العدد 625 صدر بتاريخ 19أغسطس2019
عندما يصبح التحلي بالمشاعر الإنسانية الإيجابية هو الغلاف الذي يؤطر التجربة الإبداعية، فإن هذا يعد في بعض الأحيان كافيا من منطلق بث الثقة في جانب من الجوانب المظلمة في النفس البشرية، ودائما ما يسعى المبدع إلى البعد عن المباشرة من منطلق أنها العدو الأول للإبداع الفني والاتجاه إلى طرق أخرى تفصل الفن عن الحكم والخطب والمواعظ، وفي هذا منتهى الرجاء.
على خشبة مسرح السلام ومن إنتاج فرقة مسرح الشمس بالبيت الفني للمسرح التابعة لوزارة الثقافة قدم العرض المسرحي “أوبرا بنت عربي” تأليف ياسمين فراج، تصميم وإخراج هشام علي، تحت عنوان هو الأهم في التجربة (عرض عن قبول الآخر) وحدد الآخر في هذا العرض المسرحي بأنه ذاك الإنسان الذي يعاني من إعاقة جسدية أعاقته عن التواصل مع الصحيح الجسد بشكل (الند بالند) مما يؤثر نفسيا في متحدي الإعاقة في كل الأحوال.
ومن التوجه المجتمعي بمحاولة دمج فئة متحدي الإعاقة انبثقت هذه التجربة، وحقيقة القول إنها ليست الأولى في المسرح المصري، فكم من الفرق المسرحية أقامت عروضا ممتعة إلى حد كبير أبطالها قاوموا تلك الظروف وأجادوا بشكل تخطي واقعهم، فأصبحوا قاب قوسين أو أدنى من تلك الفئة التي لا تعاني جسديا بشكل ملحوظ الآن أن أبطال أوبرا عربي أصحاء الجسد ومتحدي الإعاقة عاونهم في التشكيل والغناء وأدوار أخرى لطرح قضاياهم، فعدت القضية واحدة بين صحيح الجسد ومتحدي الإعاقة، وفي “أوبرا بنت عربي” الوضع يختلف حيث غزارة الإنتاج والعرض على خشبة مسرح مجهزة وعرض يصنف على أنه عرض مسرحي احترافي وبطولة قامة من قامات المسرح المصري هذه الأيام (الدكتور علاء قوقة) ويعلق على أحداثها صوتيا سيدة المسرح العربي سميحة أيوب، فهو عرض احترافي بمقاييس المسرح المصري هذه الأيام، وتدور الأحداث في قالب أسطوري عن (الملك نيار) هذا العادل الذي يصول ويجول في الحروب فائزا غانما إياها، ويجب وراء ظهره دائما قائد جنده (عربي) الذي أفنى حياته عن قناعة واقتناع للزود عن وطنه وحمايته من أي تهديد من قبل الأعداء ولأن الصديقين (نيار وعربي) كانا دائما وأبدا قلبا واحدا وساعدا واحدا في تحقيق الانتصارات، فقد ارتبط مصيرهما معا حتى إنهما تمنيا إنجاب وريث لهما فاكتشفا أنهما عقيمان أو هكذا خيل لهما، وظل الحال على هذا المنوال، انتصارات هنا وهناك، إلى أن أثر نيار أن يستشير العرافة، فكيف له أنه يرتبط دائما مصيره بصديقه، فكان له تهديدا ألا يستأثر بما لا يحق له كي لا يخسر، إلا أن الملك نيار تحدى وترك عربي في حربه الأخيرة فانتصر عربي، ومن هنا دبت الغيرة في القلوب ووجد الوزير (انكار) ضالته في التفريق بين الصديقين وكان له ما تمنى، ذلك أن نيار وجد عربي قد أصيب في الحرب وفقد عينه، فقرر نيار عزله من وظيفته بل وطرده من المملكة هو وكل صاحب إعاقة، فلا مكان في المملكة إلا للأصحاء، وحدث أن أنجب الملك نيار فتاة وفي نفس الوقت أنجب عربي ذكرا، ولأن الأقدار منصفة فقد اكتشف الملك أن فتاته ولدت عمياء فجن جنونه وقرر وأدها، إلا أن الوزير أشار عليه أن يبدل فتاته المولودة بابن عربي المولود، فكان ما كان، ولما كبر الصبي اكتشف الملك أن الصبي أصم، وظل الوزير يعبث بالدولة وظل المناضل عربي يقود المنبوذين في مكان النفي حتى عم الحب والدفء مجتمع المهمشين المرفوضين وعم الظلم والقهر والبرودة مجتمع الملك والوزير، وانضم الابن الأصم إلى مجتمع المهمشين المنبوذين الذين ساعدوا الوطن في نهاية الأحداث وحموه من هجمات الأعداء ليرفع الجميع شعار أن الإعاقة ليست إعاقة جسد إنما هي إعاقة فكر وعقل، ورفض عربي أن تعود أوبرا إلى نيار أبيه الشرعي، فأوبرا رباها عربي فهي بنت عربي.
في إشارات سريعة ومقتضبة عرضت بعض متحدي الإعاقة الحقيقيين قضاياهم ورؤاهم بطريقتهم الخاصة، واشترك في العرض بعض متحدي الإعاقة الحقيقيين جنبا إلى جنب مع الأسوياء وجنبا إلى جنب مع المحترفين وجسدوا إعاقتهم الجسدية الحقيقية في إشارة إلى أن هؤلاء وهؤلاء سواء منهم من أصيب إصابة ظاهرة أو ولد بها، ومنهم من كانت إصابته غير ظاهرة وهو اتجاه محمود بطبيعة الحال ونراه بداية – فقط بداية – لعروض مسرحية أكثر اشتباكا مع قضايا متحدي الإعاقة الأساسية، وخصوصا أن هذا العرض قد ابتعد عن المتاجرة إنسانيا بإعاقة متحديها، وبالتالي فالولوج إلى عالم متحدي الإعاقة قد ينتج عنه مجتمعا أكثر اتساقا مع إنسانيته المغدورة.
أفسح الديكور خشبة المسرح بشكل كبير لإعطاء الحرية لمتحدي الإعاقة بالتجول على خشبة المسرح بحرية، وجاءت الاستعراضات (تعبيرا حركيا) بسيطا ومعبرا، وأفضل ما فيها هو استخدام صاحب الكرسي المتحرك في الاستعراض الحركي، فبدا وكأنه يطير بكرسيه من فوق الأرض بحرية، واستطاع المخرج (وفريق مساعديه الأكفاء) احتواء المجاميع والسيطرة على انفعالتهم على خشبة المسرح، فانصهروا في بوتقة واحدة منظمة فلم يشذ أحد عن الكتلة أو شغل الفراغ في ما لا يفيد، خاصة مع طول العرض نسبيا، مما أثر على التلقي ومحاولة تتبع الأحداث، إلا أن حالة الانضباط جعلت العرض في منطقة أخرى تفوق منطقة قراءة الدلالات السيميولوجية لقراءة موازية عن بدايات احتواء تستحق العناء.