية الواسعة، كما في فرنسا وإيطاليا والسويد وأمريكا.
ولتمكين المسرح الشعبي من إنجاز مهماته على الوجه الأكمل، كان ضروريا أن يحدث تطوير للمعمار التقليدي للموقع المسرحي بصيغته القديمة «العلبة الإيطالية» والاستعاضة عنها بأماكن أكثر اتساعا لاستقبال عدد أكبر من جماهير المشاهدين، ‏ فالبعض يرى أن الذي حط من شأن المسرح هي الهندسة المعمارية..
واستمدت المسارح من موروثها الشعبي ومن الحكايات والأساطير والقصص كمضامين كذلك الأشكال الدرامية أو الشبيهة بالمسرح التي توارثوها والتي تديم العلاقة مع فنون الشعوب تلك لخيال الظل والأراجيز والمقامات والحكواتي.‏ تلك الخصوصية الشعبية الموروثة أساسية لإيجاد المسرح الشعبي العربي إذ لا يمكننا أن نستعير شكلا شعبيا لأمة ما هنا وندعيه لأمة أخرى، وذلك لاختلاف سماته وخصوصيته، وعلى المسرح العربي أن يتحرر من طوق غربته المسرحية ويعمل على ما يؤكد الهوية الخاصة به.
ويحدد الدكتور عبد الحميد يونس في كتابه «الحكايات الشعبية» أنواع الحكايات الشعبية بحكاية الحيوان، وحكاية الجان، وحكاية السير الشعبية، وحكاية الشطار، والحكاية المرحة، والحكاية الاجتماعية وحكاية الألغاز، ولعل أهم المصادر التي أفادت المسرحيين العرب وغير العرب وهي حكايات ألف ليلة وليلة التي تعتبر من أشهر الأساطير العربية المدونة، وكون حكايتها تقرب إلى حد كبير من قالب المسرحية، لكثرة ما فيها من حركة وحوار وسهولة تحويلها إلى مسرحيات وتمثيلها وإلى كونها أداة معرفية وثقافية. وفي الجزائر بنى عبد القادر علولة تصوره على رفض المسرح الغربي رفضا جذريا، بعد أن تعامل معه مدة ليست بالطويلة، ليقرر التمرد على القالب الأرسطي الكلاسيكي، والعلبة الإيطالية التي تذكر الجمهور بفضاء درامي غريب عنه، وهو الذي تعود أن يرى الفرجة الشعبية في الأسواق والفضاءات الشعبية في الريف والمدينة على حد سواء. وفي العراق قدم إبراهيم جلال أول عرض في المسرح الشعبي في عام 1953، وهو عرض «راس الشليلة» للكاتب يوسف العاني، ثم لحقه بعرض آخر للعاني عام 1956 بعنوان «ست دراهم»، ثم «أنا أمك يا شاكر» للعاني أيضا 1959. ومن الممكن القول إن إبراهيم جلال يعد رائد المسرح الشعبي على مستوى الإخراج في العراق كما يعد الفنان يوسف العاني رائده في التأليف والتمثيل. أما فترة السبعينات وما تلاها، فقد قدمت الفرقة القومية للتمثيل وحدها عددا لا بأس به من المسرحيات الشعبية، ولكن ما يلاحظ في عروض تلك الفترة الشعبية أنها خرجت من مرحلة البدايات المتأثرة بالنموذج المصري الشائع لصالح عروض أكثر خصوصية وانفتاحا على التيارات الشكلية والتمثيلية الوافدة للبلد مع عودة عدد من المسرحيين الذين درسوا المسرح في دول العالم المختلفة. ولعل المفتش العام لغوغول وطرطوف لموليير، وغيرها من المسرحيات الشعبية كانت توفر حاجة نقدية وثقافية لتعميق الإحساس بالمسرح الشعبي.
المسرح الشعبي هو ذلك المسرح الملتصق بقضايا الناس، والجمهور يذهب إلى عروضه ليرى ما يمثله ويحكي عن همومه الدفينة، والمسرحيات الشعبية تعكس دوافع فئات واسعة من أبناء الشعب وكذلك تعكس الواقع الذي يحتوي مختلف المشكلات التي تواجه تلك الفئات وتعبر عن معاناتهم وطموحاتهم وما يمرون به من أحداث في حياتهم اليومية سواء كانت في الحاضر أو في الماضي شرط أن تجد لها صدى في الحاضر، ولا يهم أن تتحدث المسرحية باللغة الرسمية الفصحى أو باللهجة العامية، المهم أن تكون أقرب إلى الواقع حتى وإن احتوت لمسات خيالية. يقول باربا: «المسرح لا يمكن أن يكون فنا شعبيا إذا لم يستجب العرض المسرحي إلى تلك المجتمعات المتماسكة التي تمتلك نظرة موحدة للحياة، وعندما ينمحي المألوف الشائع حسب القانون الأخلاقي لا يمكن لأية صيغة مسرحية أن تدعي أنها شعبية وأنها قادرة على جذب المجتمع بكامله».


أحمد الماجد - العراق