العدد 604 صدر بتاريخ 25مارس2019
أحيانا تعصف بنا الحياة إلى مناحي نكرهها أو لا ننتمي إليها, فتؤدي الظروف وضغوط الحياة ببعض الأفراد إلى الإحباط واليأس لدرجة كبيرة تصل إلى الانتحار أو قتل الآخرين, فيخرج الشخص عن كونه إنسان سوي إلى إنسان مجرم أو مريض نفسيا, وفي الآونة الأخيرة كثيرا ما قرأنا وسمعنا عن حوادث قتل الآباء لأبنائهم نتيجة الإحباط أو الفقر أو الفشل في مواكبة ظروف الحياة. ومن هنا كانت مسرحية شباك مكسور التي استلهمت الكاتبة رشا عبد المنعم فكرتها من تلك الحوادث الشاذة والغريبة عن تقاليد وعادات وأصول المجتمعات المستقرة والسوية. على خشبة مسرح الطليعة وبعد فترة انتظار طويلة لإعادة افتتاح المسرح, قدمت فرقة الطليعة التابعة للبيت الفني للمسرح عرض مسرحية (شباك مكسور) من تأليف رشا عبد المنعم وإخراج شادي الدالي.
تدور فكرة العرض حول أب اضطرته ظروف شظف الحياة على قتل أسرته المكونة من أمه وزوجته وأبناءه, حيث يعيشون في فقر مدقع, ويبدأ العرض بالأب (عطية) وهو يحكي لجمهور الصالة متخطيا الحاجز الرابع طوال العرض, مأساته مع تلك المعيشة الصعبة, فيبدأ في تقديم أفراد الأسرة الفقيرة واحدا تلو الآخر, أمه العجوز القعيدة (الجدة) التي تعاني من الفراغ فتشغل نفسها بجهاز هاتف محمول تمسكه بيدها طوال الوقت لتسمع أي شيء أو تحدث أي شخص حتى لو موظف السنترال أو الإسعاف, ثم نتعرف على الزوجة (فاطمة) المتعبة والمنهكة في أعمال البيت وطلبات الأبناء, والابنة الكبرى (لواحظ) الباحثة عن المستقبل من خلال الزواج التقليدي, والابن الشاب (خالد) , والابنة الصغرى (سمر), ومعهم الجار المتطفل المتداخل مع الأسرة (عم جمعة), ثم زوج لواحظ. حيث نرى كل نمط منهم بشخصيته وأحلامه وانفعالاته وأحاسيسه وإحباطاته , التي تمثل كل ذلك من خلال شباك مكسور في أحد جدران البيت لا يقوى الأب على ثمن إصلاحه, ويعبر عن تلك الشروخ الموجودة في حياة كل منهم , لكنها من خلال المؤلف ترجع جميعها إلى الفقر الشديد الذي يسبب المشاكل الاجتماعية وتحطم العلاقات الأسرية, فالشباك المكسور الذي تم تسمية المسرحية به ليس مجرد شباك مادي في قطعة ديكور لكنه كسر وشرخ بداخل كل شخصية في تطلعاتها وأحلامها وكذلك يمثل شرخا في علاقاته بالآخرين. حتى نرى الأب في النهاية يصل لمرحلة قصوى من الإحباط تؤدي به إلى محاولة قتل الأسرة بأكمها عن طريق سم الفئران الذي وضعه لهم في وجبة معكرونة أعدها بنفسه لهم, وبعد حزن وحسرة وندم وانفعال درامي يستفيق على سعادة الأسرة بالوجبة وأنهم لم يموتوا فيدرك أن النحس قد وصل معه لدرجة أن السم هو أيضا فاسد وليس له أثر.
تعرض النص لمواقف تقليدية حياتية عادية للأسرة توضح ما تعيشه من حياة بسيطة وفقيرة, لم يكن بها مواقف جديدة على الدراما, حيث يمكن أن نكون قد شاهدناها من قبل في أعمال متفرقة لكن المؤلفة قد جمعتها هنا بشكل جيد ومناسب لطبيعة العرض وفكره.
تأتي الرؤية الدرامية للنص وللعرض كما ذكر المخرج في بانفليت العرض من خلال نظرية النوافذ المحطمة, هي نظرية في علم النفس الجريمة واستخدمت أيضا في علم الاجتماع, وضعها العالمان جيمس ويلسون وجورج كيلينج, مفادها أن النافذة المحطمة في مبنى ما دون إصلاح توحي للمارة بالإهمال مما يدعوهم لتحطيم باقي النوافذ تدريجيا بل إلى تحطيم المبنى بأكمله وينسحب ذلك على المباني المجاورة أيضا, وتطبيقا على بنية العرض فإن تلك النافذة المكسورة التي أهملت بقهر الفقر والعوز تؤدي إلى تفاقم الأوضاع المؤدية لانهيار باقي المنزل بعلاقاته الاجتماعية وتفتت الأسرة بأكملها, حتى نرى تلك النوافذ الزجاجية بالأعلى مائلة للأمام في انتظار لحظة انهيارها, والدلالة هنا في رأيي لا تقف عند حدود مجرد أسرة فقيرة او طبقة من الطبقات لكنها تنطوي على الوطن بأكمله, إذا أهملنا منه جزء دون إصلاح إنهار الوطن بأكمله, عليه فإن كل مسئول عن جزء من الوطن مهما كان بسيطا عليه أن يهتم بترميمه ورعايته أولا بأول, فرسالة العرض هنا عامة وشاملة وليست مجرد ضحكات ينتزعها لأحوال مواطنين بسطاء.
تناول المخرج كل ذلك في إطار كوميدي خفيف, أثبت به قدرته على انتزاع الضحكات, وأن لديه مهارة عالية بأدواته كمخرج في صنع الكوميديا من خلال المأساة الاجتماعية, ويبشر بتقدمه الصفوف الأولى لمخرجي الكوميديا في مصر خلال السنوات القادمة. وقد عبر الديكور (والذي صممه وائل عبد الله) بشكل جيد وبسيط عن تلك الحالة من خلال شقة متواضعة لأسرة فقيرة شملت الصالة وعلى الجانب الأيسر المطبخ الصغير بشكل واقعي, وفي الجانب الأيمن الركن الخاص بالأب والذي كان يتخذه دائما لمخاطبة الجمهور في الصالة للحكي, وتميز الديكور بوضع الشباك المكسور في عمق المنتصف لبيان سيطرته بمدلولاته على مجريات الأمور والذي يجعل أفراد الأسرة دائما في وضع مكشوف ومتعري أمام الجيران وأهل الشارع, معبرا عن تعرية تلك الطبقة الفقيرة في المجتمع من كل وسائل الخصوصية والأمان والراحة, هي أبسط الحقوق الإنسانية في أي وطن. أما جدران المنزل فقد صممت بشكل مائل للداخل توحي بميلها للسقوط في أي لحظة على رؤوس سكانها, مما يعبر عن الخطر الذي تعيشه تلك الطبقة المعدمة دائما من انهيار حياتها فجأة. كما جاء تصميم الملابس (لوائل عبد الله أيضا) مناسبا لكل شخصية ومعبرا عنها بشكل واقعي. واستطاعت الموسيقى (التي وضعها يحيى نديم ونفذها شريف الوسيمي) أن تواكب الحالة الدرامية والإنسانية الكوميدية التي أبدعها المخرج. كما حاولت الإضاءة التعبير بواقعية عن فترات الليل والنهار وتغير التوقيت من خلال تغيير ألوانها عبر شبابيك المنزل لا سيما العلوية مع توظيف بعض الإضاءات الخاصة للتركيز على الحدث الدرامي خصوصا مع مشاهد الأب (عطية) وصممها أبو بكر الشريف.
قام بدور الأب عطية الفنان أحمد مختار الذي أجاد تجسيد الشخصية بكل أبعادها وأمالها وطموحاتها , هذا الزوج المطحون المغلوب على أمره ويعاني من قسوة الحياة والظروف ثم حالة الانكسار التي أدت به إلى محاولة قتلهم, ثم أبدع في تجسيد الصراع الداخلي بينه وبين نفسه أثناء تناولهم السم , حول ما إذا كان يأكل معهم المعكرونة المسمومة فينتحر معهم أم لا. أما الفنانة القديرة نادية شكري فقد أدت بنجاح وخبرة دور (فاطمة) الزوجة المنهكة بين أبناءها في اعمال المنزل وتتحمل ظروف الحياة القاسية بجانب زوجها المكافح, كما أجاد جميع الممثلون أدوارهم ببراعة بلا استثناء وهم مجدي عبيد في دور عم جمعة الجار المتطفل الذي انتزع ضحكات الصالة بروحه المرحة, ومروان فيصل في دور الابن خالد, وربا شريف بخفة ظلها في دور الجدة, ومروى كشك ذات الموهبة العالية في دور لواحظ, وعلى كمالو الكوميديان المرح في أدوار زوج لواحظ والابن , ووليد أبوستيت في دور الاعلامي صاحب البصمة الكوميدية المتميزة, وأيضا أجادت هند حسام في دور الابنة الصغرى سمر.
العرض في مجمله جيد وراق ويمثل وجبة كوميدية خفيفة بلا إسفاف أو مبالغة, وإن انطوت الدراما على تقليدية المواقف لكنها عبرت عن حال الأسرة المصرية البسيطة بصدق.