انقسام النص الأداء (2-2)

 انقسام النص الأداء (2-2)

العدد 615 صدر بتاريخ 10يونيو2019

واستمر هوسرل بتركيز أقل حول حضورية المعنى في الأشياء من تركيزه على تسامي الوعي الذي يعرفه، وتناول الوعي نفسه باعتباره الفكرة الأولية في البحث. وفي الوقت نفسه، في إنجلترا، كان راسل مشغولا بتطوير منهجه العلمي في كثير من هذه المشكلات نفسها، فقد كانت هناك قواسم مشتركة كثيرة بين المفكرين، فكلاهما ورث الفهم الهيجلي للعالم باعتباره كلية مطلقة، واتبع كلاهما فيرج في السماح للوجود المستقل للحقائق القبلية، وافترض كلاهما علاقة بين التصنيف القبلي للمعرفة ووجودنا في العالم المادي، وسعى كلاهما إلى تفادي مزالق النزعة السيكولوجية والتجريبية في تحديد منهج لفهم تلك العلاقة. وكما لاحظنا، حاول هوسرل أن يعالج هذه المشكلات بتطوير منهجه في الاختزال عن طريق الوعي الذي يوجه نفسه تجاه اكتشاف الحقائق القبلية في العالم التي من المفترض أن تكون مستقلة عن معرفتنا لها ومتسامية على الشروط المادية.
ورغم ذلك أخذ راسل على عاتقه وجهة مختلفة قليلا، فبينما زعم أيضا أن الحقائق القبلية مستقلة عن معرفتنا لها والشروط الخاصة بمثيلاتها، تحول إلى مبادئ الرياضيات البحتة لكي يترجم المعرفة التجريبية إلى شكل رمزي يمكن اختبار جدواه. وأحد أسباب الاختلاف بين منهجي هذين الفيلسوفين يجب أن يكون له علاقة باختلاف توجههما إلى التراث الهيجلي الذي ورثاه. حيث افترض هوسرل بالاتفاق مع هيجل أن كل شيء في العالم كان جزءا لا يتجزأ من الكل، وبالتالي طور منهجه في الاختزال كأداة إرشادية لتحليل شيء واحد بتجريد الكل، وقد أنكر راسل بشدة الكلية الهيجلية، ورفضها باعتبارها هراء تصوفيا، واعترض بوجه خاص على مبدأ العلاقات الداخلية، التي تفترض أن العلاقات بين الأشياء تلم بجوهر كل منها. ولذلك، مثلا، فإن تأصيل فكرة الجسر هي علاقته بالنهر وضفتيه والأقدام والمركبات من فوقه.. إلخ. وقد أوضح راسل أنه في مجال الرياضيات البحتة، يمكن أن يؤدي هذا إلى عدد لانهائي من العلاقات الملازمة داخل أي عدد، ولذلك دحض مبدأ العلاقات الداخلية، مؤكدا على وجود حقائق منفصلة أو ذرية يمكن تحليلها في ذاتها.
بعد طرح مبدأ العلاقات الخارجية بدلا من ذلك، رأى راسل أن هذه العلاقة لها واقعها الخاص المنفصل عن الأشياء المرتبطة بها. فمثلا، إذا كان الشجار على مقعد في الحديقة، فإن علاقة الشجار بالمقعد لها حقيقة وجودية مختلفة عن المقعد أو الشجار. فالشجار والمقعد هما خاصيتان موجودتان في الزمان والمكان الحقيقي، ومع ذلك فإن علاقة “الوجود” لا تتوقف على هذه الحقائق بعينها ولكنها موجودة في بعد شكلي في علاقة بعضها مع البعض. فالشكل هو أكثر ما أثار اهتمام راسل. وكما أوضح في كتابه «مقدمة إلى الفلسفة الرياضية Introduction to Mathematical Philosophy» (1919) «إننا لا نتعامل مع أشياء بعينها أو خصائص بعينها: إننا نتعامل شكليا مع ما يمكن أن يقال عن أي شيء وأي خاصية». ولما كانت المادة ذات خصوصية دائما، فإن الشكل قابل للتعميم في أي عملية تشكيل محددة له. وكذلك أيضا تكون الحقائق القبلية قابلة للتعميم من العالم المادي الذي نعرفها من خلاله (على سبيل المثال عدد التفاح في مجموعة الأحمر كافتراض لعدد التفاح في مجموع الوعاء). ولذلك، بفضل الشكل وتحليل العلاقات الشكلية بين الحقائق الذرية سعى راسل للوصول إلى الحقائق القبلية في ما يتعلق بالعالم.
وقد اتخذ تحليل راسل الشكلي اسمه من تمييز كانت بين المقولات التركيبية (الغنية بالمعلومات) والمقولات التحليلية (التي تستخدم لتكريس الحقائق)، وبتناول الأخيرة لموضوع دراسته، يركز راسل على العلاقات الشكلية بين المصطلحات داخل هذه المقولات لكي يختبر ملاءمتها، معتقدا أن الأشكال الملائمة قادرة على نقل الحقائق الموضوعية عن العالم. وتفترض هذه العملية تطابقا بين المقولات المقدمة عن العالم والعالم نفسه، بالإضافة إلى العلاقة الشفافة بين اللغة والأشياء التي تسميها. وباشتهارها باسم نظرية تطابق الحقيقة ونظرية المعنى الإشاري على التوالي، فقد شكلت هذه المنطلقات منهج راسل المبكر. ومع ذلك، وعلى الفور تقريبا، كان رسل يدرك بعض المشكلات التي تطرحها، ولا سيما في ما يتعلق باللغة وعلاقتها بالعالم، إذ اتبع فيرج في التمييز بين اللغة الشكلية واللغة العادية، إذ أشارت الأولى إلى المضمون المفاهيمي وحده، بينما أشارت الأخرى إلى الطرق التي يمكن أن تتشكل بلاغيا لكي يفهمها السامع. وفي الواقع، هو تمييز لا يختلف عن تمييز كوري بين الدلالة اللفظية واللغتين الصوتية والإيمائية، ومثلما استبعد إليوت كل الدلالة اللفظية من رؤيته المحضة، فعل راسل الشيء نفسه. وتبعا لذلك، قد يُرى راسل باعتبار أنه قد بنى منهجه على أسس أدائية مضادة أيضا.
وبتنقية اللغة من متغيرها البلاغي، سعى راسل إلى إنهاء أي احتمال لعدم الدقة عن طريق ترجمتها إلى نظام تدوينها الرمزي الأول. وكما يشرح في مقدمة كتابه الأول بالاشتراك مع ألفريد نورث وايتهيد “مبادئ الرياضيات Principia Mathematica” (1910): “أي استخدام للكلمات يمكن أن يحتاج حدودا غير طبيعية لمعناها العادي، وهو الأمر الذي يمكن أن يكون أصعب أن نتذكره في الواقع باستمرار من تعريف الرموز الجديدة تماما”. بمعنى آخر، إنه من الأنسب أن نستخدم الرمز أكثر من استخدام الكلمة، بفضل كونها كلمة، فإن لها أكثر من معنى محدد، أو كما يقول جاك دريدا، إنها عرضة إلى الاقتباس Citationality. فما يفعله راسل هنا ليس إلا الاعتراف بالمشكلات الكامنة في نظرية المعنى الإشاري التي يقوم عليها منهجه. ومع أنه لم يرغب في التخلي عنها تماما، فقد ابتكر حلا للمشكلات التي نشأت. وقد عرف الحل بأنه البناء المنطقي Logical Constructioism.
افترضت نظرية البناء المنطقي أن المقولات الإشكالية هي إشكالية لأنها تظل في شكل لغوي وتحتاج إلى التقسيم إلى وحداتها الأساسية. ولذلك مثلا، يمكن إعادة صياغة الأفكار في الجمل التي تتضمن كلمات معينة مثل “من of” أو “ال the” التي بدا أن لها مدلولا معينا ولكنها لا تتطابق مع أي حقيقة بطريقة أكثر أساسية. ولتأكيد فكرته، أشار راسل إلى جملة من الواضح أنه ليس لها مرجع حقيقي لإثبات أن المشكلة كانت منطقية وليست حقيقية. وكان مثاله الشهير هو “ملك فرنسا الحالي أصلع”، ولأنه لا يوجد حاليا ملك لفرنسا، فدع الملك الأصلع في فرنسا جانبا، وأن كلمة “ال the” بدون مدلول واضح. ومع ذلك، فإن الجملة ليست بدون شكل منطقي، إذ من الصعب أن نرى لأنها في الواقع جملة مركبة، تتكون من حقائق ذرية “هناك ملك حالي لفرنسا”، وهناك ملك واحد لفرنسا وأنه أصلع. لقد حل راسل مؤقتا المشكلة المتأصلة في نظرية المعنى الإشاري بأنه لم يضعها في داخل الشروط البنيوية للغة بل ضمن شروط عالم المنطق الذي لا تكون لغته واضحة بدقة. (ومثل شكسبير في نظر إليوت، لا يجيد عالم المنطق مهنته). فما كان مطلوبا هو لغة «مثالية»، لغة تعبر عن الأفكار في شكلها الأولي، وكانت أساس كل أساليب الشرح. واختبار اللغة المثالية يمكن أن يكون ما يسميه راسل “مبدأ المعرفة the principle of acquaintance”، قاعدة أن كل الأفكار يجب أن تشير إلى أشياء عايشناها في العالم. وبهذه الطريقة، هدم راسل بشكل مؤثر نظرية المعنى الإشاري وحولها إلى نظرية تطابق الحقيقة، مؤكدا أن الأفكار تطابق التجارب عندما أصبحت المعاني والكلمات يصعب ضبطها أيضا.
وتفترض نظرية المعنى الإشاري (الخلل الأساسي في منهج راسل)، أن اللغة توجد بمعزل عن انعكاس العالم بالإشارة إلى معناها. ولأن كل منهج راسل يرتكز مبدئيا على هذه النظرية، وهي تفترض أيضا تمييزا بين اللغة والعالم الذي تسميه. ولكن أوستن اكتشف، لغة بلا مدلول خارج ذاتها ولكنها تؤثر في الشيء الذي تسميه فعلا (ما أشار إليه أوستن بأنه “الأدائي Performative”) في كتابه “كيف تفعل أشياء بالكلمات How To Do Things with Words” (1962). وكما أشار تلميذ راسل وهو لودفيج فيتجنشتاين في كتابه “بحوث فلسفية” (1953) أن اللغة من العالم وفي العالم، لكونها مجموعة من الاصطلاحات التي نتواصل بها. وتضع هذه الملاحظة الذات الواعية في العالم، وتعيد تقديم النزعة النفسية التي حاول هوسرل أن يحلها بمنهجه في الاختزال. وحل راسل للمشكلة نفسها كان تخيل مجال الحقائق القبلية الموجودة بمعزل عن عالم الذات الواعية، ولكنها متاحة للذات من خلال التمثيل اللغوي. وقد كان جزء من الإلحاح هو موضوعيته العلمية المزعومة. فمن خلال تصور الذات الواعية باعتبار أنها موجودة بمعزل عن مجال اللغة التي يمكن أن تتمثل من خلالها الحقائق القبلية، فقد افترضت ابتعاد الباحث عن موضوع بحثه.
وبالمقارنة، وضع منهج هوسرل الذات الواعية تماما داخل العالم الذي كان موضوع بحوثها. ولم يكن أقل علمية بالاعتراف بتضمينات الذات داخل عالم البحث. وقد جاء إلحاحها العلمي من أداة الاختزال الإرشادية التي سمحت بنوع من التكتيكية الموضوعية. ومع ذلك كما يناقش دريدا في كتابه “الكلام والظاهرات speech and phenomena” (1967)، يستسلم هوسرل إلى ميتافيزيقا الحضور، متصورا نفسه قادرا على إتاحة الجوهر الذي يلازم موضوع بحثه. فخطأ هوسرل، بالنسبة لدريدا، هو في الاعتقاد بأن البديهة هي ذاتية الحضور وغير وسيطة، بالطبع عندما يكون تقديم تجربة في الفكر هو تمثيلها لوعي المرء باعتباره فكرة. فالتمثيل كما يوضح دريدا يتعلق بالضرورة بعملية اغتراب الذات – وهو شرط بنيوي يشير إليه دريدا بشكل أنيق بمصطلح “الفرز dehiscence”. وبسبب هذا الشرط البنيوي، لدينا وسيلة معرفية إلى مدلول الشيء فقط. ويحاول هوسرل الاقتراب من هذه المشكلة بالتمييز بين “التعبير Ausdruck” و”الإشارة Anzeichen”، وفهم أن الأولى تحمل معنى كامنا عرضة للبديهة، بينما يعمل الثاني من خلال نسق العلامات للتواصل مع المعنى. ولكن دريدا يفكك هذا التعارض البنيوي، موضحا أن مفهوم هوسرل في التعبير كنوع من المونولوج الداخلي أو الخطاب الانفرادي مع أنه يعتمد على نسق التمثيل.
وتعارض الداخل الخارج الذي يميز الفرق بين هذين التقليدين هو الشيء نفسه الذي يتضمن انقسام النص الأداء. فلمجرد أن هوسرل افترض ذاته الواعية داخل موضوع بحثها، اعتقد كوري أيضا أن المفسر الشفهي يستطيع أن يمارس الموضوع الأدبي من الداخل. وحيث إن منهج الاختزال عند هوسرل قد سمح للذات أن تضع عالم الملامح المتغيرة بين أقواس وأن يستنتج جوهر موضوع البحث، فإن منهج تأمل التفكير عند كوري قد استدعى الذات أن تفتح تصورها المتعاطف على قوى العالم الروحاني لكي يصل إلى فهم غير موسط لمعنى العمل. ونتيجة لذلك، في كل من منهجي هوسرل الظاهراتي ومنهج كوري الموجه إلى الأداء، تُفهم الذات الواعية بأن لها وسيلة مباشرة وغير موسطة للوصول إلى موضوع الدراسة عن طريق شغل مكان داخل مجال البحث. وفي كل من منهجي راسل التحليلي ومنهج إليوت المرتكز على النص، يفهم الذات الواعية بأنها خارج موضوع الدراسة، بافتراض منظور للموضوعية العلمية. ولمجرد أن راسل وضع ذاته الواعية خارج مجال الحقائق القبلية واللغة الرمزية التي يمكن أن تتمثل بها، وأصر إليوت أيضا على أن قارئه يقف خارج النص الأدبي الذي كانت مؤثراته العاطفية نتيجة إعداد وعي الشاعر. وفي حين أن راسل تخيل اللغة كوسيط شفاف، فقد تخيلها إليوت غامضة، ولكن كان لكليهما الهدف نفسه، فكلاهما ركزا على اللغة كوسيلة لتمثيل شيء حقيقي عن العالم، سواء كان معرفة قبلية أو معرفة شعرية. لذلك يمكننا أن نرى تناظرا بين انقسام النص الأداء والانقسام التحليلي القاري.
وقد كان لمنهجي هوسرل الظاهراتي ومنهج راسل التحليلي نقادهما. ولكن، فحين حدد دريدا وفيتجنشتاين الحدود في كلا المنهجين، فلا يجب أن نفترض أن هذين المنهجين بلا مميزات، ولا سيما على النحو الذي أدرج على دراسات المسرح والأداء اليوم. فنقاد مثل بيرت أو ستاتس وستانتون جارنر قد أوضحا فائدة المقاربات الظاهراتية في دراسة الأداء المسرحي، ولا سيما تلك المقاربات التي طورها المفكرون بعد الهوسرليين post Husserlian thinkers مثل موريس ميرلو بونتي. وكما يناقش جارنر بقوة، يميل الرفض التفكيكي للظاهراتية إلى إصلاح كل التقاليد بفتحها، ومعظم المفاهيم الأولية التي تحرمه من تطوراته وعلاقاته الداخلية – باختصار، تحرمه من شرطيته التاريخية. وبملاحظة المركزية النصية الملحة التي تتضمن كثيرا من النظرية ما بعد البنيوية المعاصرة، يعرف جارنر بشكل صحيح تحيزات نصية تلم بكثير من المناهج التي دخلت على دراسات المسرح. وقد يرى التفكيك المنسوب إلى دريدا نفسه باعتباره أحد هذه التناولات المتمركزة حول النص، تسليما بتأكيدها على الكتابة كوسيلة للاتصال العام (الذي لا يختلف عن الكلام). فهو يلح مثل منهج راسل التحليلي على فهم الشيء الممثل بالحضور إلى شكل تمثيله. وعلى الرغم من ذلك، فإن اكتشاف الاختلاف المنسوب إلى دريدا يتم تطبيقه بشكل مثمر على الدلالة المسرحية بواسطة كل من بيجي فيلان، وهربرت بلو، وفيليب أوسلاندر. بينما مفاهيم التكرار والاقتباس عند دريدا تعد بشكل استفزازي في علاقة مع الأداء بواسطة جوديث باتلر، ووليم واوزين.
وفي حين أن مناهج التفسير بعد البنيوية مثل احتفاظ التفكيك بالتركيز التحليلي على الشكل كوسيلة لفهم الشيء الممثل، فهي ليست بالضرورة عرضة إلى النوع نفسه من النقد الذي انتقد به فيتجنشتاين التقاليد التحليلية. حيث يختلفون في ما يتعلق بما يبنونه بين الباحث وموضوع البحث. وبعكس راسل، تتصور المناهج بعد البنيوية باحثيها داخل مجال البحث، حتى أثناء قيامهم بإعداد منظور تكتيكي داخلها. ولذلك يفترض دريدا أن كتاب هوسرل «بحوث منطقية» هو موضوع دراسته، بتحليل اعتماده على التعارض البنيوي بين الدلالة والتعبير من أجل اتساقها، رغم أنه يعترف بمكر بتضميناته داخل نسق التعارضات البنيوية نفسها (بمعنى اللغة) بتورياته البارعة. وبهذه الطريقة يقيم دريدا ما ينبغي أن يشير إليه الأنثروبولوجيون بأنه علاقة الملاحظ المشارك في موضوع دراسته.
بالنسبة لكل المراوغات التكتيكية لتعارض الداخل الخارج، فإن الملاحظين المشاركتين ليستا داخل موضوع دراستهما بالطريقة التي عمد إليها هوسرل وكوري، لأن ما سعى إليه هوسرل وكوري كان المعرفة البديهية التي تسامت بالشكل عن تمثيله – ما انتقصه دريدا باعتباره ميتافيزيقا الحضور. فشكوى دريدا هي أنه بسبب الشروط البنيوية للتمثيل، لن نعرف المدلول الا باعتباره ممثلا لوعينا من خلال الدلالة. والدلالة بالتعريف، تستتبع تلقائيا عملية الفرز أو الاغتراب الذاتي. بمعنى أن المدلول لن يكون حاضرا تماما لذاته. وما يفترضه هذا هو أن المعرفة تكون دائما عملية إبستيمولوجية، العملية التي تلح بمفردها على طاقة العقل الإدراكية. ولكن ماذا لو كانت هناك صور أخرى للمعرفة لا تلح على العقل؟ ماذا لو أن صور المعرفة الأخرى تلك تلح على طاقات أخرى مثل العاطفة أو التجربة الزمنية المكانية؟ وهذا بالتأثير هو ما اقترحه كوري بالضبط في وصف لغاته الثلاث. فبالتمييز بين صيغ الدلالة اللفظية والصوتية والإيمائية، أصر كوري على أن الثلاثة كلها كانت ضرورية لفعل معنى الاتصال: حيث تلح الدلالة اللفظية على العقل، والإلحاح الصوتي على العواطف، وتلح الإيماءة على معنى وجودنا في الزمن والمكان.
والمشكلة، كما يوضح دريدا، أنه بقدر ما تكون الصوتية والإيمائية لغتين، فإنهما عرضة للشروط البنيوية نفسها التي تلزم داخل أي نسق دلالة يقوم على الاختلاف. ولكن ماذا لو لم تكونا لغتين؟ وماذا لو لم تعتمدا على نسق الاختلاف لتكونا لهما معنى؟ وماذا لو كانت هذه المعاني متواصلة بطريقة أخرى؟ تأمل بكاء حزينا، صادرا من أعماق كينونة أم حزينة، وتأمل حدقتا عاشق يحدق في عيني حبيبته. فعلى الرغم من أننا نستطيع أن نتأمل أن كلا هذين المثالين هما عرضة للشروط البنيوية نفسها التي يصفها دريدا باعتبار أنهما يتعلقان بكل حالات الاتصال – فالبكاء يمكن أن يعني الحزن والألم، والنظرة يمكن أن تعني الحب والوله – فهما مع ذلك يؤثران فينا دون حاجة إلى نقلهما إلى مثل هذه الشروط. والمقترح هنا هو أن الصوت والإيماءة ليسا دائما عرضة لعملية فرز، فهما كما هما. أو بالأحرى أنهما عرضة وليس عرضة للفرز، اعتمادا على الطريقة التي نراهما بها. فلو أننا نسبنا مثلا معنى معينا للفتة أو إيماءة معينة (كما فعل ديلسارت)، عندئذ بالطبع، يكون الصوت والإيماءة عرضة للفرز. ولكن لو تأملناهما باعتبارها صوتا أو حركة نقية، فلن يكونا عرضة للفرز لأنهما لا يوظفان كعلامات عشوائية داخل نسق اختلاف. ولهذا السبب، فإن أي محاولة لمناظرة الصوت والإيماءة مع اللغة هي في النهاية محاولة محدودة. “فالمعنى”، بمعنى آخر هو ذاتي الحضور. ولكنني لا أقصد بكلمة معنى الدلالة المسجلة داخل النطاق المفاهيمي للمخ. بل أعني بالأحرى الدلالة المسجلة داخل أحشاء الجسم، باعتبارها معرفة عاطفية أو تجريبية. وحقيقة، إنني يجب أن أستخدم علامات التنصيص لكي أكون مفهومة – وأتحدث هنا بشكل مفاهيمي - فأنا مضطرة أن أكرر مجازات المعنى والدلالة والمعرفة لكي أقترب بشكل فعلي من أنواع المعرفة التي تعتمد عليها صيغ الاتصال هذه.
وفي دراسات المسرح، وصف ريتشارد فاجنر المعنى اللفظي الإضافي للصوت والإيماءة في كتابه “عمل فني للمستقبل The Artwork of the Future” (1849). وبإعادة اكتشافه بواسطة أنطونين آرتو في كتابه «المسرح وقرينه The Theater and its double» (1933 - 1936)، ومنذ ذلك الحين فقد دريدا بصيرته في دراسته “مسرح القسوة وانغلاق التمثيل The Theater of cruelty and the Closure of Representation” (1967). وبشكل متوقع، اتهم دريدا آرتو بميتافيزيقا الحضور، وانتقده لاعتقاده بأن مسرح القسوة، بكل اعتدائه الحسي على المتفرج، أكثر نقاء وأقل توسيطا من الكتابة. وبالطبع، وبقدر ما كانت الرسوم الهيروغليفية المتحركة التي اقترحها آرتو هي شكل من أشكال التمثيل، فقد كان دريدا على صواب. فالأشكال المسرحية ذات الدلالة ليست أقل عرضة للفرز من اللغة. ومع ذلك، بقدر ما كان ما اقترحه آرتو مواجهة مع الصوت والحركة النقيين – حتى لو وضعا داخل إطار مسرحي – فإن نقد دريدا يقف عاجزا عنه. لأن الصوت والإيماءة في المسرح هما دائما الفوريان والمميزان، فإن لهما دائما القدرة على الإلحاح المباشر على كل من السجلات المؤثرة والتجارب العاطفية مع أنهما يعملان كعلامات داخل نسق الدلالة المسرحية.
وفي استجابته إلى هوسرل وآرتو، يحتج دريدا بأن المعرفة ليست نقية وغير وسيطة كما ينبغي أن تكون. ولكن المقترح هنا أن نقد دريدا – رغم ملاءمته لشروطه – لا يصر بالضرورة على تعريف دقيق للمعرفة، التي تتوافق فقط مع المعنى المعرفي الكلاسيكي، ويمنع احتمال وجود طرق أخرى نعرف بها الأشياء في عالمنا. وبالنسبة لنا فإن السؤال الآن هو: لماذا يجب أن نستمر في الالتزام بهذا التعريف المحدود للمعرفة، وخصوصا لأنها تستخدم تاريخيا لملاءمة أنواع معينة من الاستفسار الأكاديمي على حساب الآخرين، مع الدراسات المسرحية في كثير من الأحيان للحصول على اعتراف؟ وحتى مع تنفيذ برامج دراسات الأداء فورا، ويجب أن نكون حذرين من الانضمام إلى التعريف المحدود للمعرفة في محاولة للحصول على الشرعية الأكاديمية، ولا سيما لأنه يبدو غير ملائم لتأمل الطرق المتعددة التي يكون بها للأداء معنى.
والمسرح أكثر من أي شكل فني آخر، له قوة لكي يلح على كل طرق المعرفة هذه في شكلها نفسه. فمن خلال مزج البصري والسمعي والشمي (وإن لم يكن الإيمائي) ومؤثرات اللمس، لن يكون المسرح مفهوما من المنظور الخارجي الذي يسطح إلحاحه الحسي داخل النص لكي يكون مقروءا. وبقدر ما نرى ونسمع ونشم أو نشعر بأنفسنا في علاقة مع الحدث الذي يدور على خشبة المسرح (وغالبا في الممرات من حولنا) نشارك في تجربة الفهم، وليس مجرد تسجيل معرفة شيء يكون في علاقة موضوعية مع ذاتنا. وعلى المنوال نفسه، لا يمكن أن نفهم التجربة تماما حتى يتم فهمها في علاقة موضوعية مع هدفنا. كما أن الإدراك المنطقي لا يكون ملائما بذاته، وكذلك المشاركة الحسية. فالمسرح له قدرة فريدة لنقلنا بين هذين المنظورين بوضعنا داخل خيال واسع وخارج إطار خشبة المسرح.
ولتصوير ذلك، أقتبس حكاياتي المسرحية المفضلة – تأملات العضو البارز في بوسطن آنا كابوت لويل كوينسي حول عرض فاني كيمبل عام 1833 لمسرحية هنري ميلمان «فازيو». فبالإشارة إلى مشهد السجن الذي تزور فيه «بيانكا» زوجها الذي اتهم بجريمة قتل لم يرتكبها ولكنه مع ذلك استفاد منها، واعترفت كوينسي بجريمتها بقولها:
 «اللحظة التي أعتقد أنني قدمت تأثيرا على الفرقة هي اللحظة التي أقتيد فيها إلى الإعدام في السجن بسبب التهمة. وقد توسلت إلى سجانها لتأجيل الإعدام بضعة لحظات بطريقة عاطفية، وعندما تدق الأجراس، وهو الصوت الذي أفقدها الوعي. فوقفت جامدة في المكان – وجحظت عيناها واصفر وجهها وشحب لونه. يعانقها فازيو ولكنها كانت فاقدة الحس. وقادها إلى خارج خشبة
 المسرح وتركها وحيدة. فوقفت، يجب أن أفكر، خمس ثوانٍ، تمثال مثالي، فالجمود الأشبة بالموت الذي سيطر على المشاهدين، فكل شخص يحبس أنفاسه، كان مؤثرا. فوقفت في صورة من اليأس حتى دق الجرس مرة أخرى”.
وكمرجع متغير في عبارة «أنها تكشف»، تتعجب كوينسي في الوقت نفسه من مهارة كيمب الفنية وتختبر بشكل غير مباشر عواطف موقف شخصيتها بداخله. فهي في داخل السرد الخيالي للمسرحية وخارجه، بملاحظتها لمهارة كيمب الفنية. وبتطبيق المصطلحات المنسوبة إلى هوسرل على تحليها، فإن الأمر يبدو وكأنها تركز على أداء كيمب بطريقة تتعلق بتجريد جوهره، وربما عزل شخصية بيانكا من الملامح المتغيرة مثل الملابس والشعر واللون واللهجة، ولكن في الوقت نفسه، تدرك كوينسي تماما حقيقة أداء كيمب، بتعليقها على الخصائص الشكلية لأسلوب كيمب. وبتطبيق مصطلحات راسل على تحليلها، ربما نقول كأنها ترسم العلاقات الشكلية بين العناصر الذرية للأداء لكي تصل إلى حقيقته الجوهرية. وربما استجابة للصراع الأساسي في المسرحية بين المسيحية والرأسمالية الممثل باعتباره توترا بين قيمة الحياة والموت، تلاحظ كوينسي الجمود الأشبه بالموت الذي وصل إلى الجمهور بينما أثر كيمب في صدمة بيانكا بإعطاء جسمها وضع التمثال الجامد. هنا تقف عناصر لغة الأداء التمثيلي في علاقة بعضها مع البعض كما تفعل الحقائق التي تمثلها. فصورة شخصية كيمب عديمة الحياة، والمؤثرة، استجابة للموت الوشيك لحبيبها، تم تلخيصها بواسطة المشاهدين، حتى إن استجابتها تمايزت بشكل ضمني عن صورة كيمب في لغة كوينسي. فكيمبل تتخذ وضع التمثال، وهو عمل فني، بينما يستطيع المشاهدون أن يتناولوا ما تمثله كيمب على خشبة المسرح، وهو تقريب محدد باستخدام كوينسي لكلمة «شبيه الموت». ولذلك نرى كيف تكشف كلمات كوينسي وعيا مزدوجا بالحدث المسرحي، فهي بداخله بشكل متخيل، وتشعر بما تشعر به الشخصية، بينما هي عمليا خارجه، وتقيّم براعة كيمبل باعتباره متذوقا للتمييز.
وترجع هذه الحكاية بلا شك إلى الفترة التي كانت فيها تقاليد الأداء تسمح للمشاهدين أن ينتقلوا بسهولة إلى الأمام وإلى الخلف بين داخل متخيل وخارج عملي. ولكن، بينما في لحظتنا فإن تقاليد الواقعية (التي ما زالت سائدة) ووسيط السينما قد شكلا عادات الاستهلاك، ولا تزال هذه الدينامية المتذبذبة مستمرة. وقد جربتها منذ عدة سنوات مضت أثناء حضوري لعرض جولي تيمور المذهل “الأسد الملك The Lion king”. فأثناء المشهد الذي كان يتجول فيه سيمبا وسط حشائش السفانا، عرضة لكل أنواع المخاطر غير المتوقعة، يظهر وحيد القرن على تل بعيد، وينزل بسرعة إلى الوادي، ويظهر اثنان آخران في طريقه يتبعهما آخران، وبمجرد أن يصعد وحيد القرن التل في الخلفية، نلاحظ أن هذا فرار جماعي. وفي داخل السرد الخيالي للمسرحية (مع أنها أقل من تقدم حكاية شعبية أفريقية) فإنها تجعلنا نشعر بالخوف من هذه الثورة وهي تضغط على سيمبا، بطلنا ونقطة تطابقنا. ورغم ذلك، لأن تيمور توضح الأداة الفنية وراء فن العرائس الخاص بها، وندرك في الوقت نفسه الصيغة التي تخلق الإيهام الذي نجده مخيفا. وفي هذه الحالة، فإن مجموعة الطبول التي تدق، متدرجة في الحجم لكي تعطي معنى المسافة النسبية، التي تم تركيبها على وحيد القرن المصنوع من الورق المعجن، والحجم التدريجي لخلق تأثير كامل بالثورة القادمة تجاه المشاهدين. جزء من تقييمي لهذا المشهد هو أن معنى الانتقال بين ما هو داخل السرد، الذي يشغله مكان سيمبا في الواحة، وما هو خارج خشبة المسرح، وأنا أجلس في مقعدي مبهورة ببراعة تيمور الفنية. ولكن مثل استجابة كوينسي إلى كيمبل، لم تكن استجابتي هي استجابة خلق «داخل» تكيتيكي نشاهد منه الأداء (كما يمكن أن يسمح نموذج الملاحظ المشارك). بل كان منظور «الداخل» هو الذي استند إلى علاقة تجريبية ومؤثرة على فهمي المنطقي للدرس الأخلاقي في المسرحية الذي يدور حول أهمية المجتمع المتكامل.
والمقترح هنا هو أننا لكي نفهم شيئا تماما فلا بد أن نعايش منظوري الداخل والخارج أثناء تشويه الفرق بينهما من خلال برهان الخلف reduction ad absurdum. فما أصفه بالطبع هو الديالكتيك المنسوب إلى هيجل. ولكن في حين أنني لا أقصد أن أقترح أننا نستطيع تحقيق معرفة مطلقة، لا أعني أن أصر على ضرورة الاحتفاظ بالمنظورين في ذهني، وأعترف بجدوى وحدود كل منهما. فكلانا داخل وخارج مجال البحث الذي هو عالمنا. ونحن في المسرح ودراسات الأداء يمكن أن نستفيد من تذكر هذه الحقيقة غالبا. وفضلا عن التعارك معا على تفوق مناهجنا، يجب أن نعيد تشكيل تلك المناهج عن طريق أن نتعلم التحرك إلى الأمام والخلف بين «داخل» المعرفة التجريبية، و«خارج» المعرفة التحليلية، لأن كليهما يقدمان بصيرة لعمى الآخر. والمثير للسخرية في كل هذا هو أن المسرح – موضوع بحثنا – هو شكل فني خالٍ من هذا النوع المتذبذب، ويقدم لنا لمحة من العالم كما يمكن تخيله من وجهة نظر موضوعية تحليلية وتجربة للعالم كما هي مسجلة داخل أحشاء جسمنا في شكل انغماس مؤثر وشديد في اللحظة والواقع. وأملي أنه من خلال فهم أصول انقسام النص الأداء وبفهمه في علاقة مع الانقسام القاري التحليلي، لا نستطيع أن نبرئ فقط انقسام المجال الذي يجرح سبب المسرح والأداء بتطوير منهج يمكنه أن يخاطب وجوه المسرح المتعددة – هدف معرفتنا وموضوع شغفنا.
 - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
•  جوليا ووكر تعمل أستاذا للأدب الإنجليزي والنقد بجامعة إلينوي – بالولايات المتحدة الأمريكية. ومن أبرز مؤلفاتها:
(التعبيرية والحداثة في المسرح الأمريكي: الأجسام والأصوات والكلمات)
(الحداثة والأداء).


ترجمة أحمد عبد الفتاح