نوادي المسرح28 .. معمل مصر

نوادي المسرح28 .. معمل مصر

العدد 612 صدر بتاريخ 20مايو2019

قدم مهرجان نوادي المسرح في دورته الثامنة والعشرين، عدة تجارب مسرحية هائلة، اشتركت بعض هذه التجارب رغم تنوعها في عدد من الزوايا التي تطل من خلالها على العالم وعلاقته بالإنسان وعلاقة الإنسان بذاته، وطرحت أسئلة الوجود وأسئلة الغاية، ورغم تنوع الأدوات التي غلب على بعضها التعبيرية أحيانا وأدوات الاستبطان السريالي في أحيانٍ أخرى، فإن أغلب الأزمات التي طرحتها دراما العروض التسعة التي نتناولها في هذا المقال قادت إلى مصير واحد.
«فاكهة الخريف»
تتراص الكراسي بعرض المسرح، ويواجه الممثلون الجمهور في افتتاحية قد تصل إلى ربع الساعة، نتعرف من خلالها على عالم مواز لعالمنا، يتقاطع معه ولا يتطابق، حيث لعبت السينوغرافيا دورا كبيرا، ربما أكبر من تأثير الممثلين.
تحمل الشرائط الخضراء في الخلفية عبارة كاشفة وشديدة التوجيه للمشاهد «بيت الحظ»، ويتألف العرض من مجموعة من الاسكتشات التي تتوالى في خط مشوش، وعبر عدة فضاءات شديدة التشويه سواء من حيث مفردات الزمكان، أو من حيث لغة السيكولوجيا وظلال الشخصيات، ولأحيان كثيرة نحن لا نعرف من الذي يتحدث، لكن العرض استند على أكثر من مدرسة مسرحية، فهل أفاد ذلك «المشاهد»؟
من ضمن سمات التعبيرية المميزة، غياب الشخصية، وصعود النمط العام الذي يحاكي أي شخص في العالم، وقد غلبت «الاسكتشات» على استعراض أنماط عامة كالطبيب والضابط والمعلم.. إلخ. ونجح العرض في تقديم تصور ساخر لصراع السلطة والمجتمع، وفشل في أن يوثق هذا الصراع مع الجمهور.
يُقدم العرض صراع الأشخاص الكائنين في بيت الحظ مع المهندس الذي يطلب منهم البحث عن التفاحة، وقد أفاد تصميم الملابس هنا في إضفاء طابع أمريكي عليه، بدء من قبعته وحتى حذائه الأشبه بمظهر الكاوبوي في الخمسينات، ما يتيح للعرض أبعادا سياسية، فهو في الغالب يبني رموزه من جانب واحد فقط، فنحن قد نستقبل أن المهندس رمز للرأسمالية أو السلطة الانتهازية القائمة على المصالح، بينما لا نعرف من هو الطرف الآخر ولا ماذا يصيغه.
لعل هذا النوع من الدراما يفتقد شيئا خطيرا، وهو المساحة الدقيقة الفاصلة بين الإلغاز والإبهام، وينزلق الشكل في أحيان من التجريب إلى التخريب، ولا تقدم الحكاية أطرا معرفية لكنها تتنافر مع كل نسق دلالي، لتصبح وحدها مجرد مسخ مشوه غير مكتمل النمو. وقد صاحب العرض الكثير من المشاهد التي فقدت دلالتها لدى الجمهور، فقل التفاعل مع الصالة وزاد الارتباك، وسقطت المعاني.
في دراما العبث تقدم نماذج شديدة الاتصال بالمتفرج، على عكس «فاكهة الخريف، تسمحيلي بالرقصة» الذي اعتمد نسقا عاما مغلقا على نفسه. ورغم ذلك لم يمنع ذلك وجود بعض الرمزيات التي تتقاطع إبستمولجيا مع وعي المشاهد، مثل الصراع على التفاحة وما تثيره عن الغرائز والخطيئة الأولى في «فاكهة الخريف»، وأول معرفة الإنسان بنفسه، ولعل تغيير اللوحات الذي يتم عبر شخص خارجي، جعلنا تحت ضغط قوة خارجية تعمل على تغيير النظام، ما يعمق لنا مدى الشعور بالاستلاب وعدم أهميتنا في التأثير على مجريات الأمور.
ولقد غلب على «فاكهة الخريف، تسمحيلي بالرقصة، الغرفة» هذه النغمة التي تتقاطع مع أدب الحداثة، والذي شغل كثيرا بالتعرض لانسحاقية الإنسان تحت تروس الأنظمة الشمولية، والقضايا الكبرى، والصراع الاجتماعي، الشعور بالتصاغر أمام العالم الكبير، رغم أن الشكل جاء فاقدا لتسلسله المنطقي، وعمد إلى تفتيت مركزية الحدث لتعمل هذه المشاهد المبعثرة على خلخلة القناعات، وتقويض الفرضيات العقلانية التي طرحتها الحداثة، واستحالة تحديد المعنى، والتلاعب بالتصورات، وأنماط تصوير الواقع، وبالرموز والمعاني، عبر أداة الكولاج، التي دمرت استقلالية العرض المسرحي.
هذا الارتباك بين الموضوع وطريقة تقديمه إلى مشاهد الألفية الثالثة جعل من العلاقة بين العرض والمشاهد مرتبكة، بين أن يعمل وعيه التفسيري للرموز التي امتلأت بها الصورة المسرحية، أم يستسلم أمام التراسل العشوائي للوحات لعله يجد نفسه أحد أبطالها.
«أليس في بلاد العجايب»
انطلق عرض اليس في طريق غريب وسلبي بعض الشيء، وهو ان اليس القادمة من الغرب إلى مصر أرض الحضارة، هي التي تحمل القيم النبيلة القادرة على البناء من جديد وإزالة قيم التشوه التي وصلنا إليها بسبب الخضوع تحت سلطة راس المال الخليجي الذي يشتري البشر، والتكنولوجيا التي تخدر شعورنا بالواقع المأساوي الذي تشبه الحياة فيه التعرض للكمات المتلاحقة كما ظهر على المسرح في مشهد دال للغاية.
كيف عملت الستائر المنقوشة برسومات الفراعنة على فصل حدود عالمي «أليس» مصر الحالية ومصر الفرعونية؟ الحقيقة أن ذلك لم يحدث فقد كانت «أليس وعارف» يتحركان خلال المدرسة والمستشفى في زمن واحد فقط، بلا أي رعاية للحدود «الزمكانية» بين العالمين، ما جعل الديكور كل مهمته أن يعرف المشاهد أننا في مصر، وهي وظيفة ساذجة لإمكانات ديكور غير محدودة لدرجة أنه كان بإمكانه أن يصبح شريكا في التمثيل على المسرح.
«صدى الصمت»
في زمن ما نهضت الحرب، مخلفة وراءها عددا من الأموات، والأحياء الذين يعانون آلام الفقد والوحدة، يجاهدون الخروج من عزلتهم ودعم قيم البقاء، عبر رجل وامرأة، وضعتهما ظروف الحرب خصمين لماض مخضب بالدماء وجثث القتلى، وجعلتهما أيضا جيرانا في الحاضر، ويتساءل كل منهما منذ الدقائق الأول للعرض العرض: هل يكفي أن احتاج إليك كي أبدد عدائي لك؟
يبدأ «الدراماتورج» العرض بعقد ميثاق مع الصالة أن هذا مشهد تمثيلي وينبغي علينا أن نتعاون لإخراجه في أفضل صورة، هكذا نجح في إدخال المشاهد إلى عالمه وحصد تفاعله بشكل ملحوظ. حيث كسر الإيهام وجعلنا أمام لعبة «مسرح داخل مسرح».
يستغل «الدراماتورج» هذا الميثاق، ويتدخل في الأحداث أحيانا بالإضافة أو الحذف، في مغامرة خطرة أن تهرب منه حدود العالمين الآني والآخر الذي تدور فيه الحكاية، ولقد نجح في ضبط عوالمه، حيث كان تدخله في الحدث بالتوقيف pause يأخذ بيد مشاهده كي لا يفقد الاتصال بالحكاية.
رغم عدم التجديد في المعنى المراد توصيله ولا حتى تطويره قرابة الساعة، فإن كفاءة الممثلين نجحت بشكل كبير في كسر تكرار سؤال الحاجة وأخلاقيات الإنسان، فقد تكرر أكثر من مرة السؤال كيف أتواصل مع الشخص الذي ينتمي للبلد التي قتلت ابني؟ ويقفز سؤال جديد.. إلى ماذا ننتمي؟
إلى عالمنا ااذي يفرض علينا الصراع بين أركانه إلى حسم انحيازنا لأحدها ومعاداة الآخر؟ أم إلى فطرتنا الأولى التي جاءت معنا لا تعرف سوى الفعل الإنساني مجرد من التقسيم العرقي والديني والسياسي؟
كل هذا وصل عن طريق الحوار المسرحي المبتور، والذي حمل عبء ثلثي العرض، بينما ظل جزء من الصورة المسرحية مبهما بلا ملامح، غير قادر على الاشتراك في التعبير، فقد توزعت عدة موتيفات بشكل غريب ومربك ومجاني، وأغربها الممثل الراقد على كرسي مدولب، ماذا يفعل طول العرض وما دوره في الحوار الدائر بين الرجل والمرأة؟
ويبدو أن هذا البناء المشهدي يُجاهد كي يُعبر عن شيء ما، ولكنه لا يعرف أو لم يستطع ذلك بالشكل المناسب، ولكن هذا التعامل مع نص قاسم مطرود يضع تجربة «صدى الصمت» خطوة حقيقية على طريق المسرح المعاصر.
«المغنية الصلعاء»
لماذا فقد السيد سميث والسيدة سميث الطريق إلى منزلهما؟ ان التعامل مع نص ليونيسكو شديد الخطورة ومحفوف بالمخاطر، فالعالم عند يونيسكو على قدر تقليديته الظاهرية إلا أنه متنافر مع داخله، ولعل مبدأ تقويض الوسيلة التواصلية للغة الذي اعتمده يونيسكو في أغلب مسرحياته جعل نصوصه تحمل بعدا كوميديا لا يمكن إغفاله، ولقد فند «مارتن أسلن» فنيات الكوميديا عند يونيسكو إلى نحو 16 تقنية، ونجح المُخرج محمد قاعود في التعامل مع هذه التقنيات الكوميدية ببراعة وبدقة متناهية.
قدم الديكور بيت السيد سميث بأدوات تجريدية للغاية، بواسطة إطارين كبيرين على يمين ويسار المسرح يقف داخلهما الممثلون كأنهم لوحات في منزل فارغ لم يبقى فيه سوى اللاشيء، ويعد الإطار الفخ أو المشكل في الأمر هو الذي في مركز المسرح حيث جاء كنافذة مستطيلة تجلس بها فتاة أغلب الوقت متخذة وضع اليوجا وخلفها أرجوحة معلقة، ولعل عدم قدرة الدراما أو اهتمامها بالإشارة إليها إذا كانت لوحة من اللوحات، أو جارة في البناية المقابلة، ما جعلها موتيفة مجانية، ومهدرة لطاقة تمثيلية وضعت على الخشبة مهملة تماما.
عمل العرض على تجريد يونيسكو من عالمه المأساوي، ومن طبقته الاجتماعية التي خلق تقنياته الكوميدية من أجل تعريتها ونقدها، فجاء العرض حاملا لدراما عارية من أساس فلسفي واجتماعي صلب، ولا يعرف أحد على الإطلاق من هؤلاء، ولماذا نحن نضحك عليهم؟
«مدينة التلج»
اللعب في مدينتها تستطيع أن تتحرك وتنهض وتقول لنا أنها موجودة، إن الحركة «ألمانيكانية» عبرت بوضوح عن أنهم مسلوبي الإرادة، ونمطيي الإدراك، ولكن.. لماذا؟
نجح المخرج في السيطرة على كتيبة من الممثلين، وأخرج منهم قدرات تمثيلية بارعة، حققت مبدأ المعايشة بنجاح واضح، ورغم عدم التأسيس للشخصيات بشكل عميق دراميا، فإن الممثلين عوضوا هذا العوار بتناغمهم الأدائي المتقن.
عندما يصطحب بابا نويل الطفلة إلى مدينة اللعب ليقدمها هدية، نسقط أمام صدمة كبيرة إننا امام قوتين يدركان حقيقة اللعب، بابا نويل وهو النبي المنتظر بالنسبة لهم ما يمثل يقينا غير ملموس، والجد الذي لا نعرف من هو لكنه يمثل لديهم يقينا ملموسا، وظهرت بعض الإشارات إلى تفوقه الصناعي عليهم وتعدد خبراته عن العالم الكبير، الذي لا يعرفون عنه شيئا، وعلى الرغم من الغمز واللمز لثنائية العلم والدين، وصراع الجبرية والخيارية، فإن العرض لا يحسم انحيازه كثيرا ويقتل الدراما في اللحظة التي تحتضر فيها الطفلة ليبدأ وعي الدمية «جيمي» في الاستيقاظ وتبدأ مشاعره في التأجج، وتتحرر حركته ويتمكن من إدراك تفاصيله، وهو المخرج الدرامي والفلسفي الذي قدمه العرض، كي نتحرر علينا أن ننهض على جثة فدائي، أو مسيح منتظر، حينها فقط نتحول من مجرد ألعاب، إلى بشر لديهم إرادة.
«ليلة في القبر»
يتعامل عرض “ليلة في القبر” مع مسألة الموت كحقيقة لا مفر منها عبر استعراض تاريخ حياة «ميدو/ محمد» في ثلاث مستويات على اليمين واليسار وفي الخلفية، ورغم الخلل الواضح في مفردات المنظر المسرحي، وارتباطه دلاليا بالدراما، وتعبيره عن حدود العوالم الثلاث القبر والماضي والحاضر، فإنه يحسب لفرقة أسيوط الجرأة في التعامل مع قضية وجودية كبرى طرحها العرض بشراسة واضحة وهي كيف نموت؟
وتحت سؤال كيف نموت، إشارات للعوالم الثلاث التي جاهد المخرج في تفتيت حياة ميدو بينها الإشارة إلى أن غياب الإرادة التي تصوغ خياراتنا وخضوعنا لأنماط اجتماعية، هو نوع من الإثم، وذنب في حق المزية التي تعرف الإنسان متباينا عن العالم، وبدلا من ذلك نجده يهرب، ويتوارى بعيدا عن اتخاذ قرار يخصه خوفا من الاختلاف والفشل وتحمل المسئولية.
إن مكونات المسرحية تنبع من الداخل، فالفكرة تتضمن الشكل اللائق بها، والعمل المسرحي في مجمله يتضمن وسائل التعبير التي تلائمه، وجميع الوسائل صالحة بشرط أن تنبع من ضرورات درامية، لا أن تحشر فيه حشرا، أو تقحم عليه إقحاما.
ولقد جاءت معظم المشكلات التنفيذية في عرض «ليلة في القبر» بسبب عدم توفيق المخرج في اختيار الشكل المناسب لفكرته وصياغته بالطريقة اللائقة ما جعل اللوحات التي تكون منها الديكور، مجرد لوحات فقط، وليست مجالا مسرحيا.
ولقد غلب على عروض «فاكهة الخريف وتسمحيلي بالرقصة والغرفة» اختيارهم لعرض أفكارهم عن طريق تشظي بنية الدراما، وتفتيت مركزية الحدث، وبعثرة علامات الدراما منهجيا أحيانا وغير منهجي في أحيان أخرى، ما يجعلنا أمام حالة عامة من التأزم وعدم القدرة على تحديد فكرة واضحة، ورسم حالة عظيمة للشتات، وعدم الرغبة في حكي حكاية مكتملة، فتتراسل المشاهد كلوحات مبتورة كما في «فاكهة الخريف، أو تسمحيلي بالرقصة، أو ليلة في القبر»، أو كحالات من البوح الانفعالي كما في «الغرفة»، هذا كله يصيغ عالما يرزح تحت ضغط مريع، نجحت بعض العروض في الإشارة إلى طبيعة هذا الضغط بوضوح، ولم تستطع بعضها سوى أن تزيد شتات المُشاهد وتغرقه في حالة من الارتباك وعدم الفهم.
من الشاهد إن هذه العروض التي أتت من أقاليم مختلفة، تحمل وراءها عقولا تفكر في هموم عصرها ومجتمعها بجدية لا يمكن إغفالها، ويمكن القول إنها تسعى إلى صياغة جمالية خاصة بها حتى وإن أصابها بعض العثرات، فلعل أغلب المخرجين لديهم براعة متفاوتة في التعامل مع الصورة المسرحية، لكنهم يهملون تشييد الأعمدة الأساسية التي تقوم عليها هذه الصورة، فلسفيا ودراميا.
وقد يرتبك البعض فيسقط في فخ التفسير والشرح والتسلط على المشاهد كأنه مريض يتم حقنه بعبارات حكمية كما غلب على عرض «أليس في بلاد العجايب».
ورغم التأكيد على محاولات جادة لابتكار حلول فنية للتعبير الدرامي مثلما حرص عليه بوضوح عرض «المغنية الصلعاء»، إلا أن كل العروض عبرت عن أزمة في التعامل مع واقعها، فعمدت أحيانا إلى استعارة واقع آخر غربي، كما في عرض «آدم لا يأكل التفاح»، أو استبداله بواقع فانتازي له قوانينه الخاصة، كما في عرض «مدينة الثلج». أو اللجوء إلى تشويه الواقع مثل عرض «ليلة في القبر»، وخصوصا عرض «الغرفة» حيث جعل العالم كله داخل غرفة تغلقها شبكة عنكبوت كبيرة، مع إغفال الإشارة بدقة إلى ما تمثله شبكة العنكبوت وهي رمز استعاري محايد ناهيك بأنه مستهلك، فأزمة الاستعارة في الديكور أنها إذا لم تجد ما يغذيها منطقيا خلال سياق الدراما، ستجعل الديكور دخيلا وزائدا عن الحاجة ولا قيمة له. فشبكة العنكبوت تحمل دلالة الاصطياد، وتحمل الإشارة إلى مكان منسي مهجور، وكلتا الإشارتين تضعان المشاهد في حيرة.. أي طريق يسلك؟
هل نحن فرائس تم خداعها واصطيادها ما ينفي عنا المسؤولية ويجعلنا نعلق مصيرنا على كاهل إرادة فوقنا أو سلطة أعلى، أم أننا أصحاب خيارات مشوشة أدت بنا إلى مسار مُضلِلٍ مُظلَمٍ، لا سبيل فيه سوى البكاء على انكساراتنا وخيباتنا؟


محمد علام