العدد 598 صدر بتاريخ 11فبراير2019
يلتقط الكاتب المسرحي سامح عثمان واحدا من الأماكن التي يتحلق فيها الناس ليتشرنق كل منهم بعالمه الافتراضي داخل «سايبر» ومنقطع الصلة بمن حوله الذين يشاركونه المكان، دون أن تجمعهم أي صلة أخرى، ويحاول الكاتب وضع يده على المشتركات بين هؤلاء الجالسين كل منهم معطيا ظهره للآخر، دون أن يستشعر وجود هؤلاء الآخرين، ولخلق مزيد من الحواجز يضع كل منهم على أذنيه (هيد فون) محلقا في عالمه الافتراضي داخل شاشة الجهاز الجالس أمامه ليصبح في حالة انعزالية تامة عمن حوله ممن لا تربطهم جميعا - حتى بداية العرض المسرحي والدخول في أحداثه - سوى وحدة المكان فقط.
وقد حرص المؤلف على أن يمثل الموجودون بالسايبر معظم فئات المجتمع (مدير السايبر، العجوز، العاطل، المتطرف، الأم، الزوجة، الممثل، الزوجة، المثقف، المطربة، لاعبو كرة، الممثل، النسوانجي، النادل، وهناك الغائب الحاضر بقوة عبر مناجاة زوجته وأمه له، ورجاؤه بالعودة من السفر الذي طال في بلاد النفط، وهو لا يختلف عن الموجودين بالسايبر حيث انقطعت صلته بعالمه الأسري حتى الأم والزوجة).
وللتأكيد على انعدام الصلة الإنسانية بين هؤلاء الموجودين في مكان واحد يبدأ العرض بموسيقى معدنية محايدة لا تشي، ولا تحرك أية مشاعر.
ولأن العوالم الدرامية لا تقوم إلا على شبكة العلاقات الرابطة بين الشخصيات التي توضع في محكات، وبناء على أفعالها تجاه تلك المحكات تنشأ الصراعات، ومن ثم يقوم العالم الدرامي، ولهذا يحرص مؤلف النص على وجود ما يربط بين شخصيات السايبر رغم انعدام الأواصر بينهم، ليبرز النادل لخلق تلك الصلة سواء بالتعليق أو الوصف أو الحث على التشارك، ولو بفض غلاف التشرنق، الذي جعل كل شخصية تتماهى مع عالمها الافتراضي، وتجعل منه بديلا وعوضا عن عالمها الواقعي المتأزم، المؤدي إلى خلق حالات إنسانية تقع تحت سطوة أزماته، وعدم تصالحها مع واقها، وليتحرك هذا النادل مع مدير السايبر في تاريخ المكان، وبين بعض جنباته المضيئة، والمظلمة أيضا، ليؤكد أن دوام الحال من المحال، معطيا الأمل في التغيير.. فقبل أن يتحول المكان إلى سايبر كان مقهى بلديا له دور منير في ثورة 1919 وقت أن كان الناس بكل فئاتهم متلاحمين مع واقعهم ملتفين حول مشروعهم القومي الواضح والمناضل من أجل تحرير البلاد من المحتل الإنجليزي، ذلك المشروع الذي لم يترك فرصة للفراغ (والتجريف، والإفراغ العقلي والروحي المتعمد)، ومن ثم لم تكن هناك مثل تلك النماذج الشائهة كالمتطرف المتحرق لإفراغ رصاصة في صدر المجتمع، ولا (النسوانجي) الذي لا يستمتع بأن تكون له امرأة واحدة، بل يأتي استمتاعه بالتنوع والتنقل بين النساء (طبق الفروت سلاط) وتتجلى متعته في سرقة “الفاكهة من الفكهاني”، ولم تكن هناك فرصة لوجود نموذج المترددة دائما، الفعل ونقيضه لتتحول في النهاية إلى نموذج للشيزوفرينيا، وفعل ما تشاء «بس في السكرتة» وتنتهي بأن تكون مخطوبة لرجل وتمارس الحب مع آخر، وحتى الزوجة التي تركها زوجها لسنوات طوال للعمل في بلاد النفط وقد تصحرت مشاعره وإحساسه بالعدوى من قسوة الصحراء المحيطة به في بلاد الجاز، وتصبر الزوجة طويلا على أمل عودته، ورعاية فاكهتها التي ذبلت، حتى يصبح طعم الصبر كالعلقم فتلظه، وتعطي فاكهتها لمن يجنيها من صغار شباب الحي، وفي دلالة ذكية من المؤلف عن الشيزوفرينيا المجتمعية، يجعلها تتواعد مع شابين (هاجيلكم بكرة بعد صلاة الجمعة على طول!) ولدينا أيضا المثقف غير الفاعل، والمتسائل حتى النهاية عن كيفية القضاء على الجهل والأمية، ورفض الآخر، والعاطل الذي لا يجد أمامه سوى دعوة المتطرف له لقتل الناس مقابل أموال، وإن لم يفعل مكتفيا في النهاية بالعيش مع تهاويم من سحب دخانية للشيشة لا تختلف في وهمها عن العنكبوتية الزرقاء في عالمهم الافتراضي.
كل تلك النماذاج الشائهة يحرص المؤلف على وضعها في بؤرة ضوء - يجعلها المخرج الموهوب «سامح الحضري» مع مصمم إضاءته اللامع «إبراهيم الفرن» - إضاءة هائمة في غير وضوح لانبعاثها من شاشات الأجهزة لتتشابك مع عدم وضوح الرؤية لأي من الشخصيات، ولنتساءل مع العرض عن الذي أدى بالمجتمع إلى تلك المرحلة الضبابية، المنعدمة الرؤية والوضوح؟ وإن كان العرض لا يجيب عن ذلك التساؤل الجوهري بشكل مباشر، إلا أنه يأخذنا إلى النقيض من ذلك الواقع حيث ثورة 1919، ليضع العرض - وبذكاء - المقابل لتلك الشخصيات الشائهة، شخصيات أخرى محددة الهدف وواضحة أمامها معالم طريقها، ومصممة على الوصول لهدفها، ليكون في مقابل (النسوانجي) النموذج المشوه يقابله النموذج الذي يمثله صلاح قابيل في فيلم “بين القصرين”، وعمر الشريف في في فيلم “في بيتنا رجل”، كلاهما يحب فتاة، وكلاهما يشارك بدور وطني إيجابي، وليكن نموذجا زيزي البدراوي وزبيدة ثروت متقابلين مع الزوجة المترددة، والزوجة المهجورة، وليكن مدير السايبر مقابلا لصاحب المقهى المشارك في الواجب الوطني الذي يخبئ المنشورات في نفس المرحلة المضيئة حين كان هناك مشروع قومي يلتف حوله الجميع، ونادل السايبر مقابل صبي المقهى الذي يسلم المنشورات للثوار في بين القصرين، ويقوم بتوصيل بدلة الضابط ليتخفى فيها عمر الشريف في “في بيتنا رجل”، وأن تكون تلك المشاهد تالية لمشهد السايبر، لهي إجابة غير مباشرة عن السؤال المطروح، مؤكدة كماِ جاء على لسان العاطل “الفراغ يعمل أكتر من كدة”، والفراغ هنا يشمل فراغ الوقت وتفريغ وتجريف العقلية الجمعية للشعب المصري، لا سيما الشباب منهم, وشل قدرتهم على الفعل سوى التوحد مع العالم الافتراضي، وفقدان الرغبة، وأخذ الفرصة أيضا للمشاركة في صياغة الواقع لينعم الآخرون المتسيدون بالإمساك بكل مفاصل ذلك الواقع والتسيد عليه بأنساقهم القيمية اللافظة للعلم والأخلاق والشرف (يرفض المدير تعيين العاطل رغم أن الـ”V.C” الخاص به مليء بالشهادات العلمية، وحسن السير والسلوك، ويسخر من تلك المؤهلات التي يرتئي أنها تؤهله للتقدم لخطبة فتاة، وليس للعمل، وحين يطلب منه خطبة ابنته يعيره بأنه عاطل). إن كل تلك الأنساق القيمية، وغيرها مما ساد المجتمع لهي الحاضنة بالضرورة لتلك النماذج الشائهة التي أصبحت تتماهى مع ذاتيتها، ووحدتها، وعالمها الافتراضي إلى الحد الذي يجعلهم لا يتبادلون الحديث رغم وجودهم في مكان واحد، وقربهم الجسدي إلى حد التلاصق، ليكون إعطاء الظهر للظهر بديلا عن التواصل، والتوحد مع العالم الوهمي الافتراضي بديلا عن تبادل الأحاديث، ذلك بعد أن كان المعلم «غريب» لا يهدأ له بال إلا بعد أن يطمئن على كل أفراد المنطقة الذين يعرفهم بالاسم، ويتأكد من دخولهم الخندق وقت الغارات التي يشنها العدو، حين كان يوجد خندق مكان هذا السايبر.
ويبلور العرض المسرحي «جاري التحميل» رؤيته رادا ذلك الواقع الرافض له إلى أمرين: الأول جاء بعد انتصارات أكتوبر 1973، حيث انحاز السادات إلى الرأسمالية، وعالم الانفتاح الذي تحولت معه البلاد إلى «سوبر ماركت كبير» لبيع كل شيء حتى الأعراض (وعلينا ألا نغفل أن تسليم الزوجة لجسدها مع شباب المنطقة لم يأتِ إلا بعد مشهد الانفتاح، ولا يجب أن يمر علينا ذلك مرور الكرام، والفتاة المترددة التي كانت ترى مجرد مغازلتها نوعا من السفالة لم تقدم على ممارسة الجنس مع رجل “انت المزاج كله” على الرغم من حبها وخطبتها لآخر في الوقت نفسه، كان تاليا لمشهد الانفتاح أيضا) حيث انفرطت كل القيم.
أما الأمر الثاني، فيرده إلى عمق التاريخ حيث كان مكان السايبر معبد مصري قديم، وحيث كان الناس يعيشون في سعادة وسلام، ويعبدون إلها واحدا، وحيث أراد كاهنٌ الدعوة لإله آخر، وحيث “يتحدث رجال الدين كثيرا تفيض أنهار الدم”، ولتكن تلك بداية الفرقة حتى يجد رجل حكيم حلا حين يضع يده على التشابه الموجود بين صفات «أمون، ورع» لدى الطرفين، ويدعو كلاهما للمزج بين الإلهين، وليكونا «أمون رع».
ولينتهي عرض «جاري التحميل» دون أن يجد العجوز من بين هؤلاء الموجودين بالسايبر من يأتمنه على ترك الأمانة له ليحل محله في حمل أعباء التركة، ليؤكد المؤلف مرة أخرى على إدانة الجيل الحالي بنماذجهم المشوهة المتحولقة حول أجهزة العالم الوهمي الافتراضي بالسايبر، وهي إدانة لا يحمل المؤلف وزرها لهذا الجيل إذ - على النحو الذي أصبح عليه - هو نتيجة طبيعية لكل التحولات والسياسات الخاطئة التي ارتكبها في حقه بعض حكامه.
قد نتفق أو نختلف حول رؤية المؤلف التي طرحها المخرج في نص العرض، وهذا أمر وارد، ولكن الأجدر بالمناقشة من وجهة النظر النقدية هو كيفية معالجة تلك الرؤية مسرحيا في العرض.
إن «سامح عثمان» يعد واحدا من أبرز كتاب المسرح من جيل الألفية الثالثة، وإن كان قد بدأ الكتابة ما قبل ذلك بقليل، وقد جاءت كل نصوصه المسرحية ذات خصوصية مختلفة منذ “القطة العميا” (الذي يعد أشهر نصوصه، وقد مثل مصر في الكثير من المهرجانات الدولية لفرقة كيريشن المسرحية)، و”تحت الترابيزة”، وغيرهما من النصوص، إذ جاءت كتاباته غير تقليدية في تقنياتها، وكان حريصا - عبر تلك التقنية - على ألا يكون المتفرج مجرد متلقٍ سلبي لما يقدم له على خشبة المسرح، وإنما على المتفرج أن يكون متيقظ الذهن طوال الوقت كي يستطيع الربط بين المشاهد القصيرة، والكثيرة أيضا (إحدى سمات نصوص سامح عثمان) بعضها البعض والتأمل فيما ترمي إليه أيضا، التي تبدو للوهلة الأولى في غير ذي رابط بينها، بينما هي يربط بينها الطرح الكلي للمؤلف في نصه، ولكن بعيدا عن التقليدية والمباشرة أيضا، ومن ثم تحتاج مسرحيات «سامح عثمان» إلى - لا نقول متفرجا من نوع خاص - وإنما إلى متفرج جاء إلى المسرح لا ليتسلى، وإنما للحصول على جرعة فكرية وجمالية متميزة في مقابل أن يعطي للعرض كل انتباهه وحواسه طوال الوقت، ونظن أنها معادلة عادلة للطرفين (العرض/ المتفرج). وفي كل كتاباته المسرحية لم يتخلَ «سامح عثمان» عن قضايا واقعه المحيط، وجيله والأجيال التالية من الشباب، وأثرها الضاغط بالإحباط، والتخلي - جبرا - عن الأحلام والطموح، والحق في العيش والمشاركة في صياغة الواقع، بل يؤرقه ذلك دائما، ويطرحه في كل أعماله دون استثناء.
وعلى خشبة مسرح الشباب (بمسرح أوبرا ملك) يقدم عرض «جاري التحميل» من إخراج «سامح الحضري» في أول تجربة له بالبيت الفني للمسرح بعد أن قدم الكثير من العروض الناجحة، وشديدة التميز بمسرح الثقافة الجماهيرية، وحيث إن المخرج والمؤلف ينتميان لجيل واحد تقريبا، فقد جاء تفاعل المخرج مع ما يطرحه النص على الدرجة نفسها من الانفعال والحماس اللذين كانا دافعين لتجلي إبداع «سامح الحضري» باعتياره مخرجا، الذي انعكس بداية من تعامله مع الفضاء المحدود لخشبة مسرح ملك مكتفيا - مع مصمم الديكور لحمدي عطية - بإحاطته بمجموعة من البانوهات المغطاة بغطاء خفيف يسمح لإضاءة «إبراهيم الفرن» - المتألق دائما مع حس فني عالٍ في اختياراته اللونية ليصبح للإضاءة دور درامي يتسق مع الحدث، وليس مجرد إنارة فقط كما لعبت دورا مهما في الإيحاء بتغيير المكان من سايبر إلى مقهى إلى خندق إلى معبد فرعوني، دون أن يستشعر المتفرج محدوديتها تلك رغم وجود كل الممثلين على الخشبة طوال الوقت تقريبا، والإيقاع السريع، وتشكيلاته الانسيابية لحركة ممثليه، واتساقها مع ما تمثله كل شخصية، فالحركة المتوترة مع الزوجة المهجورة لتعكس توترها الناتج عن عدم ارتواء مشاعرها وجسدها لغياب الزوج، والخطوات المترددة مع الفتاة المزدوجة، والحركة المتشنجة مع المتطرف، وهكذا، وكذلك حرصه - كمخرج - إعطائه فرصا متساوية لكل ممثليه الشباب «رامى نادر، مالك العلي, براء عسل، زيزو، ريم عبد الحليم، محمد أمين، ليلة نبيل، نيرمين نبيل، مروان عثمان» الذي اجتهد كل منهم في حدود دوره، بقيادة الفنان الذي اكتمل نضجه الفني «ياسر صادق» الذي فاجأنا بمهاراته الكوميدية التي فجرها عبر الشخصيات المتعددة التي أداها، دون أن يجور على حق أحد من الشباب المشارك له في العمل.
إن تقديم هذا العرض بفرقة مسرح الشباب يؤكد ويرسخ وعي الفرقة وإدارتها بطبيعة هوية الفرقة التي تتوجه بعروضها لكل الفئات وتضع الشباب منهم واهتماماتهم في المقام الأول، وقد نجح العرض في مخاطبتهم عبر لغة الفيسبوك القريبة من وجدانهم فكانت مفردات مثل (فيس، شير، تويت، داون لود... إلخ) تتردد على أسماع المشاهدين طوال الوقت