بيان فرقة الشظية والاقتراب

بيان فرقة الشظية والاقتراب

العدد 598 صدر بتاريخ 11فبراير2019

مساحة اقتراب
كعادة فرقتنا دائمًا.. البحث عن الموضوع وصولاً إلى النص/ العرض، وعلى هذا الطريق دائمًا يقلقنا في البدء على ماذا نعمل الآن؟ أو ما الذي نريد الحديث فيه الآن؟ ثم يأتي في النهاية جدًا تساؤلنا حول الكيفية التي نلعب بها.

1991 – 1992:
عندما كان الناس من حولنا ينظرون إلى مدريد”، فإننا بصورة شيكسبيرية في عاصفة صحراوية – كما نرى العالم كأعمى يسحبه مجنون وفي هذا التوتر وجدنا إشارة في لوحة “العميان الستة” لبيتر بروجل، ورأينا هذه اللوحة أكمل تمثيل لفكرة موضوع ما لم نستطع فهمه حولنا، ومن ثم باتت هذه اللوحة مادة أول عروضنا مع كل عقبات البدايات، وكان هذا العمل مواز لنص “العميان” لميشيل دي جيلدرود من مسرح القرن العشرين، وصارت “العميان” أولى شظايانا.

1992– 1993:
عندما كانت الشظية الثانية، كان الاقتراب أكثر من سؤال من نحن؟ وهل حضارتنا أحادية المصدر؟ وعندما بحثنا عن إجابة.. وجدناها في قرية صغيرة تقع فوق إحدى جبال المنيا بجمالياتها وأساطير طقسها السنوي المثير، لقد كانت محاولة صغيرة جدًا تحولت في النهاية إلى أربعة مشاهد قدمت تحت اسم “دير جبل الطير”.

1995 – 1996:
بعد عام من التوقف.. وفي نظرة لوضعنا الجماعي كفريق، وبحثًا عن مقابل لحالتنا، كان العالم من حولنا في هذه اللحظة ينظر نحو “أوسلو”، كما نطل على هذه الأحداث بوعينا البدائي البسيط وربما بسذاجات رومانتيكية تمامًا كأهل الكهف -، وعندما كتب أحمد يماني نص شعري بعنوان “يوتوبيا المقابر” وقرأنا قصيدته، وجدناها آنية جدًا وجماعية جدًا. ثم لمعت الفكرة التي ارتكزنا عليها بعد ذلك، وقطعنا طريق تسعة شهور بعد عام من التوقف – برفقة عالم القصيدة وارتجالاتنا الممستنبطة من هذا العالم، إلى أن أدى بنا الطريق إلى عام 1939، وكهف توفيق الحكيم، كان لنا فرصة النظرة المختلفة لهذه القطعة الكلاسيكية في مسرحنا مع الحفاظ على جوهرها ويقين صدقها الفكري، وكان تداولنا لهذه الأمثولة الميثولوجية موسيقى، راقص، شعري، وتعبيري لأقصى حدود استطعنا تلمسها حينئذ، كمحاولة لكسر قتامة الكهف/ القبر، وكأن الشكل هو اليوتوبيا والموضوع هو الكهف، وكان أن خرجت “بريسكا 11 والخروج من الموت نهارًا”.

1996:
في محاولة أكثر راديكالية قليلاً للنظر في كل كلاسيكيات القرن العشرين المسرحية، التقطنا إحدى اللقاءات البنترية الثرية للغاية لذواتنا ولحالتنا الاجتماعية ومجتمعنا اليومي وهي “الأيام الخوالي” لهارولد بنتر، وذلك في ترجمة عامية عصرية أنجزها محمد متولى لتكون لصيقة بعالمنا وبحياتنا اليومية وبالنص، هذا بموازاة قلق خاص بجماعتنا يتمثل في تطوير تضمينات بنتر السينمائية، فكان العمل على فيلم “عاشت حياتها” لجودار بدلاً من اختيار بنتر المتمثل في “الرجل الثالث” لأورسون ويلز، وذلك تأكيدًا على أن حنين الآباء للأربعينيات غير حنين جيلنا الدائم للستينيات وثوراتها، وهو حنين ملح بصورة مرضية.. وكأنه بمثابة حلية وضعت خلف آذاننا واستجبنا لها استجابتنا للنشيد الوطني والآذان وتحية الصباح.

1997:
لقد تعلمنا من بنتر درسًا عن الزمن وكيفية النظر عبر النص إلى عالم جماعتنا الصغيرة، وبينما نحن في ذلك كانت الأرض من حولنا تغرق في ردة تخص العصور الوسطى، ورياح مواجهات عنيفة ضارية بين حملة تراث الأسلاف وقانون الحياة اليومية الذي يدين ببقائه ومستقبله للحرية والعلم، وهذا العم الاجتماعي التقطنا في نصر مسرحية “ساحرات ساليم” وفي تصور بسيط واستقراء عملي.. عملنا على تحويل قطعة آرثر ميللر ذات الشكل الواقعي إلى مسرحية محملة بهموم آنية، وبشكل شكسبيري مفتوح عبر قراءة لا تلغى نص ميللر لكن توازيه وتعيد ترتيبه، وكان أن قدمنا “أباساديا.. والقدم اليسرى لليل”.

1998:
وعلى طريقة التعامل مع كلاسيكيات قرننا العشرين، كانت بداية رصدنا المبدئي لظاهرة العنف، ورأينا في أولى حلقات ثلاثية لوركا التراجيدية “بيت برنارد ألبا” تلك القطعة الشعرية أحادية النظر كعادة الرموز الميلودرامية، قطعة قابلة للتطوير والتحويل لعمل جماعي يلقى العدسة على كل المنتمين لعالمه دون تحليل فردي موجه برمزية شعرية وتحولت “برنارد ألبا” إلى تحليل عصري مبسط للجنس كباعث للعنف في مؤسسة الأسرة المضروبة حديثًا في مجتمعنا وكانت “بنات برناردا”.

1999:
منذ العصر الحجري والروماني والعصور الوسطي والحروب الصليبية.. وقرننا العشرين، كأن هناك إلهًا يدير العالم ويشاهده من بعيد ولا يرغب في أدني شهرة.. إله الذباب.
الخنزير القطبي كثيف الشعر المسلح حتى شعر فروته وشواربه، يمارس رياضة التزحلق بزحافات عرقية، ويسيل شعبًا للدماء التي تهدر وتجف في شقوق الجبال أو الأحراش الحدودية بحثًا عن وجود. إله العنف الذي يبتسم منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا في صمود.. وأناقة تكنولوجية.. وتخزين ستالايتي للجميع.
وتبعًا للبحث عن قرارات مسرحية لآليات العنف عبر كلاسيكيات مسرح قرننا المنصرم، بحثنا كثيرًا قبل “لير” عن تمثيل للعنف المباشر النابع من صعود آلية التسلح والسلطة المكتسبة للقوى التدميرية والرعب التكنولوجي المتناسب طرديًا مع تفتيت بنية العالم إلى نتواءت عرقية ملتهبة في صراع دموي وكأنها حقًا نهاية التاريخ، تأتي “لير” لبوند كأول مسرحية نعمل على تقديمها كما هي دون تدخل منا، وكأول عمل لإدوارد بوند على خشبة المسرح المصري في حدود ما نعلم.

الشظية والاقتراب:
لير والشظية و... اقتراب
ينمو الإنسان ويتطور من خلال تكوين خبراته.. هذه الخبرات عبارة عن معلومات يفرزها التفاعل بين: البيئة، الفرد، المهمة. وإذا كنا نحن الشظية والاقتراب كيانا يجمع أفرادًا فإننا تلاقينا عل تشابه ما بيننا تجاه واقعنا الذي نعيش، وأصبحنا جماعة تتطور من خلال تكوين خبرات عبارة عن معلومات يفرزها التفاعل بين البيئة، الجماعة، المهمة.
من خلال هذه الروافد الثلاثة سنتيح اقترابًا أكثر، خاص بظروف هذا العمل المسرحي مصحوبًا بما يعتمل فينا كأفراد جماعة مسرح الشظية والاقتراب.
ففي صيف 98، كانت بيئتنا الحولية تستفزنا للدخول في مناقشات مع أنفسنا والآخرين موضوعها العنف، وقد بحثنا أولاً في العنف الاجتماعي ثم وجدنا أنفسنا ننصب في العنف السياسي، بعد ذلك اكتشفنا أنه من البديهي أن تصب كل أشكال العنف في العنف السياسي لأن ذلك أصبح ظاهرة تتسم بها سنوات قرننا المنصرم في وداعه لنا ببحيرات من الدماء وتلال من العظام والجماجم وغذاء للقبور من جثث ضحايا هذا العنف السياسي. وتبعًا للبحث عن قراءات مسرحية لآليات العنف عبر كلاسيكيات المسرح عن تمثيل للعنف المباشر النابع من صعود آلية التسلح المكتسبة للقوى التدميرية والرعب التكنولوجي المتناسب طرديًا مع تفتت بنية العالم إلى نتوءات عرقية ملتهبة في صراع دموي، وكأنها حقًا نهاية التاريخ.. كان شكسبير ومعاصره مارلو هما المنبع أو الملجأ لكثير من المسرحيين حين يتعرضون لهذه المواجهة مع موضوع العنف. كم فهما هذان المسرحيان العظيمان حركة التاريخ ودموية الإنسان!! – لكن كانت الترجمات العتيقة حائلاً دون ملاحقة هذا التراث المسرحي الذهبي لثقافتنا المسرحية، التي تحتاج أن تتطور بما يتناسب مع المسرح العصري.
لهذا السبب اتجهنا لأن نتحدث عن نفس الموضوع بلغة عصرية لزماننا المعاصر، وكان أن وجدنا مسرحية “لير” للكاتب الإنجليزي إدوارد بوند، التي كانت بالنسبة لنا اكتشافًا في عالم الكتابات المسرحية الجريئة الملتزمة بالبعد الكوني والإنسانية والمتحررة من إرث الثقافات الإقليمية والمتعمقة في قضايا تخص العالم بأجمعه، حيث بناء النظرة للتاريخ واللحظة المعاشة فيه بوعي تحليلي أعمق، كل ذلك بلغة شعرية شكسبيرية، أو بمعنى أدق ما بعد شكسبيرية (من حيث أنها عصرية)، وكان هذا النص اكتشافًا مهد لنا الطريق نحو موضوعنا الملح: إذا لم يتحدث المسرح عن العنف، وعن تشوهاتنا.. فعن ماذا يتحدث؟.
وللإجابة على هذا السؤال، ففي رأينا – وقد أخذنا بضعة سنوات نستوعب هذا الدرس – فإنه:
* عفوًا للاستاطيقا.
* المجانية في المسرح..
* عفوًا لارتجاليات الخيال
* البعيدة عن واقع عالمنا..
* عفوًا لاحتلال الفلكلور
* لخشبة المسرح..
وكلمة جماعة التي ننعت بها.. هي في حد ذاتها تصنيف سياسي بشكل ما، لقد أخذنا وقتًا طويلاً لتحليل كلمة “جماعة مسرح”، وتأكد لنا عدم انفصال المسرح – كفن ومؤسسة ووسيط ووسيلة مشروعة للتعبير – عن السياسة، والمجتمع، بل إن المسرح بصورة مثالية – قد يكون أول الصور الطبيعية التي تتشكل في ذهن أي فرد إذا ذكرت كلمة مجتمع أو كلمة سياسة.
والمسرح هو رحم في جسد المجتمع.. فإذا كانت ولادة الطفل عملية ملحة وآنية لحظة اكتمال نضج الجنين، فكذلك العمل الفني المسرحي حيث تكون مهمة الطرح آنية وملحة من خلال جدل حي ومعاش إلى الناس عبر عالمهم والأحداث التي تغير حياتهم. فلا شك أن الكوارث السياسية المحيطة بنا سواء في الشام أو البلقان أو شرق آسيا أو أفريقيا أو في القوى العظمى تؤثر في كل فرد أثرًا مباشرًا في مجتمعنا.. وأمام كل هذا نجن مجبرون أن نفتح مجتمعنا لنندمج مع المجتمعات الأخرى، فكل حدث يقع في أبعد نقطة على الأرض نتأثر به وكأنه فينا إنه تحد لا بد منه.. ولا بد أن نطور قدرتنا في فهمه واستيعابه ومن ثم التأثير عليه..
هذا الجدل الذي علينا أن نطرحه على المسرح بصورة حية لأنه معاش إلى الناس عبر عالمهم علمنا درسًا رائعًا: إن قليلاً من التقنية يخدم الفكرة والاتجاه ويكسب الموضوع عمقًا في داخله، وذلك من خلال ألا نعتبر التقنية رفاهية.. بل باعتبارها أنها اللغة المنوط بها أو الموكل لها تفعيل التجربة واتمامها، ولا بد من دراستها بوعي، لقد أصبح لدينا الآن خبرة ما في توظيف التقنية بدرجة مناسبة.
لقد رأينا في مسرحيتنا كيف نعيش كبشر في عالم من العنف السياسي في الأوساط العالمية مثلما رأينا كمسرحيين كيف نعيش في عالم من العنف السياسي في وسطنا الثقافي.
ووسط قلق البحث عن هوية ثقافية وترسيخ مضمون ثقافي في مقابل استهلاك أشكال وقوالب مسرحية ليست نابعة من ثقافتنا. هذا الموضوع الضخم هو قضية ثقافية معاصرة في مسرحنا. فإن البحث في شكل مسرحي ينم عن هوية ثقافية نابعة من ثقافتنا التي هي مصدر تراثنا، تاريخنا، حياتنا اليومية لهو أمر يتطلب التحرر من القوالب الإنتاجية المعقدة تعقيدًا شديدًا يصعب معها حتى أن تفكر اللهم إلا أن تفكر في حيل ورقية ومهارات الحصول على موافقات وكفاح في استخراج وثيقة وكوماندوز للتعامل مع الاحتلال الوظيفي للإبداع.
هذا الاستيطان الوظيفي يتيح لهذه الطائفة الوظيفية أن تفعل في الإبداع فعلة نجمة البحر في الشعب المرجانية فتحول الروعة الجمالية في أشكال فطرية وألوان إلى صحراء صلبة.
نحن في حاجة إلى نظام إبداعي وسياق إنتاجي للعمل على هذه المصادر:
تراثنا، تاريخنا، حياتنا اليومية. هذا السياق ليس متوفرًا لفرقتنا ولا لأي فرقة ممن يعتمدون في تمويلهم ووجودهم على المؤسسة بوضعها الحالي. ربما تتغير مادة عملنا ومصدرها حين يتطور النظام الإنتاجي.
وإذا كان هناك سؤال: لماذا استقينا مادة عملنا من تراث المسرح العالمي الجديد؟ ولماذا هذا المصدر الإنتاجي؟ ببساطة.. لأنه نص مكتوب، مضمون كحقيقة جوهرية لعملنا ومنتجنا وجمهورنا، ومتحقق ذاتيًا ومعترف به لمنتجنا وجمهورنا.. ملزم لكل أطراف اللعبة بتنفيذه.
ولماذا الهناجر؟ لأنه المكان الوحيد في مجال المسرح الذى يتمتع بهامش حرية وقدر عالٍ من الوعي الإنتاجي.
يجب أن يتطور النظام بجانب الأفراد في أسلوب الإنتاج والتعامل الفني، ويتحرر لصالح الفن والفنان إذا أردنا ثقافة، ويجب أن يستقل.
أما عن صورتنا الآن كفرقة حرة.. فنحن كالفرق المسرحية الأخرى.. بشر بلا وطن.. نقتات على المساعدات، يذبح مننا الكثير كل يوم منتظرين أن نوهب حق اللجوء.
في الحقيقة لا فرق بين مشوهي ومنكوبي وسفاحي عالمنا المسرحي وبين مشوهي ومنكوبي وسفاحي عالمنا السياسي الذي نحيا فيه.


كاتب عام