وداعا إسماعيل محمود

وداعا إسماعيل محمود

العدد 607 صدر بتاريخ 15أبريل2019

الفنان القدير إسماعيل محمود الذي رحل عن عالمنا مساء يوم الأحد الموافق السابع من أبريل (2019)، ممثل مصري متميز من مواليد عام 1950 بمحافظة «الإسكندرية» لعائلة تنتمي جذورها إلى قرية «العتامنة» مركز طما محافظة «سوهاج»، فوالده هو الشيخ محمد محمود العتموني الذي رحل من سوهاج واستقر في الإسكندرية.
بدأت هوايته للتمثيل مبكرا أثناء طفولته وبالتحديد أثناء مرحلة الدراسة الابتدائية عندما اشترك ببرنامج للأطفال. وبعد حصوله على شهادة الثانوية العامة التحق في بداية دراسته الجامعية بكلية الحقوق (جامعة الإسكندرية)، وذلك استجابة لرغبة والده والأسرة، وهربا من الالتحاق بكلية الشرطة كأغلب أشقائه، ولكنه لم يستطع الاستمرار بها فدرس لمدة عام واحد فقط بكلية الحقوق، وذلك قبل أن يقرر تركها لحرصه على صقل موهبته في التمثيل بالدراسة، فالتحق بالمعهد «العالي للفنون المسرحية»، الذي تخرج فيه بالحصول على درجة بكالوريوس الفنون المسرحية (قسم التمثيل والإخراج) عام 1975، وتعد دفعته من الدفعات المتميزة حيث ضمت عددا من الموهوبين الذين نجحوا في تحقيق النجومية والشهرة بعد ذلك (ومن بينهم الفنانون: فاروق الفيشاوي، فاطمة مظهر، إبراهيم يسري، عماد رشاد، سامي العدل، وجدي العربي، محمود مسعود، محسن حلمي، نادية شكري، راوية سعيد، حمدي حافظ، يوسف رجائي، عبد الله إسماعيل).
انضم بمجرد تخرجه إلى أسرة «مسرح الطليعة»، وهي الفرقة التي ظل يعتز بالانتماء إليها طوال فترة حياته الوظيفية. كانت بدايته الفنية بالفرقة مع مجموعة من زملاء دفعته (فاروق الفيشاوي، إبراهيم يسري، محمود مسعود، محسن حلمي، يوسف رجائي)، وذلك قبل أن يحقق كل منهم نجاحه وانتشاره في بداية الثمانينات.
وقد حقق الفنان إسماعيل محمود نجاحه وانتشاره وشهرته من خلال مشاركته بعدد من المسلسلات والسهرات التلفزيونية، مما دفعه لتركيز جهوده بها على حساب أعماله ببقية القنوات الفنية الأخرى وخصوصا المسرح عشقه الأول. وقد لعب في البداية عدة أدوار صغيرة ببعض الأفلام والمسلسلات ولكنها كانت مؤثرة دراميا فنجحت في لفت الأنظار إليه ومن بينها دوره في كل من: فيلم «حد السيف» (عام 1986)، ومسلسل «غوايش» (عام 1987)، ثم بعد ذلك توالت أعماله التي حققت له النجاح.
والحقيقة، إنه رغم إجادته تجسيد مختلف الشخصيات الدرامية التي أسندت إليه فإن دور” زاهر” أكبر أبناء العمدة سليمان غانم (ووصيفة) بمسلسل «ليالي الحلمية» - الذي بدأ ظهوره بالجزء الثاني عام 1988 - يعد من أهم الشخصيات الدرامية التي قام بتجسيدها، خاصة بعدما حققت له تلك الشخصية الشهرة الجماهيرية الواسعة، وقد يفسر ذلك اقتناعه وحماسه لتقديم الجزء السادس (عام 2016) بعد عدة سنوات، وبعد رحيل كل من المبدعين: المؤلف أسامة أنور عكاشة والمخرج إسماعيل عبد الحافظ والفنان ممدوح عبد العليم، واعتذار كل من يحيى الفخراني وصلاح السعدني عن المشاركة، حيث استمر الفنان إسماعيل محمود في تجسيد شخصية «زاهر» مع بقية الشخصيات التي استمر ظهورها بالجزء السادس (والتي جسدها مجموعة من كبار الممثلين وفي مقدمتهم: صفية العمري، إنعام سالوسة، هشام سليم، إلهام شاهين، شريف منير، محمد متولي، محمد فريد، عهدي صادق، وآخرون).
هذا ويمكن تقسيم مساهماته الفنية الثرية طبقا لاختلاف القنوات الفنية كما يلي:
أولا: مشاركاته السينمائية
لم تستطع السينما للأسف الاستفادة من موهبة وخبرات هذا الفنان القدير، خاصة مع رفضه القاطع بتقديم أي تنازلات فنية، فقد أصر منذ بدايته السينمائية في سبعينات القرن الماضي على رفض المشاركة بأدوار هامشية لا تتناسب مع حجم الأدوار التي يشارك بها في المسرح أو الدراما التلفزيونية، خاصة وأنه يؤمن تماما بأن السينما هي التي تظل الذاكرة الحقيقية لكل فنان، ولذا لم يتجاوز رصيده السينمائي طوال مسيرته الفنية عدد عشرة أفلام، وتضم قائمة مشاركاته السينمائية الأفلام التالية: القطط السمان (1978)، التخشيبة (1984)، مشوار عمر، حد السيف (1986)، مطاردة في الممنوع (1993)، عصافير النيل (2000). ويذكر أنه قد تعامل من خلال هذه الأفلام مع نخبة من المخرجين المبدعين ومن بينهم: عاطف سالم، محمد خان، حسن يوسف، عاطف الطيب، مدحت بكير، مجدي أحمد علي.
ثانيا: أعماله التلفزيونية
تعد الدراما التلفزيونية هي المجال الرحب الذي سمح للفنان إسماعيل محمود بكشف موهبته وتحقيق شهرته الجماهيرية، فمن خلالها شارك بأداء بعض الشخصيات الدرامية الثرية فيما يزيد على ثمانين مسلسلا، كما أن من حسن حظه أن بعض تلك المسلسلات قد حققت نجاحا جماهيريا كبيرا وأعيد إذاعتها أكثر من مرة.
ويحسب له مشاركته في الكثير من الأعمال الدرامية البارزة وتقديمه لعدد من الشخصيات الدرامية المهمة التي دائما ما يتذكرها الجمهور، خاصة من خلال مشاركاته مع كل من المخرج القدير إسماعيل عبد الحافظ والمخرج المتميز جمال عبد الحميد. ويعد دوره بمسلسل «ليالي الحلمية» من أهم الأدوار التي قدمها حيث جسد في العمل بأجزائه الخمسة شخصية «زاهر» نجل «سليمان غانم» (الفنان صلاح السعدني)، وكذلك مشاركته في مسلسل «شارع المواردي» (مع المخرج إسماعيل عبد الحافظ أيضا) عام 1990، الذي جسد خلاله شخصية المعلم «خميس»، كما قدم دورا مهما في مسلسل «أرابيسك» مع المخرج جمال عبد الحميد والنجم صلاح السعدني، حيث جسد شخصية «الضابط حمدي» خلال أحداث العمل الذي عرض عام 1994، وذلك إضافة إلى مشاركته في بطولة مسلسل «زيزينيا» بجزئيه الأول والثاني مع المخرج جمال عبد الحميد أيضا والنجم يحيى الفخراني عام 1997 وذلك بتجسيده لشخصية «عسران». وكذلك عمل إسماعيل محمود في مسلسل «أم كلثوم» مع المخرجة القديرة أنعام محمد علي والنجمة صابرين عام 1999 وجسد شخصية «محمود الشريف»، وفي مسلسل «العصيان» من إخراج أحمد السبعاوي وبطولة النجم محمود ياسين قدم أحد أدوار البطولة في العمل من خلال تجسيده لشخصية «عاصم الغرباوي» (نجل محمود ياسين)، الابن الذي تسوقه زوجته لكي يرفع قضية حجر على والده الذي ظل دائما يحسن إليه، لكن رؤيته لوالده منكسرا أمامه أعادته إلى رشده، وتتصاعد الأحداث بقتله، ويتم البحث عن القاتل طوال الأحداث الدرامية للعمل. وخلال الأعوام الأخيرة تألق الفنان إسماعيل محمود من خلال مشاركته بمسلسل «الجماعة 2» مع الكاتب وحيد حامد وإخراج شريف البنداري وتجسيده لشخصية «محمد نجيب» أول رئيس جمهورية لمصر، وكذلك من خلال عمله مع الزعيم عادل إمام في مسلسلين هما «صاحب السعادة» عام 2014، و«أستاذ ورئيس قسم» عام 2015.
ويجب التنويه إلى أن قائمة المشاركات المتميزة للفنان إسماعيل محمود تتضمن بعض المسلسلات التي تضمنت أكثر من جزء ومن أشهرها: «ليالي الحلمية» و«زيزينيا» و«العصيان». هذا وتضم قائمة الأعمال التلفزيونية التي شارك بها المسلسلات التالية: أيوب البحر، شارع المواردي، هنادي، ليالي الحلمية (ج 4، 3، 2، 5، 6)، غوايش، وما زال النيل يجري، الثعلب، أيام المنيرة، لا، سر الأرض، الشارع الجديد، قصة مدينة، أرابيسك، الأبطال، اللص والكلاب، زيزينيا (ج2، 1)، العصيان (ج2، 1)، حدث في الهرم، كناريا وشركاه، فريسكا، القرار الأخير، حاسبوا منه، حقي برقبتي، كاريوكا، بنات × بنات، صاحب السعادة، ميراث الريح، بالأمر المباشر، القاهرة 2000، قناديل البحر، أحزان مريم، أيام الرعب والحب، سفير النيات الحسنة، المصراوية، بشرى سارة، أوراق مصرية، أستاذ ورئيس قسم، الجماعة، الشهاب، أم كلثوم، أمشير، السيرة العربية، الوعد الحق، بلاط الشهداء، على هامش السيرة، الكعبة المشرفة، محمد رسول الله، محمد رسول الله إلى العالم. وذلك بخلاف عدد من السهرات والتمثيليات التلفزيونية ومن بينها: إن فاتك الميري، أخت الرجال.
ثالثا: مشاركاته الإذاعة
يحسب لميكرفون الإذاعة قدرته على الاستفادة من موهبة هذا الفنان القدير وتوظيف خبراته الفنية، خاصة مع تميزه في الأداء باللغة العربية الفصحي أيضا، فأتاح له فرصة المشاركة في بطولة وأداء عدد كبير من الأدوار الرئيسية وعشرات الشخصيات الدرامية الثرية من خلال المسلسلات والتمثيليات والسهرات الإذاعية ومن بينها: فرسان الحب والحرب، الأشرفية، ابن السلطان، القاهرة كامل العدد، كفر نعمة، العصافير، أوراق رسمية، الإمام محمد عبده، وذلك بخلاف مشاركاته ببعض المسرحيات العالمية المترجمة التي إعدت للإذاعة بالبرنامج الثقافي (البرنامج الثاني).
رابعا: أعماله المسرحية
شارك الفنان إسماعيل محمود خلال مسيرته الفنية في بطولة ما يقرب من عشرة مسرحيات فقط، وذلك على الرغم من بداياته المسرحية والتي لفتت الأنظار إلى موهبته المؤكدة، حيث اضطر منذ منتصف الثمانينات القرن الماضي إلى توجيه اهتمامه إلى الدراما التلفزيونية بعدما وجد أن فرصه المسرحية قد أصبحت محدودة جدا مقارنة بما يعرض عليه من أدوار متميزة بالمسلسلات، هذا ويمكن تصنيف مشاركاته المسرحية طبقا لاختلاف طبيعة الفرق كما يلي:
1 - فرقة «مسرح الطليعة»: أبوزيد الهلالي، هنري الرابع (1978)، الجدران، ليلة القتلة (1979)، الكلمة والموت (1984)، كيف تتسلق دون أن تتزحلق (1985).
2 - فرق مسارح الدولة الأخرى: حدث في وادي الجن (وزارة الثقافة - 1982)، مغامرة المملوك جابر (القومي - 2000)، زهرة الصحاري (الغد - 2001).
3 - بفرق القطاع الخاص: سهرة مع الضحك (لفرقة استوديو الممثل - 1982).
وقد تعاون من خلال المسرحيات السابقة مع نخبة من المخرجين المتميزين من بينهم: سمير العصفوري، رأفت الدويري، ماهر عبد الحميد، محسن حلمي، مراد منير، ناصر عبد المنعم، نور الشريف، أحمد عبد العزيز، ليلى سعد.
ويتضح من قائمة مشاركاته المسرحية السابقة أنه لم يشارك سوى في مسرحية واحدة من مسرحيات فرق القطاع الخاص، وهي في الحقيقية تجربة متفردة لا تنطبق عليها سمات المسرح التجاري، بل هي أقرب إلى العروض التجريبية الجادة، حيث تحمل مغامرة إنتاجها كل من الفنان القدير نور الشريف والمؤلف علي سالم، وهي تتكون من ثلاث مسرحيات (الكاتب والشحات، الكاتب في شهر العسل، المتفائل) وشارك في بطولتها بخلاف النجم نور الشريف كل من الفنانين: أحمد بدير (بالمسرحية الأولى)، إسماعيل محمود (بالمسرحية الثانية)، وسوسن بدر ومن بعدها مها عطية سلامة (بالمسرحية الثالثة).
هذا ويمكننا من خلال رصد ودراسة قائمة الأعمال التي شارك في بطولتها أن نقرر أنها جميعا أعمال تتسم بالجودة والرصانة، وأن أدواره بها متنوعة ولا تتشابه بل على النقيض فإن كل منها يعد دورا جديدا وبالتالي يضعه في تحد جديد، وأن جميعها تؤكد تميزه في الأداء - سواء كانت باللغة العربية الفصحى أو العامية - كما تؤكد مهارته في تجسيد الشخصيات المركبة، تلك الأدوار التي تتطلب منه دراسة الأبعاد الدرامية لكل شخصية بدقة وخصوصا البعد النفسي ومدى تأثيره على كل من البعدين المادي والاجتماعي بعد ذلك.
ومما سبق يتضح أيضا أن هذا الفنان الأصيل الذي حافظ على معيار الالتزام والجودة بجميع أعماله الفنية بلا استثناء يظل نموذجا جيدا ورائعا لعدد كبير من الفنانين الأكاديمين الذين نجحوا في صقل موهبتهم بالدراسات الأكاديمية وحرصوا طوال مشوارهم الفني على المحافظة على التقاليد المهنية وإعلاء القيمة الفنية بالتدقيق في اختياراتهم، وعدم تقديم أي تنازلات مهما كانت المغريات أو الضغوط الحياتية. ومما يثير الدهشة والتعجب أن هذا الفنان الأصيل لم يحظ بنصيبه وحقه من الأضواء ومظاهر التكريم أو حتى بالتوثيق لأعماله، فسقط سهوا من ذاكرة «قاموس المسرح»، ومن «موسوعة الممثل في السينما العربية»، وحتى من «دليل الفنانين» الذي أصدرته نقابة المهن التمثيلية بثمانينات القرن الماضي!!، ولم يكرم في حياته إلا بعدد قليل جدا من المناسبات - وذلك على الرغم من تميزه وحصوله على بعض الجوائز - ولعل أهمها طبقا لتصريحه تكريمه بفعاليات الدورة الخامسة عشر لمهرجان «المسرح العربي» عام 2017 (الذي نظمته الجمعية المصرية لهواة المسرح”).
حقا كم أسعدني الحظ بالاقتراب من عالم هذا الفنان الأصيل الذي ظل محافظا على روح الهواية الحقيقية بداخله، وزاهدا في الأضواء المصطنعة حول النجوم، ومقتنعا بأهمية الدور الذي يقوم به كمشارك في تقديم النصوص والقضايا التنويرية لخدمة مجتمعه، لذلك فقد ظل يعيش في منزله القديم بمنطقة «القباري» بمحافظة الإسكندرية، ولم يتركها طوال حياته رغم تحقيقه للشهرة!!، فكان يقيم بشقته بمدينة القاهرة أثناء ارتباطاته بالأعمال الفنية فقط، بل وكثيرا ما كان يفضل العودة للإسكندرية بمجرد إنهاء ارتباطاته بالتصوير أو التسجيل الإذاعي، ولم يكن يحبذ على الإطلاق المشاركة بالسهرات الفنية أو حضور المهرجانات والاحتفالات. فقد ظل طوال حياته يقدس الحياة الأسرية، وقد انجب ابنة واحدة، وعاش مهموما بتنشئتها على الطريق السليم، حتى أنه صرح بإحدى أحاديثه: «اتمنى أن تكون إبنتي أهم شيء في الدنيا وأنا أعمل لذلك، هذه مسؤولية كبيرة وهم شخصي أضعه في أول اهتماماتي، وأتمنى أن أوفق في تنشئتها بشكل يرضيني ويرضيها وأن تنجح في المساهمة في خدمة مجتمعنا».
رحم لله فقيدنا الغالي الفنان القدير إسماعيل محمود وغفر له ذنبه وأدخله فسيح جناته إن شاء الله جزاء إخلاصه في عمله وحرصه على إسعادنا وعلى إسعاد جميع زملائه بأخلاقه الدمثة وسلوكياته الراقية.


د.عمرو دوارة

esota82@yahoo.com‏