العدد 603 صدر بتاريخ 18مارس2019
ماذا لو سقطت الدموع التي تهبط على شكل نقاط متبعثرة وتجمدت في الصحراء لتبني بيوتا وتلالا جليدية تُحيي الفضاء وتعمره وتجعله صالحا للعيش والحياة.. في مثل تلك الأحلام يكمن سر “الإنسان” القادر الأوحد على التخيل والحلم والتنفيذ والبناء.
«بناء الإنسان لذاته»، تلك الجملة المتداولة على مرأى ومسمع دون التمحيص والتفكيك لها بشكل دقيق، فالإنسان هو الكائن الوحيد القادر على البناء، ولفظة بناء هنا تشمل ما هو معنوي وما هو مادي، فالبناء المعنوي هي تلك الثقافات والحضارات والمعتقدات التي ساهم الإنسان في بنائها منذ قديم الأزل حتى يُثبت أقدامه على أرض صلبة تميزه عن سائر المخلوقات الأخرى، ومن أهم الأدوات التي تميز ذلك العنصر البشري هي «جسده» الذي استطاع به أن يبني تاريخا حافلا يتركه إرثا فيما بعد لمن يخلفونه.
وهنا يظهر الجانب الآخر من البناء وهو البناء المادي، أي تلك الأبنية التي شُيدت كي تصنع حضارات مؤكدة على وجود عقل بشري قادر على الابتكار والتطوير ومن ثمة البناء ككل.
حاول المخرج «وليد عوني» بمساعدة فريقه “الرقص المسرحي الحديث”، على خشبة المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية، أن يبني علاقة قوية بين ثنائية في غاية الأهمية وهي (الجسد، العِمارة) فالجسد هو من يقوم بفعل التعمير، ومن هنا تطرق عوني لحياة المهندسة المعمارية «زها حديد» وهي مهندسة بريطانية من أصل عراقي وُلدت في بغداد 31 أكتوبر 1950 وتُوفيت في ميامي 3 يوليو 2016.
وتُعتبر «حديد» من أشهر المهندسين في مجال العمارة نظرا لما اشتهرت به من أعمال ذات تصاميم مبتكرة، كما أنها تُعتبر أحد روَّاد فن العمارة المُعاصِرة؛ كما اشتهرت عالميا بتصميماتها ذات النمط التجريبي والتفكيكي معا، ومن هنا تظهر بوادر مناطق الشبه فيما بينها والفن بصفة عامة كونها فنانة في الأصل أرادت الثورة على الأنماط الهندسية المقولبة.
استخدم عوني أجسادا راقصة كي تعبر عن تلك الفنانة الثائرة، عن طريق حركات جسدية متنوعة تبدأ ببطء في الحركة وكأنها تسلك مسلك التأني والدقة، ومن ثَم يتغير أسلوب الرقص رأسا على عقب ويصبح أكثر حيوية وخفة ومرونة مدللا على قمة التحرر والتحليق دون اتباع أي أنظمة مسرحية كالالتزام بخطوط حركة معينة أو اتباع منهج واضح في الرقص، فكل متفرج يبحث عن تنميط العرض داخل منهج محدد سيصعب عليه الأمر في ذلك، وفي واقع العروض المسرحية بشكل عام الراقصة منها أو غير الراقصة لا بد من رسم خطوط وتدريب جيد، ولكن المدهش في الأمر أن يتبع مقدمي العرض منهجية اللامنهجية ويصدروا كونهم غير ملتزمين بأي رسم أو خطوط واضحة لنقل حالة الحرية الكاملة للجسد، وعلى ذكر التحليق تبدو أجساد الراقصين بعد تحررها التام من القيود كأنها زاهدة في ملكوت الفن مستمتعة بكل ما تأتي به الأجهزة المصاحبة للعرض من موسيقى وإضاءات وألوان، تتطاير في عالم آخر حالم مفعم بالحيوية، أي عالم الفن.
ومن حين لآخر تظهر من جديد الحركات الفاترة التي تُصدر حالة من الملل المقصود مُعبرة عن أنه من المؤكد مرور لحظات فشل أو سقوط لتلك المتمردة، وظهر ذلك تحديدا في جزء من العرض قام فيه أحد الراقصين بتجسيد عقارب الساعة بمساعدة بؤرة إضاءة بيضاء في النصف الإمامي من الخشبة، تتحرك تلك العقارب بشكل في غاية البطء والرتابة، وأيضا مشهد نقطة المياة الذي يظهر على الشاشة الخلفية فهي نقطة تسقط في بحر واسع لتضيع وتضل طريقها لأنها تشبه ذلك الفضاء الذي اختارت الوقوع به.
وبالعودة إلى سيرة «زها حديد» الذاتية، يتضح أن في بداياتها كان كل من يقع نظره على فنها يصفه بالجنون وأنه غير قابل للتحقيق، وسيبقى مجرد رسم جميل على ورق لم يُنفذ في يوم ما، ولكن عندما نَحت حديد كل ما قيل جانبا واستمرت في الإبداع والابتكار حققت ما لم يقدر عليه الكثيرون ونفذت 950 مشروعا في نحو 44 دولة مختلفة.
قدم عوني الكثير من الأشكال الهندسية غير متساوية الأضلاع كديكور لعرضه، ولكن لم يكتفِ بذلك قط، بل جعلها تندمج وتنخرط بين أجساد الممثلين وكأنها ترقص وتحلق معهم، سعيدة لأنها تحققت بل وتفتخر بوجودها، والدليل على ذلك هو وضعها في منتصف الخشبة في أغلب المشاهد وأيضا باتت تظهر على شاشة العرض التي تعتبر خلفية المسرح بطوله وعرضه، لتحتل الصدارة بالنسبة لعيون المتفرجين طوال الوقت، لتدلل على بقائها حتى إن رحلت مصممتها، فهي إرث لم ولن يفنَى على مر العصور.
اهتم عوني بتقديم شكل مُجسم «لدار أوبرا غوانزو»/ «دار الأوبرا الصينية» الذي يعتبر من أهم المعالم التي صممتها حديد، وقدمه كمجسم مرة محمول ومرات أخرى يرتديه الراقصون، ليقيم علاقة قوية بين المعمار والفن بكل أشكاله وأنواعه واختياره لدار الأوبرا على وجه الخصوص خير دليل على تلك الشمولية.
استخدم الراقصون ذلك المُجسم كزي «التنورة» التي تعتبر دلالة مباشرة عن الصوفية للتأكيد على حالة الزهد الكاملة التي يتمتع بها العرض، ولبلورة الحالة الصوفية ظل الراقصون في كثير من الحركات يستخدمون الشكل الدائري كالدرويش ليصبح الراقص دائرة لنفسه ليس لها نهاية.
تمتعت موسيقى العرض بالتنوع الشديد فتارات كانت مُتخبطة وغير متزنة على نغمة بعينها مدللة على التنوع وعدم التأطير، وتارات أخرى كانت تشبه أصوات التكسير أو الطرق على الحديد للإشارة إلى كسر القوالب والعمل الهندسي الشاق، بآلات إيقاعية تمزج بين روح الشرق وفكر الغرب.
استخدمت الإكسسوارات مادة الحديد في الأشكال الهندسية، وظهرت المرايا والملابس المزرقشة نقلا عن الموضات التي ابتدعتها زها أيضا كونها مساهمة في مجال الموضة بكثير من الصيحات، كما حاول عوني أن يُثمر كل عنصر أكثر من دلالة أثناء إدراجه على الخشبة، فمثلا عنصر البلاستك الذي يعود لكونها استخدمته في تصميم نوع من أنواع الأحذية، وأيضا يُثري دلالة الطي أو التكفين لأحلامها وفنها كما كان يدعي البعض، فقدمه عوني مفروشا على الخشبة مقتربا من أقدام الراقصين، ثم كأداة يلتف بها أحد الراقصين ويُلقى جانبا.
كان عدد الراقصين يتمحور بين 8 من الرجال والنساء ليظل التنوع قائما إلى اللامنتهاه، وراقص واحد منعزل عن هؤلاء يقوم بتجسيد الكثير من المعاني، يُثري مرة كونه جزءا من تلك البنايات، وتارة أخرى كونه الأحلام صعبة المنال، تارات كثيرة الإنسان الواقع عليه فعل الاستفادة من ذلك الفن، وتارات أخرى يكون هو زها حديد نفسها التي تبتكر وتصمم وتقوم بالتنفيذ.
ساهمت الشاشة الخلفية في بلورة فكرة الانسيابية عن طريق الخطوط المرسومة التي تظهر بشكل ناعم وتختفي بنفس الطريقة لتظهر من بعدها خطوط جديدة حتى نهاية العرض نقلا عن الابتكار المُستمر وأنه لم يتوقف بعد. حتى بعد ظهور صورة زها حديد نفسها على الشاشة ثم اختفائها تظل الخطوط تظهر ولكن مع فتور من جديد في حركة الجسد حزنا على رحيلها.
وينتهي العرض بصوت زها مصاحبا للصورة المُقدمة مؤكدة معانيه على أهمية عنصر التعليم والمثابرة.
حيث ألقت حديد في أحد لقاءاتها التلفزيونية عبارة تقول فيها «أرى أن أساس كل شيء هو التعليم، ولا يقتصر التعليم على الكتب بل على مدى مراقبتك في الحياة، ومدى تعلمك من الناس وتجربتك لما تراقبه، وأظن أن هذا هو الأساس لكل شيء».
ومن ثمة العرض وما قدمه يتضح التشابه فيما بين عوني وحديد نفسيهما، وهذا ما يحدث في أغلب المرات بين عوني وعروضه، فعادة ما تظهر نقاط تلاقٍ عدة فيما بينهم، وكانت نقاط تلاقي عوني بحديد هذه المرة تكمن في «الأسلوب»، فكل منهما يستخدم الخفة والانسيابية في تقديم عمله ولكن باختلاف الطرق، فعوني يستخدم الجسد ويكسر به قوالب المسرح المعتادة عن طريق الرقص كونه شكلا تحرريا ولغة سهلة الترجمة لكل لغات العالم بل وقادرة على التنوع وإثراء الكثير من المعاني والدلالات، وحديد تضرب في الزوايا والأشكال المعروفة والتقليدية للعمارة، فكل منهما يعلن الحرب على القالب بطريقته الخاصة ليصل في نهاية المطاف لذروة التحرر بفنه.