«الطوق والأسورة» مسرح طقسي يتغلغل بعمق في جذور المجتمع المصري

«الطوق والأسورة» مسرح طقسي يتغلغل بعمق في جذور المجتمع المصري

العدد 597 صدر بتاريخ 4فبراير2019

الفقر والجهل والمرض، ثلاثي لا ينفصل، هم آفة المجتمعات المتخلفة أو التي تحتاج طريق التنمية لتصعد من القاع والمستنقع الذي تعيشه إلى سطح العلم ونور المعرفة للتغلب على مشكلاتها الاجتماعية والبيئية، وارتبط هذا الثلاثي المرفوض بتقاليد وموروثات شعبية تعمل على تفاقمه وليس على التخلص منه، فما زالت سيطرة الجهل على العقل البشري في المجتمعات الفقيرة تؤدي إلى تغييب العقول والتمكن من ضعاف النفوس ليزداد المجتمع تخلفا وفقرا وجهلا.
“الطوق والأسورة” هي إحدى روائع الكاتب الكبير يحيى الطاهر عبد الله، تناول فيها تلك القضايا الاجتماعية عن قرب في مجتمع الصعيد المصري وبالتحديد في الأقصر، حيث نجد مجتمعا خاصا متفردا في عاداته وتقاليده، وكذلك في بعده عن التحضر والتمدن وقد انغلق على نفسه وسط مجموعة موروثات عقيمة، أعدها للمسرح الكاتب د. سامح مهران وأخرجها الفنان ناصر عبد المنعم، حيث فاز العرض عام 1996 بجائزة مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، وتم إعادة العرض في نفس المهرجان عام 2018 في مسرح السلام، ثم فاز مؤخرا بجائزة مهرجان المسرح العربي عام 2019 بعرضه في مسرح البالون.
يبدأ العرض في أحضان الجمهور حيث استغل المخرج خشبة المسرح لجلوس الجمهور عليها ليحيط بمنطقة التمثيل من الجانبين وكأنها قاعة صغيرة للعرض، تتشكل مساحة التمثيل بشكل طولي فنرى على أحد الجانبين واجهة منزل ريفي تجلس أمامه الأم (حزينة) التي تدير الرحى حتى وإن كانت فارغة بشكل آلي ومستمر في إشارة لديمومة الحال القاسي الذي يعيشونه، وتجلس بالقرب منها ابنتها (فهيمة) أمام طشت للغسيل حيث تتحرك أيضا بأسلوب بطيء ومتكرر ساهمة في حزن، وقد تناثر حولهما بعض موتيفات ريفية مثل الزير والقفة، ويرقد بالقرب منهما زوج حزينة المشلول والمصاب بالسل، أسرة فقيرة بائسة، بينما يقف في الجانب الآخر ثلاثة رجال في زي صعيدي وبالمواجهة لثلاث فتيات حيث يعبرون عن جوقة معلقة على الأحداث طوال العرض. تحلم فهيمة بالمستقبل والزواج بينما تنتظر حزينة ابنها مصطفى الغائب في السودان للبحث عن لقمة العيش، ثم يموت الزوج بمرضه، ثم تتزوج فهيمة من الحداد الذي يكتشف ليلة الزفاف أنه عاجز جنسيا فتتأخر فهيمة في الإنجاب فتلجأ أمها إلى المعبد ليباركها الشيخ ويختلط الإيمان بالفساد، ويأتي الحل على يد حارس المعبد نفسه، فتحمل وتنجب المولودة التي لا يعترف بها الأب لعلمه بعجزه جنسيا، فيطلقها ولإثبات رجولته أمام أهل البلدة يعمل على الزواج من ابنة الصياد، ويصل أحد زملاء مصطفى الغائب حاملا نقودا وهدايا لحزينة وفهيمة فتلمع في ذهن حزينة فكرة محاولة اقترانه بفهيمة التي تنظر إليه أيضا بإعجاب وتشتعل رغبتها نحوه وكذلك هو لكنه ينصرف دون تقدم، في حين يعجز الحداد مرة أخرى في زيجته الجديدة فينتحر مشعلا في نفسه النيران، ثم تمرض فهيمة وتموت نتيجة علاجها بشكل بدائي، ثم ينتهي العرض بمشهد بعد مرور عدة سنوات وقد كبرت ابنة فهيمة وهي تلعب وتلهو فرحة بالحياة.
القصة أعدها جيدا للمسرح د. مهران من خلال مشاهد قصيرة متقطعة ومتلاحقة أشبه بالمونتاج السينمائي، نسجها المخرج ناصر عبد المنعم برؤية موسيقية لجمال رشاد، بعمق تراثي استخدم فيه المخرج مظاهر وأشكالا تراثية عدة، حيث يبدأ العرض من خارج قاعة المسرح برقص التحطيب وعزف الآلات الشعبية، ثم يقوم بتوظيف الغناء الشعبي الموروث طوال العرض بدلالاته المختلفة للإشارة للأحداث أو التعليق عليها، وكان من ذلك أيضا توظيف الموال النوبي الموروث في عدة مواقف درامية للتعليق على الأحدث حيث أحسن المخرج فيها اختيار كلماتها الموحية والمعبرة. وعلى صعيد الطقوس عمد المخرج إبراز عدة طقوس شعبية منها ما هو مستحسن مثل طقس الفرح والرقص والتحطيب، وذلك في فرح فهيمة والحداد، ومنها ما هو مستهجن فعمل إلى رفضه بالجدل معه والمناقشة مثل الكثير والنواح على المتوفي حينما مات الزوج البشاري، وصبغ الخرافات والحكايات الخيالية على رجال الدين مثل (الشيخ الفاضل) الذي يحكون عنه المعجزات، واللجوء للمشعوذين والخرافة والدجل وذلك في مواقف مثل لجوء حزينة وفهيمة للشيخ الدجال كي تحمل، وأيضا لجوؤهما للأسلوب الشعبي لعلاج فهيمة من مرضها الذي أدى بها إلى الموت في النهاية. ونرى في ذلك أيضا خبرة وبراعة المخرج في توزيع مناطق التمثيل بين المواقف المختلفة وأسلوب تشكيل ووقفات الممثلين وحركاتهم على مختلف أجزاء المسرح بشكل سينمائي متنوع بين مختلف الممثلين والجوقة والعازفين والغناء. وصاحب كل ذلك توظيف مؤثرات صوتية تحمل دلالاتها مثل صوت الكروان في البداية الذي تلتفت إليه فهيمة داعية معه “الملك لك لك”، وكذلك صوت الغراب الذي يرمز للشؤم عدة مرات أثناء العرض في مواقف درامية مختلفة.
على مستوى الشكل أيضا كان الديكور الذي صممه (محيي فهمي) بسيطا ومعبرا عن بساطة الحياة البدائية التي تعيشها تلك الأسرة البائسة من خلال تشكيل سينوغرافي مختلف باستغلال مساحة التمثيل بشكل طولي ينقسم من خلاله الجمهور إلى شطرين حيث وضع في أحد الجوانب ديكور ثابت لمنزل حزينة الريفي البسيط في شكله وألوانه، في حين نجد في الجانب الآخر تغير المنظر تبعا للمشهد أو الموقف، ففي البداية نرى تمثالا فرعونيا ومسلة يعبران عن معبد فرعوني في دلالة على عمق الأفكار المطروحة في جذور تاريخ المجتمع المصري، يتبدل إلى دكة في مشهد العرس لتستمر لنهاية العرض بتعدد الاستخدام لكنها تشبه التابوت للدلالة على أنها مكان وأد الأحلام ونهاية الحياة لما يدور عليها من مواقف لا سيما زواج فهمية والحداد وحياة فهيمة الباقية حتى مماتها بالمرض.
أما الملابس لنعيمة عجمي فكانت شديدة الواقعية معبرة عن خصوصية مجتمع الصعيد وعن دلالات الشخصيات والأحداث لا سيما حزينة التي ارتدت السواد طوال العرض لبيان عمق الحزن الذي تعيشه دائما والذي سميت باسمه، كما ارتدت فهيمة اللون الأحمر في بداية العرض وقبل الزواج للدلالة على تفاؤلها ببهجة الحياة والمستقبل حتى تزوجت وارتدت فستان العرس الأبيض، وبعد ذلك تبدل إلى السواد تعبيرا عن حزنها وآلامها في زواجها، وانتقلت بعدها إلى اللون الأزرق بعد طلاقها وإنجابها لابنتها حورية أملا في مستقبل أفضل.
جاءت الإضاءة أقرب للطبيعية دون إبهار أو ألوان لا داعي لها كما اعتدنا من المخرج ناصر عبد المنعم الذي قدم إنارة خاصة بذكاء وخبرة شديدين ساعدت على تعايش المتفرج مع الحالة الدرامية والمسرحية المطلوبة وعمق التأثير.
لم يكن الأداء التمثيلي بعيدا عن تلك المعزوفة المتمازجة حيث أجادت فاطمة محمد علي في دور حزينة ببساطة ودون مبالغة، حيث أبرزت انفعالات الشخصية معبرة بوجهها عن حزنها الدائم وما تعانيه من هموم الفقر ومرض زوجها ومصيبة ابنتها. أما مارتينا عادل فقد برعت أيضا في أداء دور فهيمة بتلقائية وكذلك محمود الزيات في دور (البشاري) الزوج المريض بالسل والمشلول حيث أجاد التعبير عن إحساس الشخصية ببراعة، كما كان نائل علي مقنعا في دور الحداد وأضاف إليه عمقا دراميا بحسن أدائه، كما شارك في تلك المعزوفة جميع الممثلين الذين اختارهم ناصر عبد المنعم بعناية وأجاد كل منهم في دوره؛ محمد حسيب (الشيخ الفاضل)، أشرف شكري (الشيخ العليمي)، وأحمد طارق (مصطفى – عبد الحكم) وشريف القزاز وشبراوي محمد وسلمى عمر وريم علي وفرح عناني، وغنا رضا (الطفلة حورية)، كما أمتعنا بالغناء وحلاوة الصوت والأداء كرم مراد.
العرض حالة تراثية شديدة التعمق في جذور المجتمع النوبي من خلال الموروثات الشعبية بالغناء والرقص واستعراض المظاهر التراثية الكثير لبيان تخلف الفكر نتيجة الجهل الذي يستتبعه تفشي المرض وتفاقم الفقر، نسج خيوطها المخرج ببراعة وإتقان ووعي بقضايا وفكر ومشكلات الجنوب المصري، تلك الموضوعات التي تتغلغل في الجذور منذ مئات بل وآلاف السنين ولم تنقضِ حتى الآن رغم التقدم والعلم الذي يعيشه العالم وليس ببعيد عن المجتمع المصري، لكن العرض يبرز ابتعاده عن الكثير من المجتمعات المحلية شديدة الخصوصية سواء في الصعيد أو الريف الشمالي وفي المجتمعات البدوية أيضا، كما أنها أيضا ليست بعيدة عن عمق التفكير في المجتمعات الحضرية في عقول الكثير من الناس لكنها تختبئ خلف أشكال التمدن المختلفة وتظهر حين الحاجة في مواقف مختلفة.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏