عبد الرحمن بن زيدان: المسرح المصري رائد الكتابة عن القضية الفلسطينية

عبد الرحمن بن زيدان: المسرح المصري رائد الكتابة عن القضية الفلسطينية

العدد 584 صدر بتاريخ 5نوفمبر2018

الناقد والكاتب المسرحي د. عبد الرحمن بن زيدان الأستاذ بكلية الآداب جامعة المولى إسماعيل بمكناس بالمغرب، وله الكثير من المؤلفات والنقد المسرحي كان آخرها (رهانات المسرح المصري: المعنى والسؤال) كان ضيف مهرجان القاهرة للمسرح المعاصر والتجريبي في دورته الفضية الماضية، حيث شارك في المحاور الفكرية المصاحبة ببحث بعنوان (التجريب المسرحي في العالم بين المنفتح والمنغلق). فكان لا بد لنا أن نتحاور معه حول أهم قضايا التجريب في المسرح العربي.
 كيف يقودنا التجريب في المسرح العربي؟ هل ينجرف نحو التغريب أم يهوي في هوة التقليد؟
  إن المسرح، أي مسرح، لا يمكنه أن يغير طريقة اشتغاله، ويغير علاقته بمرجعياته، ويعرف كيف يفهم ثقافته، ويعرف عمق معرفته المكتسبة، إلا إذا امتلك المعرفة، والأدوات التي تمكنه من أن يبدع رؤى جديدة لمسرح جديد للتخلص من كل انغلاق محكوم بثوابت هشّة بها يتمسك بكل ما هو متجاوز. ستكون النتيجة الحتمية لكل انغلاق أن هذا المسرح سيبقى يعيد ما قاله، وما صنعه، وما قدمه لتكون التكرارية آفة من آفات انغلاقه، وتكون محدودية معرفته تكريسًا لكل ادعاء يدافع على دعوى التأصيل، والحفاظ على الأصول. مسرحنا العربي ومنذ ظهور بوادره الأولى مع مطالع القرن العشرين إلى الآن وهو يسعى إلى تجديد ما يمكن تجديده من معرفة، مرّة بتراثه، ومرّة بنقل تاريخه إلى زمن الكتابة المسرحية، ومرات كثيرة يريد بلورة وعيه بكيفية فهم التراث العالمي مسرحيًا لإدماج بعض مكوناته في التجربة المسرحية العربية بغاية تطوير أشكال إنتاج التجربة أو تعديل التجارب الموجودة لتكون منتمية إلى الخصوصيات العربية، موضوعًا، وبنية، ورؤية. إن الذي يرفض التجريب هو من يجرب الرفض دون دراية، وعلم، ومعرفة بالجدوى الحقيقية من دور التجريب في التغيير لتجاوز من يسعى إلى تكريس الانغلاقية، والتكرارية في المسرح. لقد كان الكتاب المسرحيون في الوطن العربي يجربون كتابة النص الدرامي ليكون نصًا مسرحيًا كل خصائصه تدل على بحث، وتدل على تنقيب معرفي عن المفردات التراثية، والمعطيات الواقعية التي سيتم تجريبها لبناء هذا النص حتى يكون ملائما لكل التطلعات التي تنطلق من التجريب. إن هذا المسرح انطلق في تأسيس وجوده من فراغ معرفي نتيجة غياب تجارب سابقة بعد ظهوره ورواجه بالصيغة الغربية، وانطلق - أيضا - من غياب نظريات يمكن الاستهداء بها لتطوير الموجود وتأسيس الغير موجود بتجريب في الكتابة النصية وفي الإخراج المسرحي،  لكن الفراغ تحول إلى امتلاء معرفي بخصوصيات تكوين الظاهرة المسرحية العربية نتيجة انفتاح بعض المسرحيين على التجارب المسرحية الغربية، فشرعوا في استنبات الجديد بالتجريب المسرحي، وبدأ هذا التجريب ينجح في إيجاد تجارب مغامرة في الإبداع المسرحي حيّرت المحافظين المدافعين على ثوابتهم. إن المسرح العربي قد تغير تغيرًا ملحوظًا بعد أن صار يعرف كيف ينفتح على تجارب المخرجين في الغرب، ويعرف كيف يعرّب نظرياتهم. إن من يتحمل مسؤولية كل انحراف، ويتحمل نتائج كل تقليد أعمى عاقر لا يلد الجديد، هو من يقف في وجه كل تطور معرفي فيقود المسرح العربي نحو اللبس، وهؤلاء يمثلهم المسرحيون الذين يجربون دون معرفة بقواعد التجريب كون منطلقاتهم، وفهمهم، ومعرفتهم بهذا التجريب لا ترقى إلى عمق النظريات التي أسست لكل منظور يهدف إلى فتح آفاق جديدة على العلوم الإنسانية بكل تنوعها، وغناها، وأسئلتها وأجوبتها.
 الجسد الفني وبناء جمالية العرض المسرحي

هل أصبحت لغة الجسد لدينا هي المعبر الوحيد فقط عن انتماء العرض للتجريب؟
هذا لدى من يريد أن يبني العرض المسرحي ويقدم جماليته المرئية على مكون واحد يختاره، ويركز عليه ليعطيه سلطة مطلقة في العرض بالعلامة الواحدة، أو اللغة الواحدة، واللعب المسرحي المحدود الأفق، المسرح لا يشتغل بعلامة واحدة تكون هي أساس بناء المشاهد، ولا تتحرك جمالية العرض بتحريك عنصر واحد هو الجسد، لأن الجسد الفني - كعلامة - له حضور حيوي في جمالية الفرجة لا يمكنه أن يشتغل بمعزل عن انسجامه مع علامات أخرى. إن كل ما يلغي النص المكتوب للمؤلف بدعوى التجريب المسرحي، ليحول المسرح إلى فرجة تقوم - فقط - على بلاغة الجسد، ويعطيه المكانة الأولى، والدور الأول في العرض إنما يراهن على تجريب محدود في بناء الصورة على حساب عناصر أخرى يتم تغييبها، أو تقزيم فعالياتها، حتى يبقى هذا الجسد الناطق الرسمي بدلالات ما يريد أن يقوله العرض كعلامة تزرع الدهشة في بلاغة الصورة. إذا كان المسرح هو هذا الكل المتحرك بكل العناصر التي تحركه بمختلف اللغات والعلامات فهذا يعني الرهان على إنتاج جمالية الانسجام بين نص المؤلف ونص المخرج اللذين يؤالفان بين القيمة الرمزية للكلمة والقيمة البلاغية لبلاغة المشاهد دون أن تخصص عنصرًا واحدا سيكون وجوده على حساب عناصر أخرى. في التجارب المسرحية الغربية صار الجسد مكتوبًا بالخبرة التي تهيئه فنيًا ليكون فنًا جميلا يتحكم في قدراته ومؤهلاته ليكون المتحرك بمعرفة خبايا الجسد وما يملكه من أسرار يمكن الكشف عنها أثناء التمثيل بالاستعانة بالكثير من العلوم التي تهتم بالإنسان، ونفسيته، وهنا يكمن الفرق بين المعرفة بالقيمة الإنسانية، والجمالية، والنفسية، والوظيفية العضوية لهذا الجسد الذي يساهم في إعطاء المتعة للمتلقي، وبين من يدمج هذا الجديد في العرض دون معرفة بعالم الجسد الذهني والعقلي، وحين يعتبر بعض المخرجين في التجربة المسرحية العربية أن معبرهم الوحيد والأوحد هو الجسد لامتلاك صفة التجريب بإدماج هذا الجسد كعلامة في العرض فإنها ستصير خارج السياق، أو أنها تصير في العرض شرودًا ظاهرا لا يمكن نفيه، ولا يمكن إغماض عين التلقي عن رؤيته، ولعل هذا ما جعل السؤال النقدي يطرح حول معنى التعامل مع الجسد بهذه الصيغة كعلامة تزين العرض وليست لتوسيع دلالات العرض بشكل منهجي نقول عنه إنه عرض يتوفر على انسجامه الدلالي بكل علاماته ومن بين هذه العلامات الجسد الفني.إن ما يجري من تجريب في المسرح الغربي لا يمكن - بتاتا - أن يصير نموذج التجريب في المسرح العربي، ولا يمكن نقل تجاربه واستنساخها ولصقها في التجارب المسرحية العربية، لأن الغرب يعيش جدلية الحوار بين كل مكوناته، ويعيش القطائع، والأخذ، والعطاء، ونفي التجارب، وقبولها، وهدمها لتكوين المفاهيم المجدّدة للمفاهيم.

 التجريب المسرحي والرهان على تحويل ما يمكن تحويله

 - هل يوجد فعليًا تجريب في الكلمة؟
التجريب مفهوم علمي مرتبط بالمختبرات، له صلات قوية بالبحث العلمي، وبتشغيل النظريات العلمية بغية تطويرها، وتجديدها، وتنويع اشتغالاتها حتى تسهم في تطوير الفكر العلمي بما يخدم تجويد الخدمات، والإنتاجات ذات العلاقة بما هو إنساني، ومجتمعي، وتكنولوجي، وعلومي، ولعل انتقال هذا المفهوم إلى المجال الأدبي والفني لزرع آليات الاشتغال بمفهوم البحث، والتحليل، والتركيب، وإصدار النظريات، هو الذي وضع هذا المصطلح في رهان مع المعاني المتداولة حول محدداته، وحول ما منحه وضوحه وجلاؤه من منهجيات صارت معها كل الأجناس الأدبية، والفنية.
 إن التجريب ظلّ حاضرًا في كل العمليات الإنتاجية للشعر، والرواية، والمسرح، والسينما، لكن مفهومه يختلف باختلاف المجربين، وباختلاف ما ينتجونه من نتاجات، لكن مصطلح (تجريب) صار أكثر حضورًا في الزمن المسرحي العربي لا سيما بعد سنة 1988 مع مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي الذي لم يقتصر في كل دوراته على ترويج العروض التجريبية الغربية، وترويج النظريات، والمناهج النقدية ذات العلاقة باختلاف المفاهيم حول هذا التجريب، لكن استسهال تحديد مفهوم التجريب عند البعض نظريًا، واستسهال تقديم عروض تريد أن تنتمي إلى عوالم هذا التجريب بهذا الاستسهال جعل الخلط ينتج السطحية أكثر ما يقدم ما يفيد المعرفة الحقيقية واستخلاص العبر والدروس من التفاعل وحوار الحضارات ويخدم المسرح العربي، ويدعم مسيره التجديدي الذي يجرب في كتابة النص، ويجرّب في كتابة نص الإخراج، وفي السينوغرافيا وفي الارتقاء بمستويات التلقي إلى مستوى التذوق الجمالي لجمالية العرض المكتوب بالواقع، وبالتراث، وبإخراج هذا التراث من متحفيته الصامتة لينطقه التجريب بالدلالات المعاصرة للعالم المعاصر كما فعل التجريب المسرحي في الغرب الذي أعاد تقديم هذا التراث المنتمي لثقافات كثيرة.
 التجريب والبحث عن الموقع المحتمل للمسرح العربي

 - إذا كان العالم نظّر للمحاولات التجريبية على مستوى العالم منذ عشرات السنوات فأين نحن من هذا الآن؟
إن تثمين الإنتاج المسرحي، وتقويمه، وفهمه، وتفسير ما تحمله مكوناته من دلالات، لا يمكن أن يتم موضوعيًا إلا بعد مشاهدة العروض التجريبية العربية وتحقيق تراكم حقيقي في تلقيها. قد يكون هذا التجريب استجابة حقيقية لضرورات فنية واجتماعية وسياسية كلها تلح على أن يصبح هذا المسرح قادرًا على تكوين بنيته ليكون منغرسًا في ثقافته، وقد يكون هذا التجريب تقنيات، ومفاهيم تدفع بهذا التجريب كي ينتج عوامل موضوعية محركة للتغير في بنيات العرض، والرؤية للعالم.     إن العالم لا يتطور بعوامل الانغلاق، ولا يتحرر تحررا حقيقيا إلا بالمشاريع التي تتحقق وتضمن إنجاز ما يراد ترسيخه لبناء المجتمع ببناء الإنسان بما يضمن له حريته في التواصل، والتعبير الحر، والإبداع دون مصادرة ما يسلبه مقومات وجوده. أما الوطن العربي الذي يتم فيه إجهاض مشاريع النهضة، فإنه يعيش على إيقاع ضرب الفكر والمفكرين، والثقافة والمثقفين، وتغييب ثقافة المحاسبة، وفي هذا السياق يأتي السؤال الإشكالي: أين نحن من هذا الآن؟ هل ننتمي فعلاً إلى أزمنة التطور، وبناء المجتمع المدني والمديني أم أن المجتمع العربي لا يزال يجرب مشروعه السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي ويدع هامشًا للثقافة كي تجرب بناء موقفها من هذا التجريب؟ إن التجريب في كل مجالاته التي تبني مشاريع حقيقية كان يروّجها العالم الحر بعد أن يكون قد أرفقها بتجريب آخر في بناء مسرح تجريبي ظل يبحث عن أسلوب جديد في التعامل مع هذا المسرح فكان يفكك فنيًا هذه الحضارة، ويبنيها فنيًا بالشكل الذي يرفضها بعد خراب أوروبا - والعالم - بعد الحربين العالميتين اللتين كانتا وراء تغيير شكل التعامل مع الفنون، وشكل إنتاج الأدب، والفكر، ومن هنا كان المسرح التجريبي نبتة شرعية لما يعيشه العالم من صراعات، أما في الوطن العربي ففي العشر سنوات الأخيرة نجده يعيش مخاضات التغيير، ومحاولات الانتقال من مشاريع سياسية إلى بناء مشاريع رؤية جديدة للعالم، لكن اختلاط الحابل بالنابل، وهيمنة الفكر الظلامي على الحلم بالتغيير انعكس سلبًا على الوجود الثقافي في الوطن العربي بشكل ملحوظ لم يسلم فيه المسرح من تعرضه لبعض الانكسارات التي أوقفت مسيرته في بعض الدول. لقد بدأ الزمن المسرحي العربي يكتب تجربته بكل التحديات التي تدفع به إلى تجريب أشكال جديدة في التعبير، وتجريب لغة أخرى في التواصل، وتجريب مواقف أكثر دلالة عن فهم الواقع أثناء ممارسة النقد السياسي بالرمز لأنه يخاف على وجوده من المصادرة، وفقدان الحرية، وهذا هو الجو الذي يحكم مسار التجريب في الوطن العربي وجعله يتحرك بين قطبي الحرية وعدمها. وهذا ما يحدد بوضوح أين نحن الآن، وماذا تركه التجريبيون العرب في عالم المسرح؟

 التجريب وضرورات البحث عن ثقافة التجريب

أين بصمات التجريبيين في المسرح العربي عمومًا؟
إن كل من ركب موجة التجريب، وخاض غماره، بمعرفة موسوعية، أو بمعرفة محدودة كان في الحقيقة يسعى إلى الانخراط في ثلاثة مجالات مختلفة يكون التلاقي بينها ممكنًا مادامت قنوات الحوار قائمة، وما دام المبدع المسرحي التجريبي قادرًا على تسخير معرفته للسير بهذه المجالات نحو أفق التوحد والانسجام، والتماسك الدلالي.
 المجال الأول يمثل المرجعية الغربية في التجريب ومدى تمثّل المجربين لها وقدرتهم على تسخير عناصرها واستثمار نظرياتها بشكل سليم يساعد على الإبداع، ويدعم الإضافة النوعية للنتاجات المسرحية العربية، والمجال الثاني هو التقنيات بكل ما تحمله من وسائل تبرز جمالية بناء العرض بالإنارة، وبالموسيقى، وبالحركات، والرقص، وبناء بلاغة الصور، والمجال الثالث هو المرجعية العربية التاريخية، واللغوية، والتراثية، والاجتماعية التي هي ثقافة المجرب في التجريب. كل هذه المجالات تحدد مستويات التجارب المسرحية في الوطن العربي، قد تتباعد، وقد تتقارب، قد يغيب بعضها بسبب غياب الظروف المساعدة على الاستمرار، وقد تحضر كلها فتعطي مفهومًا للتجريب الذي تتولد عنه في الممارسة والإنتاج المسرحي مستويات المعرفة بأصول اشتغال المسرح. لقد وُجد هذا التجريب في سياقات قد تقبله وتساعده على التبلور والتنامي والتطور، كما أنه وجد في تحقّقه صعوبة في مساقات قد ترفضه حين تسحب منه كل دعم، وهنا تكمن المفارقات التي تحكم هذا التجريب في تجربة المسرح العربي.

 - لماذا اندثر الاهتمام بالقضية الفلسطينية في المسرح إلا عند الفلسطينيين أنفسهم وكأننا نحن العرب لم نعد أصحاب القضية؟
 بدأت القضية الفلسطينية من بدايات الاهتمام بها كقضية عربية إلى الآن، وظهرت المسرحيات التي تناولت القضية بالروايات التي تمت مسرحيتها لتقدم كعروض مسرحية، ثم كتبت الكثير من المسرحيات ذات المضمون الفلسطيني، واعتمد المسرحيون في فلسطين على الانطلاق من محكي الناس لكتابة المشاهد المسرحية، وفي هذا السياق يبقى المسرح المصري رائدًا من رواد الكتابة عن القضية الفلسطينية، مع بعض التجارب الكتابية في بعض الدول العربية، وبالرجوع إلى مساهمة النقد المسرحي في التأريخ للظاهرة نستشف الحضور المائز للقضية، وعندما قمت بتجميع المسرحيات التي كتبت عن موضوع القدس، وفلسطين، وتابعت الكثير من العروض المسرحية ذات الدلالة الفلسطينية أنجزت مصنفًا فيه تحليل، ومقاربة لكل تمثلات القضية وكيف يقدم المسرحيون العرب قضية القدس باعتبارها رمزا دينيًا، وتاريخيا، فيه تعايشت كل الديانات، بعيدًا عن التعصب، والعنصرية، ومسخ التاريخ. الكتاب يحمل عنوان: (مقامات القدس في المسرح العربي)، وفيه ببليوغرافية تضم كل المسرحيات المنشورة في الموضوع، وهذا يدل على أن نبض فلسطين لا يزال ينبض في المسرح الفلسطيني بدلالاته، وما زال ينبض بمعانيه في بعض التجارب المسرحية العربية خارج كل دعوة إلى التطبيع، أو محو الذاكرة الفلسطينية من الذاكرة العربية.

 المقاربات النقدية مكون أساس لفهم المسرح

كيف ترى تطور الحركة النقدية الآن؟ وما موقعها من مسيرة الإبداع؟
لا نتصور حركة نقدية حقيقية إلا بوجود التلقي، وإنتاج خطابات تعكس مستوى المتلقي، وثقافته، وقدرته على إبداع المتن المقروء، لأن ما يحرك هذا المتلقي هو ما يملكه من أدوات إجرائية، ومعرفة بالمناهج، ومعرفة بنظريات الأنواع الأدبية، وإلمامه بالمصطلحات، وقدرته على الفهم والتفسير، التفكيك والتركيب، حتى يصير مع كل قراءة مبدعًا حقيقيًا يعيد للمتن المقروء شاعريته من خلال خطاب التلقي. ومن خلال ما يتحقق من قراءات، وبحوث في مجال النقد، وانتشار نظريات النقد المتعلقة بمختلف الأنواع الأدبية، علاوة على تعريب المراجع الغربية فقد صار هذا النقد يعيش على إيقاع التطور، والفهم، والمعرفة، وتسخير كل ذلك من أجل تطوير فعل القراءة، وهذا ما جعل النقد يحتل موقعًا هامًا في ثقافة القراءة بالتخصص في المجال الذي يشتغل فيه النقد، وما ظهور الكثير من النظريات المتعلقة بفعل التلقي، والمتعلقة بتفكيك بنياته، وتتبع بناء علاماته، إلا إسهاما في تطوير الوعي النقدي العربي.

 هل هذا ما يمكن أن نجد نموذجه في الكتاب الذي أصدرته عن تجربة المسرح المصري؟
هذا الكتاب موسوم ب: (رهانات المسرح المصري: المعنى والسؤال)، وقد تم الاحتفاء به في نقابة اتحاد كتاب مصر تلبية لدعوة الدكتور علاء عبد الهادي رئيس الاتحاد، واعتبر هذا المصنف قراءة مستفيضة للكثير من التجارب المسرحية المصرية التي أسهمت في التنظير، والكتابة النصية، والإخراج المسرحي، وتجريب النظريات الغربية في الإنتاج أو في النقد.
 من خلال قراءة التجارب المسرحية كنت أسعى إلى تتبع ما تتضمنه الخطابات المسرحية وبنياتها وشكل بنائها من تمثلات للعالم، وكيف تحكمت جدلية الواقع في إنتاج الوعي في الكتابة، وكثيرة هي الأسماء التي أرخت لتجاربها، وتابعت تطورها، في الحقيقة أدين للمهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، وللدكتور فوزي فهمي بربط صلاتي بالمسرح حيث جعلني أتابع العروض، وأشارك في الندوات مما عمّق لدى حب الاستزادة من المعرفة بالمسرح التجريبي، كما أن الدكتور جابر عصفور كان حريصا على إشراكي في الندوات العالمية التي كانت تلتئم في المجلس الأعلى للثقافة حول أعلام المسرح المصري ورواده. في هذا الكتاب جمّعت كل محاضراتي، ومداخلتي حول المسرح المصري، ووجدت أنها بقيمتها وتميزها قد صارت موضوع لمقارباتي التي اعتز بها، لأنها لم تكتب عن المسرح المصري من خارج هذا المسرح بل كانت الكتابة تتم من داخل التجارب، والعروض التي شاهدتها وكتبت عنها. إن عشقي للمسرح المصري، وعشرتي الثقافية مع رواده، ونقاده، ومخرجيه، وكتابه المجددين حولني مؤرخا لتجاربهم، وجعلني كاتبًا أكتب عنهم بعد فهمي العميق لرهاناتهم التي تضمنتها نتاجاتهم، ثم أن تنوع التجارب والتجريب في النقد - أيضا - جعلني أولي اهتماما خاصًا بكل ما أجد فيه ما يدفعني إلى الكتابة عن نقاد مصر، لهذا فالبحث عن رهانات المسرح المصري، والبحث عن معانيه وأسئلته هو ما وضعني أمام جديد يجب الكشف عن جديده، ووضعني أمام إنجازات هامة في التجريب المسرحي كلها كانت تحتاج إلى من يقوم بتسليط الأضواء على مكوناتها وهذا ما أنجزته بقراءات كانت تختلف باختلاف السياق والمعنى والخطابات في كتابي.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏