المسرح في ليالي رمضان قديما

المسرح في ليالي رمضان قديما

العدد 610 صدر بتاريخ 6مايو2019

تكثر الفنون الترفيهية في شهر رمضان المبارك، استغلالا لوجود المشاهدين، وضمانا للربح الوفير. وإذا أردنا أن نتحدث عن المسرح في ليالي رمضان في مصر قديما، سنجد عاما لافتا للنظر، وهو عام 1884، عندما جاء أبو خليل القباني من دمشق إلى الإسكندرية، ليبدأ مسيرته المسرحية في مصر، وكان أول عرض له مسرحية (أنس الجليس)، الذي عُرض في أول ليلة من ليالي رمضان!! ولأهمية هذا الحدث تاريخيا، سأذكر ما نشرته جريدة الأهرام يوم 23/ 6/ 1884، عندما قالت:
  «قدم إلى ثغرنا من القطر السوري، جوق من الممثلين للروايات العربية، يدير أعماله حضرة الفاضل الشيخ أبي خليل قباني الدمشقي، الكاتب المشهور والشاعر المفلق. وقد التزم للعمل قهوة الدانوب المعروفة بقهوة سليمان بك رحمي في جوار شادر البطيخ القديم. والجوق مؤلف من مهرة الفنانين في ضروب التمثيل وأساليبه، وبينهم زمرة من المنشدين المطربين، تروق لسماعهم الآذان، وتنشرح الصدور. فنحث أبناء الجنس العربي على أن يتقدموا في عضد المشروع بما تعودوا من الغيرة. والتمثيل سيبتدأ به هذه الليلة غرة رمضان المبارك عند الساعة الثانية بعد الغروب (الساعة 6 أفرنجية مساء). وستتوالى في كل ليلة حتى نهاية الشهر وأول رواية تشخص (أنس الجليس)، وهي بديعة مسرة وأوراق الدخول تباع في باب المحل بأثمانها المعينة وهي 5 فرنكات للدرجة الأولى و2 للدرجة الثانية وفرنك للدرجة الثالثة، وهي قيمة زهيدة في جنب الفوائد المكتسبة».
والجدير بالذكر أن عروض القباني المسرحية في هذا الشهر الفضيل، كانت تتناسب وقيمته الدينية، حيث إن أغلب العروض كانت تاريخية تراثية، مستوحاة من التاريخ العربي والإسلامي ومن تراث ألف ليلة وليلة. ناهيك بالفقرات الاستعراضية الفنية، التي كانت منتشرة في عروض الفرقة المسرحية، والمعروفة برقص (السماح)!! وهو رقص مسموح به دينيا، لأنه عبارة عن رقص صوفي ديني، ويعود الفضل إلى القباني في إدخاله إلى مصر. ومن العروض التي قدمها القباني وفرقته المسرحية طوال شهر رمضان عام 1301 هجرية (1884م): نفح الربى، وولادة بنت المستكفي، وعنترة بن شداد، وناكر الجميل، والخل الوفي، والأمير محمود وزهر الرياض، والشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح.
ترابط الأديان في رمضان
ومن الجدير بالذكر أيضا أن بعض الفنانين من المسيحيين واليهود، كانوا يعرضون مسرحياتهم وفقا للقيمة الدينية لهذا الشهر الفضيل في نفوس إخوانهم من المسلمين!! فمثلا نجد فرقة مراد رومانو تعرض مسرحية (الفرج بعد الضيق) على مسرح البوليتياما في منتصف رمضان لعام 1886. وموضوع هذه المسرحية من الموضوعات الاجتماعية الوعظية، التي تتناسب مع العروض الرمضانية الفنية، كما أخبرتنا بذلك جريدة القاهرة بتاريخ 19/ 6/ 1886.
وفي أوائل رمضان سنة 1305 هجرية (1888م) أحيت جمعية المساعي الخيرية ليلة مسرحية، قالت عنها جريدة الأهرام بتاريخ 19/ 5/ 1888: «ستحيي جمعية المساعي الخيرية ليلة الاثنين 28 شهر مايو الحاضر [الموافق 17 رمضان سنة 1305] بتشخيص رواية تاريخية أدبية فكاهية في تياترو حديقة الأزبكية يتخلل فصولها الخمسة، أنغام الموسيقى العسكرية. وستخصص دخل هذه الليلة لطبع كتاب (عقد الدرر في مصر وتاريخها المختصر). فإن لم يكن في معدات تلك الليلة من الأفراح الكاملة ما يُرغب الجمهور للحضور، ففي غايتها الجليلة ما لا يحتاج للترغيب، وإلا فالعمل الخيري يستدعي التفات الجميع».
وفي رمضان سنة 1308 هجرية (1891م)، أعلنت جريدة الوطن أن الفنان مرقص جرجس مدير الجوق الوطني الحر، استأجر مسرح لكسمبرج بشارع كلوت بك أمام قهوة اللوفر بالقاهرة لتمثيل مجموعة من المسرحيات الأدبية طوال شهر رمضان المعظم، ومن هذه المسرحيات: يوسف الصديق، هارون الرشيد، الخل الوفي.. وهي مسرحيات دينية تاريخية تتناسب مع الشهر الفضيل.
وفي شهر رمضان سنة 1309 هجرية (1892م) قام سليمان القرداحي بتكوين فرقة مسرحية، جاب بها أقاليم مصر إحياء للشهر الكريم، حيث عرض مجموعة من المسرحيات في المنصورة وطنطا، منها: مسرحية (الأمير حسن) بتياترو التفريح بالمنصورة، كما أخبرتنا بذلك جريدة السرور بتاريخ 28/ 4/ 1892، حيث خصص دخل العرض لبطل المسرحية الشيخ سلامة حجازي.
موسم رمضاني مهم
هو موسم عام 1893؛ حيث وافق الشهر الكريم أوج الموسم المسرحي فنيا - الواقع في شهري مارس وأبريل - ففي هذا الشهر عرضت فرقة إسكندر فرح مسرحيات: تليماك، وعائدة، وحمدان، وولادة بنت المستكفي، وهارون الرشيد والصياد، وهناء المحبين، ومحاسن الصدف، وروميو وجوليت، وأنس الجليس، وهذه العروض تمت على مسرح الفرقة بشارع عبد العزيز، وكان بطلها المطرب الشيخ سلامة حجازي. كما مثلت فرقة سليمان الحداد على الأوبرا الخديوية، مسرحيات: صلاح الدين الأيوبي وريكاردوس قلب الأسد، وحمدان، وشهداء الغرام، وعائدة.
وإذا أردنا تتبع العروض المسرحية في شهر رمضان في السنوات المتبقية من القرن التاسع عشر؛ سنجدها لا تختلف كثيرا عن عروض رمضان سنة 1893؛ ولكني سأتوقف عند ظاهرة تكررت كثيرا – في هذه السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر - تمثلت في كثرة العروض المسرحية الخيرية لجمع المال من أجل فعل الخير في هذا الشهر الكريم؛ ولكن اللافت للنظر أن الجمعيات الخيرية التي قامت بهذا الأمر أغلبها جمعيات مسيحية أو يهودية، وكان المال المجموع ينفق على الأغراض الخيرية.
فعلى سبيل أعلنت جريدة الأخبار بتاريخ 13/ 2/ 1897 - الموافق العاشر من رمضان سنة 1314 هجرية – أن جمعية التمثيل الأدبي قررت عرض مسرحية (صلاح الدين الأيوبي مع ريكاردوس قلب الأسد) في شهر رمضان بالإسكندرية، وتخصيص دخلها المادي لصالح الجمعية الخيرية الأرمنية. وبالأسلوب نفسه وجدنا إسكندر فرح يمثل مسرحية (مطامع النساء) يوم الرابع والعشرين من رمضان، وخصص دخلها لجمعية المساعي الخيرية، كما أخبرتنا بذلك جريدة المقطم بتاريخ 27/ 2/ 1897. وفي السابع والعشرين من رمضان سنة 1315 هجرية، قام إسكندر فرح أيضا بتمثيل مسرحية (السيد) بالتياترو العباسي بالإسكندرية، وخصص «دخلها لجمعية التوفيق القبطية بالإسكندرية للإنفاق على الفقراء والمحتاجين من أبناء الطائفة» هكذا جاء في جريدة مصر بتاريخ 15/ 2/ 1898، وفي اليوم نفسه نشرت جريدة البصير هذا الإعلان: «تبرعت جمعية نزهة العائلات بتمثيل رواية (يهوديت) الشهيرة في مرسح الحمراء في الساعة التاسعة مساء يوم 19 الحالي [الموافق 28 رمضان سنة 1315] وتخصيص دخلها لجمعية الإخاء الإسرائيلية الخيرية بالإسكندرية، وقد أعدت الجمعية المشار إليها جميع المعدات اللازمة لإتقان هذه الليلة الخيرية».
في القرن العشرين
إذا انتقلنا إلى القرن العشرين، سنجد الفرق المسرحية انتشرت وتوسعت وتعددت، مما يعني الاهتمام بالعروض المسرحية في ليالي رمضان، بصورة أكبر مما كانت عليه في القرن المنصرم. وإذا بدأنا الحديث عن الفرق المسرحية، سنجد جوق أبيض وحجازي – أي الفرقة المكونة من أعضاء فرقتي جورج أبيض وسلامة حجازي – بوصفها من أوائل الفرق المسرحية التي أعلنت عن عروضها المسرحية ابتهاجا بانتهاء شهر رمضان عام 1915!! عندما عرضت في كازينو الكورسال مسرحيتها «روميو وجوليت» بطولة الشيخ سلامة، وذلك في آخر ليلة من ليالي رمضان!! هكذا أعلنت الفرقة في جريدة الأخبار في أغسطس 1915. وهذا العرض، لا يُعدّ من العروض الرمضانية الصريحة – كما سنرى - لأنه تم ليلة العيد!!
النوادي والجمعيات
وبناء على ما بين أيدينا من معلومات، نستطيع أن نقول: إن العروض المسرحية الرمضانية، بدأت بصورة خيرية، يتناسب غرضها مع الشهر الكريم في أوائل القرن العشرين، لذلك بدأت هذه العروض من خلال الجمعيات والنوادي الفنية والأدبية والخيرية. وأول إعلان وجدناه كان في يوليو 1913، قالت فيه جريدة المؤيد: «جاءنا من جمعية (حياة التمثيل)، الكائن مركزها بأول شارع الحلمية الجديدة بالقاهرة، أنها تنوى مساعدة عائلة حضرة اليوزباشي محمد أفندي زكي مصطفى، المسجون في مراكش. وذلك بإحياء ليلة تمثيلية خيرية بتياترو برنتانيا، يمثل فيها أعضاء الجمعية رواية من أهم الروايات الأدبية في خلال أيام شهر رمضان المبارك. وأنها ترجو من أهل الخير ومحبي المروءة والإحسان، مساعدتها في هذا العمل الخيري الجليل، ونرجو من الأدباء وذوي المروءة مساعدتهم وتعضيدهم».
وفي عام 1917 أقام نادي موظفى الحكومة بالإسكندرية، ليلة سمر خاصة بمناسبة شهر رمضان، أُلقيت فيها منولوجات أدبية وفكاهية وأخلاقية، مثلتها لجنة النادي التمثيلية؛ وكان الحضور مقصورا على أعضاء النادي فقط، كما قالت جريدة البصير في شهر يونيو. أما نادي التمثيل العصري، فقد أقام حفلة مسرحية كبرى يوم 14 رمضان، عرض فيها مسرحية (جه يكحلها عماها) من أجل جمع المال للتبرع به للتعليم المجاني في مصر!! هكذا قالت جريدة الأفكار في يونية 1918، كما نشرت الجريدة تفاصيل أخرى، قالت فيها:
«... ويتخلل الرواية أنواع كثيرة من الرقص الأفرنكي، وألعاب مدهشة. ويقوم بأهم أدوار التمثيل على الموسيقى الوترية، حضرات الأفندية النابغين: رحمي، وعسكر، وبيومي، والبندرلي، وغيرهم من الغواة، الذين غرز عملهم، وسمت نفوسهم. يطرب الجمهور بعد انتهاء الرواية لأول مرة حضرة الموسيقى المبدع والمطرب المشجى الوجيه الأمثل عبد الرحمن بك رشيد. وللسيدات محال خاصة. وثمن التذاكر زهيد بالنسبة لجلال الحفلة. 15 قرشا كرسي مخصوص، 10 قروش كرسي فوتيل، 5 قروش كرسي ستال، 3 قروش أعلى التياترو».
وفي أيام رمضان - أبريل 1925 – أقامت جمعية المواساة الإسلامية، حفلة ساهرة بدار الأوبرا الملكية يوم 29 رمضان، مثل فيها جوق عكاشه مسرحية «الحاج محمد علي باشا»!! كما ألقى الشاعر محمد الهواري قصيدة بليغة، وتخلل فصول المسرحية قطع للموسيقى الوترية من الموسيقار عبد الحميد علي، هكذا قالت جريدة مصر. ومن اللافت للنظر أن الجمعية أضافت من عندها كلمة (الحاج) على اسم المسرحية؛ استدرارا لعاطفة الجمهور الدينية في هذا الشهر الفضيل؛ لأن هذه المسرحية تم عرضها عشرات المرات، تحت اسم «محمد علي باشا» فقط!!
على مسرح الكونكورديا
أنشطة النوادي والجمعيات، شجعت الفرق المسرحية لاستغلال رمضان خدمة لعروضها المسرحية، لا سيما وأن رمضان أصبح في شهور الصيف، مما يجعل الإقبال الجماهيري مضمونا. لذلك وجدنا فرقة عزيز عيد – كما قالت جريدة البصير في يونية عام 1918 - تبدأ عروضها مع أول يوم رمضان في مسرح الكونكورديا التابع لكافيه ريش بالإسكندرية. وأول عرض قدمته، كان مسرحية (خلي بالك من إميلي)، بطوله: روز اليوسف، ومحمد عبد القدوس، ومن تمثيل: محمود رضا، حسين رياض، محمد صادق، أحمد ثابت، محمد إبراهيم، نجيب فهمي، حسين المليجي، السيدة سعاد، فيكتوريا ليفي.
وفي العام التالي 1919، وجدنا فرقة أخرى على المسرح نفسه، تعرض مسرحياتها في ليالي رمضان، مما يعني نجاح التجربة!! لدرجة أن جريدة الإكسبريس في الإسكندرية، نشرت كلمة تحت عنوان (حديث المراسح) في يونية، قالت فيها: «كثرت مراسح التمثيل والغناء في الإسكندرية في هذه الأيام، بمناسبة شهر رمضان. ومنهم مسرح الكونكورديا الجديد التابع لقهوة ريش. ويمثل به الآن جوق الأوبريت كوميك، بإدارة الممثل الهزلي المعروف أمين عطا الله رواية هزلية اسمها (صباح الخير)، على نغمات الموسيقى الوترية. وموضوع الرواية إظهار حالة أبناء الأعيان بعد انتقال ثروة آبائهم إليهم، وكيف يبددون هذه الثروة في الملاهي والملذات. ويتخلل ذلك رقص على الضربة الأفرنكية، ومغاني عربية من الفتاة فتحية الصغيرة [فتحية أحمد]، ذات الصوت الشجي اللطيف، ومغاني أفرنكية من جوقة بنات أفرنكية، يشتغلن مع الجوق. وقد لقى هذا الجوق إقبالا عظيما من الجمهور في الليالي الماضية؛ لأن أهل الإسكندرية في حاجة إلى أندية يريضون بها عقولهم، ويشرحون فيها صدورهم من متاعب الحياة».
 

 


سيد علي إسماعيل