في الانتظار جدلية وجودية للقهر الإنساني وغربة الشرفاء

 في الانتظار جدلية وجودية للقهر الإنساني وغربة الشرفاء

العدد 605 صدر بتاريخ 1أبريل2019

ماذا ننتظر؟ وإلى متى ننتظر؟ وهل هناك جدوى من الانتظار؟ انتظار بلا نهاية , إن مجرد فكرة الانتظار حتى لو لمجهول, في رأيي هي فكرة تدعو للأمل والتفاؤل, وليس لليأس  كما يظن البعض, فاليأس يلغي منطق الانتظار أصلا. في انتظار الخلاص  الذي عادة لا يأتي,  لكن يظل الأبطال عادة متمسكون بالأمل.
 بعد أن كتب بيكيت مسرحيته الشهيرة في انتظار جودو مثلت إلهاما للعديد من الكتاب المسرحيين بعدها, فظلت نموذجا يسير على هداه الكتاب في تناول فكرة انتظار الخلاص المزعوم. فكرة عبثية في المقام الأول وقد تناولها المؤلف سعيد حجاج في مسرحيته في الانتظار والتي تقدم بقاعة صلاح عبد الصبور بمسرح الطليعة من إخراج حمادة شوشة، وقد بدأ سعيد حجاج من حيث انتهى بيكيت, بل إنه أضاف إليها سنوات طويلة من بعد بيكيت تصل إلى أجيال كاملة من الانتظار, حتى ليأتي أبطاله ليجدوا قبعات أبطال بيكيت مازالت ماثلة على الشجرة تنتظر هي الأخرى.
إن تناول التحليل الدرامي لهذا النص يحتاج لصفحات طويلة متخصصة تستخرج كل أفكاره وتفاصيله من واقع كتابة النص نفسه كنص مكتوب كي يأخذ حقه في التناول والتحليل, لكننا هنا بصدد عرض مرئي في قاعة عرض قد أضيفت إليه كافة عناصر العرض المسرحي التي يجب أن يكون لكل منها نصيبها في النقد والتحليل, رغم أن النص والعرض لا ينفصلان, وقد اتخذ المخرج حمادة شوشة خيوط لعبته العبثية من داخل النص , وبداية لدينا مكان خاو إلا من شجرة كبيرة وعتيقة في المنتصف يعلوها هيكل عظمي جلس واضعا ساقا على الأخرى, وهو إشارة لشخص قد مات انتظارا في هذا المكان ومازال بهيئته في هذا الانتظار المميت. شخصان يلتقيان جاء كل منهما من طرف من أطراف العالم كي ينتظر ما لا يعرفه, التقيا في هدف واحد رغم أن أحدهما من آخر العالم والثاني من أول العالم, ويدفعنا المؤلف إلى الجدل حول الصراع الإنساني وماهية وجود الفرد , فيحلل لنا النفس الإنسانية تحليلا سيكولوجيا معتمدا على فكرة رفض الفرد لتوحده وتفرده في الشر ورغبته في مشاركة آخرين له حتى لا يشعر وحده بقسوة ما يرتكبه من آثام بل تتحول المسألة إلى متعة المشاركة, لكن انتظار الخلاص هنا ينسحب فقط على غير الشرفاء مؤكدا ذلك بتساؤل صفوان لعزوز فائلا ( وهل ينتظر الشرفاء هنا أيضا), ثم يوضح بعد ذلك رؤيته في أن الحياة الشريفة تحتاج إلى أنبياء نافيا عن البشر الطهر الفطري, فمن ينتظر المخلص لا يحتسب شريفا, كما أن الانتظار هو سمة أو قدر مكتوب فقط للفقراء , اما الأغنياء فهم في موضع آخر لا يليق بهم التواجد في تلك البقعة من العالم, وهذا يقودنا على أن هذا الانتظار الرمزي إنما يجمع فئات مختلفة من العالم من بني البشر بغض النظر عن أماكنهم أو ديانتهم أو انتماءاتهم, فتلك البقعة أو الشجرة الضخمة هي موضع رمزي يجذب إليه أرواح هؤلاء المذنبين انتظارا لنقاء وطهارة الروح , نحن أيضا في مكان ليس له مناخ واضح أو محدد إنما يحتوي كل أحوال الطقس متداخلة (يقول صفوان: لا شيء يبقى على حاله ربما يأتي الشتاء الآن فجأة), إشارة لهامشية المفردات الحياتية التي لا تهم ولا تعني شيئا أمام القضية الأكبر التي يعايشها هؤلاء الرابطون عند الشجرة. وعندما يصرح عزوز بأنه (سيأتي حاملا عشبه وسندسه الأخضر وبرتقاله البهي وما لديه من ذهب لأمثالنا) يمثل قمة التفاؤل والأمل فيما سيطرح الغد عند العثور على المخلص رغم الملل ومجهولية المنتظر.  إن الأسماء التي كتبت داخل القبعات الموجودة أعلى الشجرة أنما هي أسماء شخصيات بيكيت في انتظار جودو لكنه هنا يشير إلى أنها منذ آلاف السنين, رحل الأفراد لكن فكرة الانتظار مازالت مطروحة بالوجود الدلالي للمادة المعبرة عن الشخص أو عن أفكاره التي تركها للعالم قبل أن يرحل.  ومازال يشير عزوز إلى  معاناة الفقراء تلك المشكلة الأزلية التي تصيب العالم اتحادا مع القهر الإنساني قائلا عن المصائب أنها تتجمع للتوالي فوق رأس الضعفاء , حيث وصل إلى لحظات من اليأس مطالبا صديقه صفوان بصلبه معاتبا التاريخ متمثلا في القلعة التي يرغب في أن يدفن خلفها في القاهرة حيث لا جدوى من الماضي سوى الكذب والتضليل فنحن نعيش فقط ونردد ما نسمع دون وعي وعند إدراك ذلك تصبح تلك الحياة بلا معنى, ليدخل في تلك اللحظة الرجل الذي يجر ابنه معه شاهدا على سيزيف الذي لم يكف عن دحرجة الحجر. وذلك تأكيدا على فكرة اللا جدوى واستمرار المعاناة, إن ضغوط الرجل على ولده دون أن يمنحه معطيات التعامل تمثل أيضا نوعا من القهر المعنوي ووأد الإنسان داخل الإنسان في أحلامه ومستقبله, فهو لم يمنحه شيئا كي يطلب منه المستحيل وكيف وهو الذي تحدث ساخرا عن ما يحدث لسيزيف وهو الآن يمارس نفس الفعل بنفس المنطق مع ولده الصغير الكبير في آن واحد, تحمل الفكرة في طياتها مفهوم العبودية, السيد والعبد أو القائد والتابع, أو الزعيم والشعب , كما أن القصة التي يغنيها باستمرار ويكررها بعدة آداءات مختلفة حول الطفل الضال الذي غافل الحراس هي أصداء عن مهانة الإنسان في وطنه حتى ليلقى مصير الكلاب أو اقل مرتبة, لدرجة أن الكلاب هي التي دفت جثته بعيدا وحيدا, ويؤكد هنا على القهر الإنساني معلقا بجملة عزوز إن الكلاب تحفظ التاريخ نيابة عنا فنحن أصبحنا بلا ذاكرة نتيجة تزوير تاريخ البشرية لصالح الحكام وأصحاب القرار, يذهب الأب والطفل يختفيان لفترة حتى يعود الطفل وحيدا دون أبيه في تكرار جدلي لحالة الأب, فهي دائرة مفرغة تدور فيها المفردات دون نهاية وبلا منطق دون الوصول إلى نتيجة أو هدف وما علينا سوى أن ننتظر بلا نهاية.
الرؤية الإخراجية لحمادة شوشة دارت في فلك النص  لم تخرج عن طور استعراض الحوار الجدلي المنطوق بشكل تقليدي دون تأويل للكلمة بشكل تقليدي لمليء الفراغات والمساحات والتوازن السينوغرافي للحركة بين شخصيات إضافية مثل عازفين وفتاة وعدة شخوص في الانتظار على رأسهم هذا الهيكل العظمي المنتظر بأعلى الشجرة العتيقة  المشبعة بعبق الانتظار وعلى جذعها في المنتصف كتبت أسماء من انتظروا وهل هو تخليد لهم أم تخليد لفكرة الانتظار نفسها ام أنها شهادة للمخلص حينما يأتي ليعلم من كانوا بانتظاره؟ اما أسفل الشجرة تمتد أياد تستغيث تأكيدا لعذاب وحرقة الانتظار فكفانا انتظارا في هذا العالم الملل. ويعد هذا التكوين لتلك الشجرة في منتصف المسرح بين مساحة جرداء خالية يكسوها اللون الرمادي المحايد في كل جوانب قاعة العرض, يعد مثل قطب جاذب حيث أنه رأس الموضوع المطروح الذي يجذب كل من يقترب من تلك المساحة الخاوية, كما كانت الملابس التي صممها مصمم الديكور أيضا محمود فؤاد صدقي من نفس نسيج سينوغرافيا العرض واكتست كلها باللون الرمادي بدرجاته المختلفة عدا هذا الوشاح السود الذي ترتديه الفتاة الراقصة كمجرد كسر للحالة البصرية, كانت الموسيقى معبرة عن الحالة المسرحية ومناسبة لها كما أضفت خطوط الإضاءة بعدا حيويا ودراميا جيدا بشكل مؤثر, أما الأداء التمثيلي فهو البطل الرئيس في تلك الحالة  الدرامية التي أجاد فيها الجميع بلا استثناء باسم شريف وياسر عزت وفكري سليم وباسم قناوي ومحمد سعيد ومريم هاني. هي جدلية وجودية ينتصر فيها سعيد حجاج لوجود الله مغايرا لطرح بيكيت، تجربة مسرحية تعبر عن هواجس الانتظار للأفضل الذي ربما لن يأتي لكن الأمل يظل بداخلنا للأبد.

 


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏