ماهية الدراماتورجيا (1-2)

 ماهية الدراماتورجيا (1-2)

العدد 624 صدر بتاريخ 12أغسطس2019

مصطلح زلق
كما تقترح (ماريان فان كيركهوفن Marianne Van Kerkhoven)، عند محاولة تلخيص الإسهام المغاير لفن المسرح «حول مصطلح الدراماتورجيا On Dramatutgy»، فإنه مصطلح ليس من السهل تعريفه. إذ تقول:
«يبدو أن مصطلح الدراماتورجيا يتعلق بكل شيء. فهو يوجد في كل شيء، ويصعب تحديده. فهل يمكن أن نفكر في الدراماتورجيا في إطار المسرح المنطوق، أم أن هناك دراماتورجيا للحركة، والصوت، والإضاءة، وما إلى ذلك؟ وهل الدراماتورجيا هي الشيء الذي يربط مختلف عناصر معا؟ أم أنها بالأحرى الحوار المستمر بين كل الذين يعملون معا في المسرحية؟ أم أنها عن الروح والبنية الداخلية للعرض المسرحي؟ أم هل الدراماتورجيا يتم بها التعامل مع الزمن والمكان في الأداء، والسياق، والمشاهدين أيضا؟ قد يمكننا الإجابة علي كل هذه الأسئلة بنعم... ولكن....».
في الواقع، إن الإجابة الأدق والأوجز التي نحاول أن نجيب بها هي «نعم.. ولكن». ورغم ذلك تقدم المعاجم والموسوعات تفسيرات واضحة، فإنها غير كافية لدراسة الاستخدامات المتعددة والمركبة لهذا المصطلح، الذي هو مصطلح مرن ومتسع في النظرية الممارسة. وكما يوحي سؤال (فان كيركهوفن)، فإن الدراماتورجيا هي مصطلح يشمل البنية الداخلية للعرض المسرحي، علاوة على أنه كما يبدو مصطلحا يعنى بالعملية التعاونية في ربط أجزاء العمل المسرحي. وهذا يبدو شيئا مقتضبا: ورغم ذلك، فإن المواقف المختلفة المتضمنة في هذا التفسير مقترنة بمفاهيم مراوغة حول التكوين أو البنية الداخلية التي تعني أن الدراماتورجيا لا تزال مصطلحا زلقا وشاملا إلى حد ما.
علاوة على ذلك، تتضمن أسئلة (فان كيركهوفن) أن الدراماتورجيا هي شيء يجب البحث عنه: وبالتالي نرى علاقتها الضرورية بعمليات التحليل. فبالطبع، تستخدم مصطلح الدراماتورجيا كاختصار للتحليل الدراماتورجي. وكلمة «تحليل» نفسها تضم عدة احتمالات، وقد قدم الخطاب المعاصر مجموعة كبيرة من الاقتراحات في ما يتعلق بما ينبغي أن تكون عليه عملية التحليل. وكما يوحي استفسار (فان كيركهوفن)، فإننا نحتاج إلى الانطلاق إلى ما وراء فكرة أن الدراما تقدم مجموعة بسيطة من الدوال لكي نفسرها، لأن الدراماتورجيا أيضا تتعلق باستجابات المتلقي وتتضمنها: وبالتالي فلا بد أن يعتبر العمل المسرحي حدثا ديناميا.
ولذلك، يقترح (آدم فيرزيني Adam Versenyi) أن تعريف الدراماتورجيا بأنها «بناء الحدث المسرحي» يشارك في التقاء المكونات في عمل وكيف يتم بناؤها لتوليد معنى للمشاهدين. فالتحليل الدراماتورجي يتضمن عملية تفسير، وعملية النظر في الطرق التي تنتظم بها مستويات المعنى. ومع ذلك، من خلال وصف العمل بأنه «حدث مسرحي»، يوضح (فيرزيني) أن موضوع التحليل يمتد إلى ما وراء الأداء المسرحي نفسه، لكي يضم السياق والمشاهدين ومختلف الطرق التي تضع العمل في إطار. ويعلق (ر. كيري وايت R. Kerry White) مثلا أن:
 «النص أو الأداء هو تعبير عن الثقافة والتأثير الذي هو جزء منه، إذ تصبح الوظيفة الاجتماعية جزءا مكملا للتحليل الدراماتورجي. وهذا ينطوي على النظر في افتراضات العصر، وبنية سلطة المجتمع، والغرض الذي يخدمه الفن بالنسبة لأولئك الذين يرعون ذلك، والتقلبات في الذوق والقيمة المعطاة للفن، والعلاقة المتغيرة بين الفنان والمجتمع».
أين إذن يمكن أن تنتهي الدراماتورجيا؟ وكيف نحدد معايير العمل؟ وفي مناقشته للتأليف يقول (فوكوه Foucault):
 «إنها أطروحة مألوفة جدا أن تكون مهمة النقد هي تحليل العمل من خلال بنيته وشكله الداخلي ولعب علاقاته الداخلية. ورغم ذلك تنشأ مشكلة عند هذه النقطة: ما هو العمل؟ وما هي الوحدة الغريبة التي نسميها عملا؟ وتتكون من أي عناصر......؟».
بينما لا يقدم التحليل الدراماتورجي إجابة لهذه الأسئلة، فإنه يسعى إلى تمييز الطرق المحددة التي يتم بها خلق هذه الوحدة الغريبة في أمثلة محددة. وبالتالي، فإن ممارسة الدراماتورجيا بمعنى العملية التحليلية تقدم استكشافا مستمرا لما يمكن أن يكون عليه العمل.
وفي هذه الدراسة لا نقترح تقديم تعريف نهائي لمصطلح «الدراماتورجيا»، لأن هذا يمكن أن يكون مختزلا بالضرورة. وفي حين أننا نهدف أن محددين بأقصى ما يمكن، فإن محاولة ذلك في ذاتها تؤدي بنا إلى ملاحظة التعقيدات الكثيرة والاحتمالات المتعددة الكامنة في مفهوم وممارسة الدراماتورجيا. ورغم ذلك، نهدف إلى تقديم بعض التوضيح لبعض الاستخدامات الممكنة للكلمة، وأقدم أمثلة لمعنى النظر إلى دراماتورجيا المسرحية أو الأداء.
هناك إجماع واسع أن تشكيل الدراماتورجيا كمصطلح يصف ممارسة بعينها قد ظهر مع الكاتب المسرحي والشاعر والناقد الألماني (جوتلد إفرايم ليسينج Gotthold Ephrim Lessing) في القرن الثامن عشر. وبالتالي يبدو من الملائم أن نبدأ بمنظور تاريخي للطرق التي ظهر بها مصطلح الدراماتورجيا في المسرح. إذ يمكن أن توجد الاعتبارات الأكثر شمولا في مشروع (ليسينج) عند كل من (جوناس Jonas) و(برويل Proehl) و(لوبو Lupu) و(كاردوللو Cardullo) و(لوكهيرست Luckhurst) و(كارلسون Carlson).
منظور تاريخي: تشكيل الممارسة الدراماتورجية
على الرغم من أن كلمة «دراماتورجي Dramaturgy» مشتقة من الكلمة اليونانية (dramaturgia) التي تعني تكوين المسرحية، فقد كان (ليسينج) هو أول من رسخ الفهم الحديث للدراماتورجيا باعتبارها مفهوما وممارسة مسرحية، عندما أصدر كتابه «فن التأليف المسرحي في هامبورج» (1767 - 1769). وهذا الكتاب، الذي قدمه (ليسينج) خلال فترة تعيينه الوجيزة في المسرح الوطني في هامبورج في وظيفة كاتب مسرحي مقيم ومستشار وناقد، هو في الأساس مجموعة من المقالات التي لا يتأمل فيها (ليسينج) فقط تكوين المسرحية وبنيتها والتمثيل والجمهور، ولكنه يتأمل أيضا مستقبل المسرح والنقد الألمانيين. وقد كان مشروع (ليسينج) طموحا ومستوحى من عصره، ومن المهم أن نفهمه في سياق مشروع التنوير.
يصف (دانييل بريور Daniel Brewer) التنوير بأنه «حركة الإصلاح الفكري والاجتماعي». إذ كان التركيز على التعليم والاستفسار النقدي والموضوعية التجريبية كبديل للفكر والسلوك اللذين يقومان على الدين، والعادات والتقاليد. فلم يحاول مفكرو التنوير في القرن الثامن عشر تفسير العالم، في إطار ديني وغيبي، بل في إطار موضوعي وتجريبي وعلمي. وفي ما يتعلق بالتطورات داخل النقد الأدبي، يلاحظ (هانز ريز Hans Reiss) أنه كان هناك بعض العجلة في إيجاد نماذج أو مبادئ للنقد ليست مبررة بالإشارة إلى السلطات الراسخة أو إلى علوم الدين والأخلاق والسياسة. إذ نشأ الدفع في اتجاه إيجاد معايير أكثر موضوعية لتفسير الظواهر في العالم من الانشغال بالمنهجية والتصنيف والترابط. فمثلا «الموسوعة Encyclopedie» التي أصدرها (دينيس ديدرو Denis Diderot) على عدة مراحل بين عامي 1751 - 1777، تنطلق لكي تقدم نظرة عامة على عالم المعرفة، وقد وصفها (بريور) بأنها محاولة لجمع المعرفة وتكثيفها، لتنظيمها وعرض الروابط فيما بين فروعها. وحيث إنه لا توجد مساحة لمناقشة عمل (ديدرو) بشكل مطول، فقد لعب الرجل دورا مهما في الفكر الدراماتورجي في المسرح. وقد أثرت كتاباته في المسرح، ولا سيما «الفرجة Spectatorship» في كثير من المفكرين والمتخصصين، ومن أهمهم (برتولت بريخت Bertolt Brecht).
وفي كتاب «الفن الدرامي في هامبورج»، يحاول (ليسينج) أن يطور خطابا وممارسة أكثر صرامة، وأكثر موضوعية وأكثر تحليلية، بتحديد بعض مبادئ التجديد المسرحي. إذا كان لديه القليل من الاحترام للمسرح المعاصر له. ويعلق (فيكتور لانج Victor Lang) على ذلك بقوله:
 «لم يوجد مسرح له ذرائع جادة في ألمانيا قبل نهاية القرن. فصورة الحياة المسرحية الضالة غير المسئولة التي رسمها جوته في مسرحيته (بطولة فيلهلم Wilhelm Meister) هي صحيحة بشكل بارز في ألمانيا القرن الثامن عشر. فبدأ (ليسينج) في تغيير هذه الحالة».
ولخلق مسرح بذرائع جادة، وفقا لعبارة (لانج Lange)، كان لا بد من تناول ثقافة المسرح في مجملها، بما في ذلك الكتابة والعرض وأسلوب التمثيل وإدارة المسرح والربرتوار. ولكن من المهم أن (ليسينج) أيضا سعى إلى إصلاح خطاب المسرح، من أجل تنشيط كل من الكتابة النقدية ومشاهدي المسرح. وكان مشروعه الطموح يهدف إلى استلهام فن مسرحي جاد ومميز في الثقافة الألمانية وتمييزه والدفاع عنه.
وقد لاحظنا فعلا أن (ليسينج) كان كاتبا مسرحيا كتب المسرحيات، وكتب عنها. ويقترح (برودهو Prodhoe) أن مسرحية (ليسينج) «مينا من بارنهيلم Minna von Branhelm» (1767) كانت أول مسرحية ذات أهمية عالمية بشخصيات ألمانية حقا. بينما اهتم مشروع (ليسينج) كدراماتورج وكاتب درامي، بترسيخ المسرح الألماني، فقد كانت رغبته الرئيسية أن يجعل المسرح مرتبطا بمجتمع معين، وبحاجاته التربوية، فضلا عن استبعاد التأثيرات الأجنبية (في الحقيقة) وكثيرا ما استشهد بالمسرح الإنجليزي كنموذج).
بالطبع، كان في غاية الاهتمام بالجمهور الألماني وأذواقه في المسرح. ومن الممتع أن نقرأ خطبه المستمرة ضد الحوارات السطحية، التي كانت في رأيه البديل المعاصر للنقد الجاد. ولخلق مسرح ذي ذرائع جادة، كان يدرك أنه يجب إعادة تعليم المشاهدين أيضا. وتهتم كثير من مداولات (ليسينج) بالمشاهدين والحاجة إلى خطاب نقدي ينطلق إلى ما وراء التقاليد السطحية، والافتراضات الموروثة. وكما تقول (جويل شيشتر Joel Schechter) «قام (ليسينج) المربي العام».
ولا بد من الاعتراف بأن (ليسينج) لم يكن ناجحا تماما في مساعيه، فقد اكتشف أن الممثلين يثورون من نقده لهم بينما كان مديرو المسرح لا يميلون إلى اتباع إرشادته، ثم أغلق المسرح القومي في هامبورج بعد عامين من افتتاحه. ومن الناحية الأخرى، في سياق مشروع التنوير، كان من الممكن أن نقرأ مقالات (ليسينج) باعتبارها نماذج تعليمية لبداية الكلام عن المسرح في إطار نقدي وبنيوي وتحليلي. وبينما يمكننا أن نجادل بأنه لا يوجد نقد مسرحي موضوعي تماما، فقد كانت مناقشاته تهدف إلى الموضوعية. وبينما لم يكن تحليل فن وتقنية التكوين الدرامي اكتشافا جديدا، فقد كان كتاب (ليسينج) «الفن الدرامي في هامبورج» وسائلي في إعطاء هذه العملية اسم «الدراماتورجيا».
لقد كان مشروع (ليسينج) نفسه مدينا لكتاب أرسطو «فن الشعر» (نحو عام 350 ق.م). وبالطبع كما طور كتابه «الفن الدرامي في هامبورج» قدم إشارات محددة إلى ملاحظات أرسطو حول التكوين الدرامي في محاولته لترسيخ بعض المعايير من أجل النقد. إذ ركزت الخطوط العريضة لمبادئ أرسطو على الطرق التي يمكن أن يشكل بها البناء الدرامي تجربة المشاهدين. فمثلا، ينصح أرسطو بأن بنية المسرحية يجب أن تدور حول حدث رئيسي، لأن المشاهدين لا يجب أن يفقدوا معنى الوحدة والكمال. فالمسرحية، يجب أن يكون لها جاذبية يمكن الوصول إليها في أول مشاهدة. والجزء المتمم لمناقشة أرسطو للبنية والتكوين هو اعتبار منظور المتلقي والتأثير الذي يحدثه التكوين على المشاهدين.
بينما يصف أرسطو الدراما بأنها كل عضوي، فمن الملائم أن نستخدم استعارة أكثر تكنولوجية عندما نحاول أن نصف تناول (ليسينج) المتأصل في الثورة العلمية. وقد يمكننا أن نقترح أن يعري (ليسينج) آليات التكوين الدرامي ويوضح صيغ عمله. إذ يراه باعتباره شيئا مبنيا وله تصميم عام. ورغم ذلك، ذهب مشروع (ليسينج) إلى أبعد من التحليل البنيوي: فقد سعى أيضا إلى إشراك الجمهور في جدال صارم حول دور المسرح عموما. هذه الصورة السياقية للفكر الدراماتورجي أصبحت فيما بعد القوة الدافعة وراء الكثير من الخطاب المسرحي الألماني.
لقد بدأ (ليسينج) نقاشا عن ما هي النماذج الدراماتورجية التي يمكن أن تساعد في تشكيل المسرح الألماني. وعلى الرغم من ذلك، كان (فولتير Voltaire) أكثر كتاب المسرح الذين عرضت لهم مسرحيات على المسرح القومي في هامبورج بين عامي 1767 – 1769. فاحتج (ليسينج) بأن المسرح الألماني يجب أن يأخذ الدراماتورجيا عند شكسبير كنموذج. فهو يعتقد أن شكسبير هو المفسر الأكبر للدراماتورجيا الأرسطية، التي تمثل التراجيديا اليونانية، والتي هي النقطة المرجعية للمسرح الجيد عند (ليسينج). لقد جادل (ليسينج) على أسبقية شكسبير على (فولتير)، مقترحا أن الكاتب المسرحي الفرنسي الذي ينتمي إلى مذهب الكلاسيكية الجديدة لديه فهم معيب للتراجيديا.
وفي تحليل (ليسينج) للفروق البنيوية والتفسيرية بين شكسبير وفولتير، نبدأ في تقييم حساسيته الدراماتورجية. ولعل أحد الأمثلة هو مناقشته لاختلاف صيغ كل من الكاتبين المسرحيين في تقديم الشبح على خشبة المسرح. ويحتج (ليسينج) بأن فولتير يستخدم الشبح كصيغة للحبكة الآلية بينما شبح شكسبير يبدو وكأنه شخصية حقيقية فاعلة. وفي توضيح ما يقصده بهذا التمييز، يكتشف (ليسينج) آثار التناولين المختلفين:
 «نشأ هذا الخلاف دون شك من وجهات النظر المختلفة التي نظر من خلالها كلا الشاعرين للأشباح. إذ نظر فولتير إلى عودة ظهور الإنسان الميت باعتباره معجزة، بينما اعتبره شكسبير حدثا طبيعيا. فأي منهما فكر بشكل فلسفي لا يمكن استفساره، لكن شكسبير فكر بشكل أكثر شاعرية».
وفي بناء حجته لصالح شكسبير، ينسجها (ليسينج) في إشارات إلى الفلسفة والدراسات الأدبية والتكوين الدرامي البنيوي وتاريخ المسرح. وبالتالي يتناول الحجة باعتباره العالم الذي يصل إلى استنتاجاته من خلال دراسة متأنية وإحالة مرجعية واستنباط.
ورغم نقد (ليسينج) لفولتير فقد كانت مسرحياته، كما يصفها (برادهو)، معدة بشكل متناظر للغاية، حتى إن أحد النقاد وصفها بأنها «الجبر الدرامي». ويقول (ريز) أن «التنوير الألماني اكتسب ميولا أخلاقية قوية، تغلغلت في أدبه، حتى إن (ليسينج) ظل يتوقع أن للتراجيديا وظيفة أخلاقية. ومن المهم أن نتذكر أنه على الرغم من أن (ليسينج) لعب دورا بارزا في تطوير فكرة الدراماتورجيا، فإن إشاراته إلى القواعد التركيبية والهدف الأخلاقي هو مشكلة إذا وجهنا إلى افتراض أن هذا نتيجة مباشرة للممارسة الدراماتورجية. ولكن على الرغم من أن كتابه (الفن الدرامي في هامبورج) لا يزال مصدر إلهام، فإنه جعله النموذج الأول للدراماتورجيا باعتباره الشخص الذي يطور الأفكار والمفاهيم من موقع من داخل مؤسسة المسرح – على الرغم من أن (ليسينج) نفسه كان من خارج عملية صناعة المسرح. بالطبع، يمكننا أن نجادل بأن (ليسينج) كان أقل إصرارا على القواعد من أرسطو. ويقترح (بيرجان Berghahn) أنه بين دوجماتية المبادئ الأرسطية من ناحية وجماليات استجابة القارئ من الناحية الأخرى، طور (ليسينج) شكلا جديدا في النقد، استمرارا في الجدال بأن الناقد ليس مشرعا ولا يفرض النظام على الشاعر... فهو يحكم ما إذا كان الشعر يحفظ المؤثرات الخاصة بنوعه، وبذلك يتصرف كداعية ومربي.
وقد أثرت كتابات (ليسينج) عن فن المسرح وتكوينه على فناني المسرح والمفكرين الذين جاءوا من بعده. وكما يعلق (برودهو)، وقد أثر اقتراح (ليسينج) بأن التكوين الدرامي هو نوع من فن الرسم العابر الذي يتضمن العناصر الأدبية والبصرية في فناني المسرح الألماني مثل (يوهان فولفجانج فون جوته Johann Wolfgang von Goethe) و(فريدريش فون شيللرFriedrich von Schiller)، والتأثير الذي أحدثاه في التجميع والإضاءة وإعداد المشاهد والحركة.
وفي عام 1783، عُين (شيللر) بوظيفة دراماتورج في مسرح مانهايم، ومثل الكثيرين في المسرح الألماني وضع مقترحاته للدراماتورجيا، على غرار عمل (ليسينج) الشهير. ورغم أنه لم يكتبها، ولكن الاقتراح أوضح التأثير الذي تركه (ليسينج) عليه. ومثل (ليسينج) في هامبورج، لم تكن تجارب (شيللر) باعتباره دراماتورجا لم تكن سعيدة تماما. ورغم ذلك، فقد مهد تأثير مشروع (ليسينج) في الدراماتورجيا الطريق لحوارات (شيللر) الدراماتورجية في مسرح «فيماتر هوفتثياتر» مع (يوهان فون جوته).
بينما كان (ليسينج) يعمل وحده، يصارع لتحديد المعايير لمسرح جديد، فقد كان عمل (جوته) و(شيللر) معا في شراكة إبداعية وسائلي في خلق هذا النوع من المسرح تحت إدارة (جوته) بداية من 1781.
ومع (جوته) و(شيللر) بدأنا نرى إمكانيات الحوار النقدي والإبداعي بين المخرج والدراماتورج. فعلى الرغم من أن (شيللر) كان هو نفسه كاتبا مسرحيا، فقد أصبح بشكل أساسي شريكا في الحوار الدراماتورجي لجوته، واكتشفا معا أساليب العرض على خشبة المسرح: مناهج تدريب الممثل، والإخراج والتدريبات، والممارسة الجماعية، والتحليل النصي الذي أصبح سهلا من خلال قراءة نصوص المسرحيات مع الممثلين. وكما تلاحظ (إريكا فيشر ليشت) فقد كان المسرح يدار باعتباره مسرحا تجريبيا حيث طور فيه (جوته) و(شيللر) جماليات مسرح جديد من خلال التبادل الجدلي بين التأمل النظري والاكتشاف العملي. وبدأ الاثنان معا في تطوير أفكار شاملة للعرض المسرحي، مع قصد واضح لترتيب كل العناصر المسرحية في وحدة واحدة. وكما يلاحظ (بروهو)، لذلك نرى مع (جوته) ظهور الممارسة الإخراجية التي يُرى فيها الأداء باعتباره كلا واحدا.
بينما كان (جوته) و(شيللر) كتاب مسرح، فقد كانوا متحمسين لتقييم جمع عناصر العرض الصوتية والبصرية واللفظية ودراستها، والعمل معا لخلق مفهوم العرض المسرحي الشامل: كان اهتمامهما هو دمج العناصر لبناء كل متماسك. ويتضح هذا في إرشاداتهم المسرحية المفصلة، حيث نحس فيها أن مسرحياتهما تطورت من خلال رؤية واضحة من أجل التحقيق العملي للنص.
وتعلق (ماريان كيستنج Marianne Kesting) أن ممارسة (شيللر) و(جوته) تظهر اهتمامهما بالعلاقة بين الشكل والمضمون. فمثلا، اهتما بالطرق التي يتطلب بها المضمون الجديد أشكالا جديدة. وهذا، من بين أشياء أخرى، أدى إلى وعي شديد بما يسميه (سوتكليف ٍsutcliffe)، في ما يتعلق بشيللر، العلاقة بين السردي وإطاره. وكما يوضح (سوتكليف) بعض صيغ شيللر السردية، مثل استخدامه للجوقة، مهدت الطريق لمفهوم (بريخت) في الاغتراب.
كان هناك دفعة قوية لـ(جوته) و(شيللر) في تطوير استراتيجيات جديدة لخشبة المسرح لتقديم مسرحياتهما، لأن كتاباتهما انفصلت عن تقاليد العصر. فكتابات (جوته)، مثلا، أبدت قلة اكتراث للوحدات الكلاسيكية الجديدة للزمن والمكان والحدث الدرامي، وتحدت التقاليد المسرحية بوضع الفعل العنيف واللغة على خشبة المسرح. فقد كانت مسرحياته مغامرة من الناحية البنيوية، ولا سيما في تعرجها، كما يقول (لامبورت Lamporte)، لقد بنيت مسرحية (فاوست) بطريقة القفزات وترك الجمهور لملء الفراغات.
وبالتالي، كانت ممارسة (جوته) و(شيللر) للمسرح على دراية كبيرة بتفكيرهما الدراماتورجي عن المسرح، وإمكانياته وتحدياته. فهما لم يكتبا المسرحيات ويخرجانها فقط، بل كانا يكتبان عن المسرح من كتاباتهما النظرية التي سعت إلى تطوير أسئلة جديدة ودراماتورجيا جديدة.
ويلخص (لوكهيرست Lukhurst) تأثير رائدي الدراماتورجيا القرن الثامن عشر:
 «من أواخر القرن الثامن عشر حتى الآن، أصبح المسرح الألماني والنمساوي والاسكندنافي أكثر من مجرد تسلية: إذ أصبح جزءا من مهمة التنوير لتثقيف المشاهدين، وجزءا من جدول الأعمال الوطني لتعزيز هوية الناس وقيمهم الجماعية في ألمانيا، ولا سيما أن المسرح أصبح يلعب دورا محوريا في الحياة الثقافية للبلاد وأصبح التقليل منه هو بداية لخط وخطأ وملمح يمكن أن نتتبعه وصولا إلى بريخت والكثير من المسرحيات في ألمانيا».
ورغم ذلك فإن هذه الأمثلة من تاريخ المسرح الألماني تقدم لنا اكتشافا مهما لفهم ما يمكن أن يرتبط بالتفكير الدراماتورجي والممارسة.

التحليل الدراماتورجي: الشكل والمضمون
يستلزم التحليل الدراماتورجي طريقة التعبير عن بناء العمل. ويرسم الدراماتورج (نورمان فريش (Norman Frisch خطوط التوازي بين الدراماتورجيا والإبداع، التي يصفها بأنها عملية إيجاد صيغة تقديم لموضوع البحث. ويشير (فريش) إلى العلاقة الحوارية بين ما يتم تقديمه وكيف يتم تقديمه. بمعنى آخر، تهتم الدراماتورجيا بالعلاقة بين مادة الموضوع وتأطيرها. وطبقا لـ(فريش)، الدراماتورجيا هي ربط الشكل والمضمون في العمل. أو على الأقل، تقريبهما من بعضهما البعض في نفس المجال المغناطيسي. وبالتالي، فإن السؤال هو: كيف وبأي عواقب يرتبط الشكل بالمضمون؟ والمزيد من الأسئلة الدراماتورجية التي يمكن أن تُطرح إذن هي: كيف تشكل البنية إدراك المشاهدين؟ وهل المضمون يمكن أن يوجد في أي بنية؟
يمكن تأمل هذا بشكل أفضل بالإشارة إلى أعمال بعينها والدراماتورجيا الخاصة بها. ودعونا ننظر إلى الأساس التركيبي للمسرحية جيدة الصنع كما توضحها مسرحية «كأس المياة Le Verre D›eau» (1842). فقد تم إعداد المسرحية بشكل منهجي من خلال نظام البنية (على النحو المبين في كتاب جوستاف فريتاج في كتابه «تقنية المسرحيات») بداية من التوضيح، من خلال الصراع وصولا إلى حل العقدة. فهي تعتمد بشكل أساسي على الحبكة وتتصاعد الفكاهة من تتابع السبب والنتيجة. ولا يوجد مجال كبير هنا لبحث الشخصية والاستفزاز في الأحلام الداخلية والأشواق.
بشكل أساسي، تهتم كل شخصية بالشهوة والثروة، حيث تسعى إلى تحقيق أهداف مادية ملموسة. ولا يوجد أي معنى بأن هناك صراعا داخليا بين مطالب الجمهور والمجالات الشخصية: إنها ببساطة مسألة جعلهم في توازي مريح. وعلى الرغم من أن الحبكة تتوقف على كشف الأسرار، فلن يهدد أي منها نسيج المجتمع، ومنطق أحداثها أو المفاهيم المشتركة للواقع، وكما يقول (جيلمان (gilman:
 «كانت المسرحية جيدة الصنع ذات رؤية كاملة تقريبا، بمعنى أنها لا تملك أي بعد يتجاوز ما تم وضعه أمام أعين وآذان الجمهور.. مفهوم الأنا ذاته – الذات – والروح حيث ما كان مفقودا في الأعمال الفرنسية هو الأفعال الطيبة».
..........................................................................................
- هذه الدراسة هي الفصل الأول من كتاب (الدراماتورجيا والأداءDramaturgy and Performance) الصادر عن دار نشر ماكميلان بالجراف Macmilan Palgrave 2007.
* كاثي تيرنر Cathy Turner أستاذ محاضر في الدراما في جامعة إكستر بالمملكة المتحدة.
* سين ك. بهرنت Synne K. Behrndt تعمل أستاذا لفنون الأداء بجامعة وينشستر بالمملكة المتحدة.


ترجمة أحمد عبد الفتاح